عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب صيام أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة
  
              

          ░60▒ (ص) بَابُ صِيَامِ أَيَّامِ الْبِيضِ؛ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان فضل صيام أيَّام البيض، وهي الأيَّام التي لياليهنَّ مقمراتٌ لا ظلمةَ فيها، وهي الثلاثة المذكورة؛ ليلة البدر، وما قبلها، وما بعدها، و(البِيضُ) بكسر الباء، جمع (أبيض) أضيفت إليها (الأيَّام) تقديره: أيَّام الليالي البيض، وقيل: المراد بـ«البيض»: الليالي؛ وهي التي يكون القمر فيها مِن أَوَّل اللَّيل إلى آخره، حَتَّى قال الجواليقيُّ: مَن قال: «الأيام البِيض»، فجعلَ «البيضَ» صفةَ «الأيَّام»؛ فقد أخطأ، قال بعضهم: فيه نظرٌ؛ لأنَّ «اليومَ» الكامل هو النهار بليلته، وليس في الشهر يومٌ أبيضُ كلُّه إلَّا هذه الأيَّام؛ لأنَّ ليلَها أبيضُ ونهارها أبيضُ، فصحَّ قول: «الأيَّامُ البيضُ» على الوصف انتهى.
          قُلْت: هذا كلامٌ واهٍ، وتصرُّفٌ غيرُ مُوَجَّهٍ؛ لأنَّ قوله: (لأنَّ اليومَ الكاملَ هو النهارُ بليلته) غيرُ صحيح؛ لأنَّ (اليومَ الكاملَ هو النهار) في اللُّغة: عبارةٌ من طلوعِ الشمس إلى غروبها، وفي الشرع: مِن طلوع الفجر الصادقِ، وليس لليلةٍ دخلٌ في حدِّ النهار، قوله: و(نهارها أبيض) يقتضي أنَّ بياضَ نهارِ الأيَّام البيض مِن بياض الليلة، وليس كذلك؛ لأنَّ بياض الأيَّام كلِّها بالذات، وأيَّام الشهر كلُّها بيضٌ، فسقط قوله: (وليسَ في الشهر يومٌ أبيضٌ كلُّه إلَّا هذه الأيَّام) وهل يقال ليومٍ مِن أيَّامِ الشهر غير أيَّام البيض: هذا يومٌ بياضُه غيرُ كاملٍ، أو يقال: هذا كلُّه ليس بأبيضَ، أو يقال: بعضُه أبيضُ؟ فبطل قوله، فصحَّ قولُ الأيَّام البيضُ على الوصف، والقول ما قالَه الجواليقيُّ،
إذا قالت حذام فصدِّقوها........
          ثُمَّ سببُ التسمية بـ(أيَّام البيض) ما رُوِيَ عن ابنِ عَبَّاس أنَّهُ قال: إنَّما سَمَّى أيَّام البيض؛ لأنَّ آدم ◙ لمَّا أُهْبِطَ إلى الأرض أحرقته الشمسُ، فاسودَّ، فأوحى الله تعالى إليه: أن صُمْ أيَّامَ البيض، فصام أَوَّل يومٍ، فابيضَّ ثلثُ جسده، فلمَّا صام اليومَ الثاني ابيضَّ ثُلُثَا جسده، فلمَّا صام اليومَ الثالثَ ابيضَّ جسدُه كلُّه، وقيل: سُمُّيَتْ بذلك لأنَّ ليالي أيَّامِ البيض مقمرةٌ، ولم يزلِ القمر من غروب الشمس إلى طلوعها في الدنيا، فتصير الليالي والأيُّام كلُّها بيضًا.
          قوله: (ثَلَاثَ عَشَرَةَ وَأَرْبَعَ عَشَرَةَ وَخَمْسَ عَشَرَةَ) كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية الكُشْميهَنيِّ: <صيام أيَّام البيض: ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر> وذلك باعتبار (الأيَّام)، والأَوَّل باعتبار (اللَّيالي).
