شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: السلام اسم من أسماء الله تعالى

          ░3▒ بَابٌ: السَّلاَمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى
          وقوله الله ╡: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}[النساء:86].
          فيه عَبْدُ اللهِ قَالَ: (كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا مَعَ النَّبيِّ صلعم قُلْنَا: السَّلامُ على اللهِ قَبْلَ عِبَادِهِ، السَّلامُ على جِبْرِيلَ، السَّلامُ على مِيكَائِيلَ، السَّلامُ على فُلانٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبيُّ صلعم أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلامُ....) الحديث. [خ¦6230]
          قال المؤلِّف: مصداق هذا الحديث في قول الله ╡: {الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ}[الحشر:23]والأسماء إنَّما تؤخذ توقيفًا من الكتاب والسنَّة، ولا يجوز أن يسمَّى الله ╡ بغير ما سمَّى به نفسه، ولمَّا كان السلام من أسماء الله ╡ لم يجز أن يقال: (السَّلامُ على الله ╡)، وجاز أن يقال: السلام عليكم، لأنَّ معناه: الله عليكم.
          والعلماء مجمعون أنَّ الابتداء بالسلام سنَّةٌ مرغَّبٌ فيها، وردَّه فريضةٌ لقوله تعالى: {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}[النساء:86]ومن الدليل أنَّ الابتداء به سنَّةٌ قوله ◙ في المتهاجرين: ((وخيرهم الذي يبدأ بالسلام))، وذهب مالكٌ والشافعيُّ إلى أنَّه إذا سلَّم رجلٌ على جماعةٍ فردَّ عليه واحدٌ منهم أجزأ عنهم، ودخل في معنى قوله ╡: {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}[النساء:86]لأنَّه قد ردَّ عليه مثل قوله، وشبَّهوه بتشميت العاطس، وقالوا: هو من فروض الكفاية كالجهاد وطلب العلم ودفن الموتى وصلاة الجمعة، يقوم بها البعض، ولا يحلُّ الإجماع على تضييعها.
          وروى مالكٌ عن زيد بن أسلم: ((أنَّ النبي صلعم قال: إذا سلَّم واحدٌ من القوم أجزأ عنهم)).
          وروى أبو داود عن عليِّ بن أبي طالبٍ مثله، وقال: يجزئ من الجماعة إذا مرُّوا أن يسلِّم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يردَّ أحدهم.
          وذهب الكوفيُّون إلى أنَّ ردَّ السلام من الفروض المتعيِّنة على كلِّ إنسانٍ بعينه، ولا ينوب فيها غيره.
          قالوا: والسلام خلاف ردِّ السلام؛ لأنَّ الابتداء به تطوُّعٌ وردَّه فريضةٌ، ولو ردَّ غير المسلَّم عليهم لم يسقط ذلك عنهم فرض الردِّ، فدلَّ أنَّ السلام يلزم كلَّ إنسانٍ بعينه.
          وأنكر أبو يوسف مرسل مالكٍ، وردَّ عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا: قد يكون من السنن ما يسدُّ مسدَّ الفرائض كغسل الجمعة يجزئ عن غسل الجنابة _عند جماعةٍ من العلماء_ وكغسل اليدين قبل الوضوء يجزئ عن(1) غسلهما مع الذراعين في الوضوء في قول عطاءٍ.
          وقولهم: لو ردَّ غير المُسَلَّم عليهم لم يجزِ، فكذلك نقول وإنَّما يجزئ أن يردَّ واحدٌ ممَّن سُلِّم عليهم لقوله تعالى: {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}[النساء:86]فإنَّما أمر الله تعالى بالردِّ المسلَّم عليهم لا غيرهم، ألا ترى لو(2) أنَّ العدوَّ حلَّ ببلده فلم يقاتلهم أهلها المسلمون وقاتل عنهم قومٌ من أهل الكتاب ما سقط الفرض عنهم، فكذلك إذا ردَّ على المسلم من لم يُسلَّم عليه، لم يجزِ عن الرادِّين فحكم السلام حكم الردِّ؛ لأنَّ الردَّ سلامٌ عند العرب.
          وقد قال صلعم: ((يسلِّم القليل على الكثير))، ولمَّا أجمعوا أنَّ الواحد يسلِّم على الجماعة، ولا يحتاج إلى تكريره على عدد الجماعة، كذلك يردُّ الواحد من الجماعة على الواحد، وينوب عن الباقين، وإنكارهم لمرسل مالكٍ لا وجه له؛ لأنَّهم لا مسند عندهم في قولهم ولا مرسل، فالمصير إلى المرسل أولى من المصير إلى رأيٍ يعارض بمثله.


[1] في (ز): ((من)) والمثبت من المطبوع.
[2] قوله: ((لو)) زيادة من المطبوع.