شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب المعانقة وقول الرجل: كيف أصبحت؟

          ░29▒ بَابُ المُعَانَقَةِ، وَقَوْلِ الرَّجُلِ كَيْفَ أَصْبَحْتَ
          فيه ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَنَّ عَلِيَّ بْن أبي طَالِبٍ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلعم في وَجَعِهِ الذي تُوُفِّي فِيهِ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا حَسَنٍ، كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صلعم؟ قَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللهِ بَارِئًا، فَأَخَذَ(1) بِيَدِهِ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: أَلا تَرَاهُ أَنْتَ؟ وَاللهِ بَعْدَ ثَلَاْثٍ عَبْدُ الْعَصَا، وَاللهِ إِنِّي لأرَى رَسُولَ اللهِ صلعم يُتَوَفَّى في وَجَعِهِ، وَإِنِّي لأعْرِفُ في وُجُوهِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْمَوْتَ، فَاذْهَبْ بِنَا إلى رَسُولِ اللهِ صلعم فَنَسْأَلَهُ فِيمَنْ يَكُونُ الأمْرُ، فَإِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ في غَيْرِنَا أَمَرْنَاهُ فَأَوْصَى بِنَا، قَالَ عَلِيٌّ: فوَاللهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللهِ صلعم فَمَنَعْنَاْهَاْ لا يُعْطِينَاهَا النَّاسُ أَبَدًا، وَإِنِّي لا أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللهِ صلعم أَبَدًا). [خ¦6266]
          قال المهلَّب: ترجم هذا الباب بباب المعانقة، ولم يذكرها في الباب، وإنَّما أراد أن يدخل فيه معانقة النبيِّ صلعم للحسن حديث ابن لُكَعٍ الذي(2) ذكره في كتاب البيوع في باب ما ذكر في الأسواق، قال(3) أبو هريرة: ((خرج النبيُّ صلعم(4) في طائفةٍ من النهار لا يكلِّمني حتَّى أتى سوق(5) بني قينقاع، فجلس بفناء بيت فاطمة، فقال: أَثَمَّ لكعٌ، أَثَمَّ لكعٌ، فجاء يشتدُّ حتَّى عانقه وقبَّله....)) الحديث، ولم يجد له سندًا غير السند الذي أدخله به في غير هذا الباب، فمات قبل ذلك، وبقي الباب فارغًا من ذكر المعانقة، وتحته بابٌ آخر: (قَوْلِ الرَّجُلِ كَيْفَ أَصْبَحْتَ)، وأدخل حديث عليٍّ، فلمَّا وجد ناسخ الكتاب الترجمتين متواليتين ظنَّهما واحدةً، إذ لم يجد بينهما حديثًا، وفي كتاب الجهاد من تتابع الأبواب الفارغة مواضع لم يدرك أن يتمَّها بالأحاديث.
          وقد اختلف الناس في المعانقة، فكرهها مالكٌ، وأجازها ابن عيينة، حدَّثنا عبد الوهَّاب بن زياد بن يونس إجازةً، قال: حدَّثنا أبي(6)، قال: حدَّثنا سعيد بن إسحاق، قال: حدَّثنا عليُّ بن يونس الليثيُّ المدنيُّ قال: كنت جالسًا عند مالك بن أنسٍ، إذ جاء سفيان بن عيينة يستأذن الباب، فقال مالكٌ: رجلٌ صاحب سنَّةٍ أدخلوه، فدخل فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فردُّوا السلام، فقال: سلامنا خاصٌّ وعامٌّ، السلام عليك يا أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته، فقال مالكٌ: وعليك السلام يا أبا محمَّدٍ ورحمة الله وبركاته، فصافحه ثمَّ قال: يا أبا محمَّدٍ، لولا أنَّها بدعةٌ لعانقناك، قال سفيان: عانق خيرٌ منك، النَّبيُّ صلعم، قال مالكٌ: جعفر؟ قال: نعم، قال: ذلك حديثٌ خاصٌّ يا أبا محمَّدٍ، قال سفيان: ما يعمُّ جعفر يعمُّنا، وما يخصُّ جعفر يخصُّنا؛ إذ كنَّا صالحين، / أفتأذن لي أن أحدِّث في مجلسك؟ قال: نعم، حدِّثنا يا أبا محمَّدٍ، قال: حدَّثني عبد الله بن طاوسٍ، عن أبيه، عن ابن عبَّاسٍ أنَّه قال: ((لما قدم جعفر من أرض الحبشة اعتنقه النبيُّ صلعم وقبَّل بين عينيه، وقال(7): جعفر أشبه الناس بي خَلقًا وخُلقًا)).