          فَإِنْ قُلْتَ: كيف عيَّن (الثالث عشر) مِنَ الشهرِ و(الرابع عشر) و(الخامس عشر)، والحديث الذي ذكره في الباب ليس فيه التعيين بذلك؟
          قُلْت: جرت عادتُه في الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث وإن لم يكن على شرطه، فقد روى القاضي يوسف بن إسماعيلَ في «كتاب الصيام»: حَدَّثَنَا عثمانُ ابن أبي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا حسين بن عليٍّ عن زائدة بن قُدَامة، عن حكيم بن جبير، عن موسى بن طلحة قال: قال عُمَر بن الخَطَّاب ☺ لأبي ذرٍّ وعمَّار وأبي الدَّرْدَاء، ♥ : أتذكرون يومَ كنَّا مع رسولِ الله صلعم بمكان كذا وكذا، فأتاه رجلٌ بأرنب، فقال: يا رسول الله؛ إنِّي رأيتُ بها دمًا، فأمرَنا فأكلنا ولم يأكل؟ قالوا: نعم، ثُمَّ قال له: ادنُه فاطْعَم، قال: «إنِّي صائم»، قال: أيُّ صومٍ؟ قال: «صوم ثلاثة أيَّام من كلِّ شهر، أوَّله وآخره، وكما تيسَّر عليَّ» فقال عمر ☺ : هل تدرون ما الذي أمر به رسول الله صلعم ؟ / [قالوا: نعم؛ يصومُ ثلاثَ عشرة، وأربعَ عشرة، وخمسَ عشرة، قال عمر ☺ : هكذا قال رسول الله صلعم ]، وحكيمُ بنُ جُبَير ضعَّفه الجمهور، وموسى بن طلحة عن عمرَ مُرسلٌ، قاله أبو زُرْعَةَ، وبينهما ابنُ الحوتكيَّة.
          وأصلُ الحديثِ عند النَّسائيِّ في (كتاب الصَّيد) وليس فيه ذكرٌ لعمَّارٍ وأبي الدَّرْدَاء، رواه مِن طريق حكيم بن جُبَير وعمرو بن عثمان ومُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن عن موسى بن طلحة عنِ ابن الحوتكيَّة قال: قال عمرُ ☺ : مَن حاضرُنا يومَ القاحَةِ؟ قال أبو الدَّرْدَاء...؛ فذكر الحديث، وفيه: قالَ: فأين أنتَ عن البيض الغرِّ؛ ثلاثَ عشرةَ، وأربعَ عشرةَ، وخمسَ عشرةَ...؟ و(ابن الحوتكيَّة) سمَّاه بعضُهم يزيدَ، وقال ابنُ أبي حاتم في «الجرح والتعديل»: وما سمَّاه أحدٌ إلَّا الحَجَّاج بن أرطاَة عن عثمان بن عبد الله بن مَوْهَبٍ، عن موسى بن طلحةَ، عن يزيدَ بن الحوتكيَّة، و(الْقَاحَةُ) بالقاف وتخفيف الحاء المُهْمَلة، مكانٌ مِنَ المدينة، على ثلاث مراحلَ.
          وروى النَّسائيُّ مِن رواية زيد بن أبي أُنَيسةَ عن أبي إسحاقَ، عن جَرير بن عبد الله ☺ ، عنِ النَّبِيِّ صلعم قالَ: «صيامُ ثلاثة أيَّامٍ من كلِّ شهرٍ صيامُ الدَّهر، وأيَّامُ البيض [صبيحةَ ثلاثَ عشرةَ، وأربعَ عشرةَ، وخمسَ عشرةَ» وإسنادُه صحيحٌ، وفي رواية: (أيَّام البيض) ] بغير واوٍ، ورُوِيَ: (أيَّامُ البيضِ صبيحةُ) بالرَّفع فيهما، ورُوِيَ بالجرِّ فيهما، حكاه صاحب «المُفهِم»، وروى ابنُ ماجه: حَدَّثَنَا أبو بَكْر [ابن أبي شَيْبَةَ قالَ: حَدَّثَنَا يزيدُ بنُ هارونَ قالَ: أخبرنا شعبة عن أنس بن سِيرِين، عن عبد الملكِ] بن المِنْهَال، عن أبيه، عن رسول الله صلعم أنَّهُ كانَ يأمرُ بصيام أيَّام البيض؛ ثلاثَ عشرةَ، وأربعَ عشرةَ، وخمسَ عشرةَ، ويقول: «هو كصوم الدَّهر، أو كهيئة صوم الدهر»، وروى أيضًا: حَدَّثَنَا إسحاق بن منصور قال: حَدَّثَنَا حَبَّانُ بنُ هلال قال: حَدَّثَنَا هَمَّام عن أنس بن سِيرِين قال: حدَّثني عبد الملك بن قتادة بن ملحان [القيسيُّ، عن أبيه، عن النَّبِيِّ صلعم ] نحوه، ورواه النَّسائيُّ إلَّا أنَّهُ قالَ: قُدَامة بن ملحانَ [قالَ: كانَ رسولُ الله صلعم ] يأمرنا بالصيام أيَّام اللَّيالي الغرِّ البيض؛ ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، ورواه أبو داود، إلَّا أنَّهُ قال: عن أنس، عن ابن ملحان القيسيِّ، عن أبيه...؛ فذكره ولم يُسمِّه، وقال الحافظ المِزِّيُّ تبعًا للحافظ ابنِ عساكر: ويشبه أن يكون ابنُ كثير _أي: شيخ أبي داود_ نسبه إلى جدِّه، وقالَ الحافظ أبو الحسن عليُّ بنُ المفضَّل المقدسيُّ: قيل: إنَّهُ ملحانُ بن شِبْل البكريُّ، والد عبد الملك بن ملحان، ذكره ابنُ عبد البرِّ في «الصحابة»، قال: وقيل: بل هو قتادةُ بنُ ملحان والد عبد الملك بن قتادة بن ملحان، ولقتادة هذا صحبةٌ فيما ذكره ابنُ أبي حاتمٍ، ولم يذكر أباه في كتابه، ولا أبو القاسم البغويُّ في «معجم الصحابة»، قال: وذكرهما _أعني: قتادة وملحان_ أبو عُمَر بن عبد البرِّ في «الاستيعاب».
          فَإِنْ قُلْتَ: روى النَّسائيُّ بإسنادٍ صحيحٍ مِن رواية سعيد بن أبي هند أنَّ مُطرِّفًا حدَّثه: أنَّ عثمان بن أبي العاص قال: سمعت رسول الله صلعم يقول: «صيامٌ حسنٌ؛ ثلاثة أيَّام مِن كلِّ شهر»، وأخرجه ابن حِبَّان أيضًا في «صحيحه»، وهذا لم يعيِّن فيه أيَّامًا معيَّنة، وروى النَّسائيُّ أيضًا من حديث حفصة ♦ قالت: [أربعٌ لم يكن يدعهنَّ النَّبِيُّ صلعم ؛ صيام عاشوراء، وأَوَّل العشر، وثلاثة أيَّام من كلِّ شهر، وركعتين قبل الغداة، وروى أبو داود من حديث حفصةَ قالت]: كانَ رسول الله صلعم يصوم ثلاثةَ أيَّام من الشهر؛ الاثنين، والخميس، والاثنين مِنَ الجمعة الأخرى، وهذا فيه غير أيَّام البيض.
          وروى أبو داود والنَّسائيُّ من رواية الحسن بن عُبَيد الله عن هُنَيدةَ الخُزَاعِيِّ عن أمِّه قالت: دخلت على أمِّ سلمة ♦، فسألتها عن الصِّيام؟ فقالت: كان رسول الله صلعم يأمرني أن أصوم ثلاثة أيَّامٍ مِن كلِّ شهر؛ أوَّلها الاثنين والخميس، و(الخميس) لفظُ أبي داود، وقال النَّسائيُّ: يأمر بصيام ثلاثة أيَّام؛ أَوَّل خميسٍ، والاثنين، والاثنين، وقد رواه أبو داودَ والنَّسائيُّ / من رواية الحرِّ بن الصَّبَّاح عن هُنَيدةَ، عنِ امرأته، عن بعضِ أزواج النَّبِيِّ صلعم غير مسمَّاة، وروى ابنُ عَدِيٍّ في «الكامل» من حديث أبي الدَّرْدَاء قال: أوصاني رسول الله صلعم بغسل يوم الجمعة، وركعتي الضُّحى، ونوم على وترٍ، وصيام ثلاثة أيَّامٍ من كلِّ شهر، وروى يوسف القاضي في «كتاب الصيام» من حديث عليٍّ ☺ : أنَّ رسول الله صلعم قال: «صوم شهر الصبر، وثلاثة أيَّام من كلِّ شهر صومُ الدَّهر، ويذهب بوحر الصَّدر»، و(الوحَر) بفتح الحاء المُهْمَلة: الغلُّ، وروى الطبرانيُّ في «المعجم الكبير» من حديث النَّمِر بنِ تَوْلَب مِن حديث الجُرَيْريِّ عن أبي العلاء قال: كنَّا بالمربد، فأتانا أعرابيٌّ ومعه قطعة أديمٍ، فقال: انظروا ما فيها، فإذا كتابٌ من رسول الله صلعم ، وفيه: فقلت أنت سمعت هذا مِن رسول الله صلعم ؟ قال: نعم، وسمعته يقول: «صوم شهر الصَّبرِ وثلاثةِ أيَّامٍ منَ الشهر يُذهِبْن وَغْرَ الصدر»، وفيه: فسألتُ عنه، فقيل: هذا نمِرُ بنُ تَوْلَب، وأصلُ الحديث رواه أبو داودَ والتِّرْمِذيُّ، وليست فيه قصَّةُ الصيام، ولم يُسَمِّ فيه الصَّحابيَّ، و(الوغْرُ) بالتسكين: الضغن والعداوة، وبالتحريك: المصدرُ.