          وروى عبد الرازَّق عن سليمان بن داود قال: رأيت الثوريَّ ومعمرًا حين التقيا احتضنا وقبَّل كلُّ واحدٍ منهما صاحبه.
          وقد وردت في المعانقة آثارٌ ذكر الترمذيُّ عن ابن إسحاق، عن عروة، عن عائشة قالت: ((قدم زيد بن حارثه المدينة ورسول الله صلعم في بيتي، فأتاه فقرع الباب، فقام إليه رسول الله صلعم عريانًا يجرُّ ثوبه، والله ما رأيته عريانًا قبله ولا بعده فاعتنقه وقبَّله)).
          وروى سليمان بن داود، عن عبد الحكم بن منصورٍ، عن عبد الملك بن عميرٍ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي الهيثم بن التَّيِّهان: ((أنَّ النبيَّ صلعم لقيه فاعتنقه وقبَّله)) من حديث قاسم بن أصبغ، عن محمَّد بن غالبٍ، عن سليمان بن داود.
          قال المهلَّب: وفي أخذ العبَّاس بيد عليٍّ جواز المصافحة.
          وفيه: جواز قول الرجل يسأل عن حال العليل: كيف أصبح؟! وإذا جاز أن يقال: كيف أصبح؟! جاز أن يقال: كيف أصبحت؟ ولكن لا يكون هذا إلَّا بعد التحيَّة المأمور بها من السلام.
          وقول العبَّاس: (أَلاَ تَرَاهُ؟ أَنْتَ وَاللهِ بَعْدَ ثَلاَثٍ عَبْدُ العَصَا)؛ يعني بقوله: ألا تراه ميِّتًا، أي: فيه علامة الموت، ثمَّ قال له: (أَنْتَ بَعْدَ ثَلاَثٍ عَبْدُ العَصَا)، فيه: جواز اليمين على ما قام عليه الدليل.
          وفيه: أنَّ الخلافة لم تكن مذكورةً بعد النبيِّ صلعم لعليٍّ أصلًا؛ لأنَّه قد حلف العبَّاس أنَّه مأمورٌ لا آمرٌ، لما كان يعرف من توجيه النبيِّ صلعم بها إلى غيره، وفي سكوت عليٍّ على ما قال العبَّاس وحلف عليه دليلٌ على علم عليٍّ بما قال العبَّاس أنَّه مأمورٌ من غيره، وما خشيه عليٌّ من أن يصرِّح النبيُّ صلعم بصرف الخلافة إلى غير بني عبد المطَّلب فلا يمكِّنهم أحدٌ بعده منها ليس كما ظنَّ، والله أعلم، لأنَّ النبيَّ صلعم قد قال: ((مروا أبا بكرٍ يصلِّي بالناس))، فقيل له: لو أمرت عمر. فلم ير ذلك، ومنع عمر من التقديم، فلم يكن ذلك محرِّمَها على عمر بعد.


[1] في (ص): ((فأخذه)).
[2] قوله: ((الذي)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((وقال)).
[4] في (ص): ((رسول الله)).
[5] في (ص): ((حتى إنا بسوق)).
[6] قوله: ((قال حدثنا أبي)) زيادة من (ص).
[7] في (ص): ((فقال)).