          قُلْت: هو بالغين المُعْجَمة، وأصله مِنَ (الوغرة) وهي شدَّةُ الحرِّ، وروى أَبُو نُعَيْم في «الحلية» مِن حديث جابرٍ ☺ قال: خرج علينا رسولُ الله صلعم ، فقال: «ألا أخبركم بِغُرَفِ الجنَّة...» الحديث، وفيه: فقلنا: لمَن تلك؟ فقالَ: «لمن أفشى السلام، وأدام الصيام...» الحديث، وفيه: «مَن صامَ رمضانَ ومِن كلِّ شهر ثلاثةَ أيَّامٍ؛ فقد أدامَ الصيام».
          قُلْت: التوفيق بين هذه الأحاديث أنَّ كلَّ مَن رأى النَّبِيَّ صلعم فعل نوعًا ذكرَه، وكانت عائشة ♦ رأت منه جميعَ ذلك؛ فلذلك أطلقت فيما رواه مسلمٌ مِن حديثها أنَّها قالت: كانَ رسول الله صلعم يصوم من كلِّ شهرٍ ثلاثةَ أيَّامٍ، ما يبالي مِن أيِّ الشهر صامَ، والذي أمر به وحثَّ عليه ووصَّى به، ورُوِيَ بذلك عن جماعةٍ مِن الصحابة ♥ عن النَّبِيِّ صلعم ، على ما نذكره، فهو أولى مِن غيره، وأَمَّا النَّبِيُّ صلعم ؛ فلعلَّه كان يعرض له ما يشغله عن مراعاة ذلك، أو كان يفعل ذلك لبيانِ الجواز.
          فَإِنْ قُلْتَ: أيُّ الفَضْلَين يترجَّح؟
          قُلْت: أيَّام البيض؛ لكونها وسطَ الشهر، ووسطُ الشهر أعدلُه، ولأنَّ الكسوف غالبًا يقع فيها، فإذا اتَّفق الكسوف صادفَ الذي يعتادُ صيامَ البيض صائمًا، فيتهيَّأ أن يجمعَ بينَ أنواع العباداتِ؛ مِن الصيام والصلاة والصدقة، بخلافِ مَن لم يصمها، فَإِنَّهُ لا يتهيَّأ له استدراكُ صيامِها.
          فَإِنْ قُلْتَ: قال القاضي أبو بَكْر بنُ العربيِّ: ثلاثة أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ صحيح، وقال القاضي أبو الوليد الباجيُّ في صيام البيض: قد رُوِيَ في إباحةِ تعمُّدها بالصوم أحاديثُ لا تثبت.
          قُلْت: بل في التعيين أحاديثُ صحيحةٌ:
          منها: حديثُ جريرٍ، فهو صحيحٌ لا اختلافَ فيه، وقد ذكرناه عن قريب، وقد صحَّحه من المالكيَّة أبو العَبَّاس القرطبيُّ في «المفهم»، وفيه تعيينُ البيضِ.
          ومنها: حديث قرَّة بن إياسِ المزنيُّ، فهو صحيحٌ أيضًا لا اختلاف فيه، رواه الطبرانيُّ في «الكبير» قالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن مُحَمَّد التَّمَّار البصريُّ: حَدَّثَنَا أبو الوليد الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شعبة عن معاوية بن قُرَّةَ عن أبيه قال: قال رسولُ الله صلعم : «صيام البيض صيام الدهر وإفطاره»، و(قرَّة) هو ابن إياس بن هلال بن رِئَاب المزنيُّ، ورواه ابن حِبَّان في «صحيحه»، ولكن ليس عنده تعيينُ البيضِ، وصحَّح ابنُ حِبَّان أيضًا حديثَ أبي هريرةَ وحديث أبي ذرٍّ وحديث عبد الملك بن مِنهالٍ عن أبيه في تعيين الأيَّام البيض، وصحَّح أيضًا حديث ابن مسعود في تعيين غرَّة الشهر.
          فحديثُ أبي هُرَيْرَة أخرجه الإمامُ أبو مُحَمَّد عبدُ الله بن عطاء الإبراهيميُّ من حديث يونس بن يعقوب، عن / أبيه، عن أبي صادق، عن أبي هُرَيْرَة: أوصاني خليلي بثلاثٍ؛ الوتر قبل أن أنام، وأصلِّي الضُّحى ركعتين، وصوم ثلاثة أيَّامٍ من كلِّ شهرٍ؛ ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة؛ وهي البيض.
          وحديث أبي ذرٍّ رواه التِّرْمِذيُّ من حديث موسى بن طلحة قال: سمعت أبا ذرٍّ يقول: قال رسول الله صلعم : «يا أبا ذرٍّ؛ إذا صمتَ مِنَ الشهر ثلاثةَ أيَّامٍ؛ فصم ثلاثَ عشرةَ، وأربعَ عشرةَ، وخمسَ عشرةَ»، وقال: حديث أبي ذرٍّ حديثٌ حسنٌ، ورواه النَّسائيُّ وابن ماجه أيضًا، وحديث عبد الملك بن منهال قد مرَّ عن قريبٍ.
          وأَمَّا حكم المسألة فقد حكى النَّوَوِيُّ في «شرح مسلم» الاتِّفاقَ على استحباب صيام الأيَّام البيض؛ وهي الثالثَ عشرَ، والرابعَ عشرَ، والخامسَ عشرَ، قال: وقيل: هي الثاني عشر، والثالثِ عشرِ، والرابع عشر، وقال شيخنُا زينُ الدين: وفيما حكاه مِنَ الاتِّفاقَ نظرٌ، فقد روى ابنُ القاسم عن مالك في «المجموعة» أنَّهُ سُئِلَ عن صيام أيَّام الغرِّ؛ ثلاثَ عشرةَ، وأربعَ عشرةَ، وخمس عشرة؟ فقال: ما هذا ببلدنا، وكرِه تعمُّد صومِها، وقال: الأيَّام كلُّها لله ╡ ، وقال ابنُ وهب: وإنَّه لَعظيمٌ أن يجعل على نفسه شيئًا كالفرض، ولكن يصومُ إذا شاء، قال: واستحبَّ ابن حبيب صومَها، وقال: أراها صيامَ الدهر، وقال ابنُ حبيب: كان أبو الدَّرْدَاء يصوم مِن كلِّ شهرٍ ثلاثة أيَّام؛ أَوَّل يومٍ، ويوم العاشر، ويوم العشرين، ويقول: هو صيامُ الدَّهرِ، كلُّ حسنة بعشر أمثالها.
          وقال شيخنا: وحاصلُ الخلاف: أنَّ في المسألة تسعةَ أقوالٍ:
          أحدها: استحبابُ صوم ثلاثة أيَّامٍ مِنَ الشهر غير معيَّنةٍ، فأَمَّا تعيينها فمكروه، وهو المعروف مِن مذهب مالكٍ، حكاه القرطبيُّ.
          الثاني: استحبابُ الثالثَ عشرَ، والرابعَ عشرَ، والخامسَ عشرَ، وهو قولُ أكثر أهل العلم، وبه قال عُمَر بن الخَطَّاب وعبد الله بن مسعود وأبو ذرٍّ، وآخرون من التَّابِعينَ، والشَّافِعِيُّ وأصحابه، وابن حبيبٍ مِنَ المالكيَّة، وأبو حنيفة وصاحباه، وأحمدُ وإسحاقُ.
          والثالث: استحبابُ الثاني عشرَ، والثالثَ عشرَ، والرابعَ عشرَ، حُكِيَ ذلك عن قومٍ.
          الرابع: استحباب ثلاثةٍ مِن أَوَّل الشهر، وبه قال الحسن البصريُّ.
          الخامس: استحبابُ السَّبتِ والأحد والاثنين مِن أَوَّل شهرٍ، ثُمَّ الثلاثاء والأربعاء والخميس مِن أَوَّل الشهر الذي بعدَه، وهو اختيار عائشة ♦ في آخَرين.
          والسَّادس: استحبابُها مِن آخر الشهر، وهو قولُ إبراهيم النَّخَعِيِّ.
          والسَّابع: استحبابُها في الاثنين والخميس.
          والثَّامن: استحبابُ أَوَّلِ يومٍ مِنَ الشهر والعاشرِ والعشرين، ورُوِيَ ذلك عن أبي الدرداء.
          والتَّاسع: استحبابُ أَوَّل يومٍ والحادي عشر والعشرين، وهو اختيار أبي إسحاق ابن شعبان مِنَ المالكيَّة.