عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب اغتسال الصائم
  
              

          ░25▒ (ص) بَابُ اغْتِسَالِ الصَّائِمِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان حكمِ الاغتسال للصائم، وهو جوازُه، قيل: إِنَّما أطلقَ الاغتسالَ ليشمل جميعَ أنواعه؛ مِنَ الفرض والسُّنَّةِ وغيرهما، وقالَ بعضُهم: (وكأنَّه يشير إلى ضعف ما رويَ عن عليٍّ ☺ مِنَ النَّهي عن دخول الصائم الحمَّامَ، أخرجه عبد الرَّزَّاق، وفي إسناده ضعفٌ، واعتمده الحَنَفيَّةُ، فكرهوا الاغتسالَ للصائم) انتهى.
          قُلْت: قوله: (كأنَّه يشيرٌ) كلامٌ كادَ أن يكون عبثًا؛ لأنَّه لا يصحُّ أن يرادَ بالإشارةِ معناها اللَّغويُّ، ولا معناها الاصطلاحيُّ، وقوله: (واعتمدَه الحَنَفيَّة) غيرُ صحيحٍ على إطلاقه؛ لأنَّ قولَه: (كرهوا الاغتسال للصائم) روايةٌ عن أبي حنيفة [غيرُ مُعتَمَدٍ عليها، والمذهبُ المختارُ أنَّهُ لا يُكرَه، ذكره الحسنُ عن أبي حنيفة]، نبَّه عليه صاحبُ«الواقعات»، وذكر في«الروضة» و«جوامع الفقه»: لا يُكرَهُ الاغتسالُ، وبلُّ الثَّوب، وصبُّ الماء على الرأس للحَرِّ، وروى أبو داودَ بسندٍ صحيحٍ عن أبي بَكْر بن عبد الرَّحْمَن عن بعض أصحاب النَّبِيِّ صلعم قال: (لقد رأيت النَّبِيَّ صلعم بالعَرْجِ يصبُّ على رأسه الماءَ وهو صائمٌ مِنَ الحرِّ، أو مِنَ العطش)، وفي«المُصنَّف»: حَدَّثَنَا أزهرُ عن ابنِ عونٍ: (كان ابن سِيرِين لا يرى بأسًا أن يبلَّ الثوبَ، ثُمَّ يُلقيه على وجهه)، وحدَّثنا يحيى ابنُ سعيدٍ عن عثمان بن أبي العاص: (أنَّهُ كان يصبُّ عليه الماء، ويروِّحُ عنه وهو صائم).
          (ص) وبَلَّ ابنُ عُمَرَ ☻ ثَوْبًا، فألْقَاهُ / عَلَيْهِ وهُوَ صَائِمٌ.
          (ش) مطابقته للترجمة ظاهرةٌ؛ لأنَّ الثوبَ المبلولَ إذا أُلقِيَ على البدن بلَّ البدنَ، فيُشبِهُ البدن الذي سُكِبَ عليه الماءُ.
          قوله: (فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ) رواية الكُشْميهَنيِّ، وفي رواية غيره: <فَأُلْقِيَ عليه> على صيغة المجهول، فكأنَّه أمرَ غيرَه، وألقاه عليه.
          قوله: (وَهُوَ صَائِمٌ) جملة وقعت حالًا.
          هذا التعليقُ رواه ابنُ أبي شَيْبَةَ عن يحيى بنِ سعيدٍ عن عبد الله بن أبي عثمانَ قال: (رأيت ابن عمرَ يبلُّ الثوبَ، ثُمَّ يُلقيه عليه)، وقال بعضُهم: وأراد البُخَاريُّ بأثَرِ ابنِ عمر هذا معارضةَ ما جاء عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ بأقوى منه، فإنَّ وكيعًا روى عنِ الحسن بن صالح عن مغيرةَ عنه: (أنَّهُ كان يكره للصائم بلَّ الثياب).
          قُلْت: هذا كلامٌ صادرٌ مِن غير تأمُّلٍ، فإنَّه اعترف أنَّ الذي رواه إبراهيمُ أقوى مِنَ الذي ذكره البُخَاريُّ مُعلَّقًا، فكيف تصحُّ المعارضةُ حينئذٍ؟! بل الذي يقال: إنَّهُ أرادَ به الإشارةَ إلى ما روي عن ابنِ عمر مِن فعله ذلك؛ فافهم.
          (ص) ودَخَلَ الشَّعْبِيُّ الحَمَّامَ وهُوَ صَائِمٌ.
          (ش) مطابقته للترجمة ظاهرةٌ.
          و(الشَّعْبِيُّ) هو عامرُ بنُ شَرَاحيلَ، ووصل هذا التعليقَ ابنُ أبي شَيْبَةَ عن الأحوصِ عن أبي إسحاقَ قال: (رأيتُ الشعبيَّ يدخل الحمَّام وهو صائمٌ).
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لا بَأسَ أنْ يتَطَعَّمَ الْقِدْرَ أوِ الشَّيءَ.
          (ش) مطابقته للترجمة مِن حيثُ إنَّ التَّطعُّمَ مِنَ الشيء _الذي هو إدخالُ الطعامِ في الفم مِن غير بلعٍ_ لا يضرُّ الصومَ، فإيصالُ الماء إلى البشرة بالطريق الأولى ألَّا يضرَّ.
          وهذا التعليقُ وصلَه ابنُ أبي شَيْبَةَ من طريق عِكْرِمَةَ عنه بلفظ: (لا بأسَ أن يتطاعمَ القِدر) ورواه البَيْهَقيُّ عن العُمَريِّ: أنبأنا عبد الله الشُّرَيحيُّ: أنبأنا أبو القاسم البَغَويُّ: حَدَّثَنَا عليُّ بن الجَعْد عن شَريك، عن سُلَيمانَ، عن عِكْرِمَة، عن ابنِ عَبَّاس ولفظه: (لا بأسَ أن يتطاعمَ الصائمُ بالشيء) يعني: المرقةَ ونحوَها.
          قوله: (أَنْ يَتَطَعَّمَ الْقِدْرَ) بكسرِ القافِ، وهو الظَّرفُ الذي يُطبَخَ فيه الطعام، والتقدير: مِن طعامِ القِدر، وأراد بقوله: (أَوِ الشَّيءَ) أيَّ شيءٍ كانَ مِنَ المطعوماتِ، وهو مِن عَطْفِ العَامِّ عَلَى الخَاصِّ، وقال ابن أبي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وكيعٌ عن إسرائيلَ، عن جابرٍ، عن عطاء عنه قال: (لا بأسَ أن يذوقَ الخلَّ أو الشيء ما لم يدخل حلقَه وهو صائمٌ)، وعن الحسن: (لا بأس أن [يتطاعمَ الصائمُ العسلَ والسَّمنَ ونحوَه ويمجَّه)، وعن مجاهدٍ وعطاءٍ: (لا بأسَ أن] يتطعَّمَ الطعامَ مِن القدرِ) وعن الحكم نحوه، وفعلَه عروةُ، وفي«التوضيح»: وعندنا يُستحَبُّ له أن يحترزَ عن ذوق الطعامِ؛ خوفَ الوصول إلى حلقه، وقال الكوفيُّون: إذا لم يدخل حلقَه لا يفطر، وصومُه تامٌّ، وهو قول الأوزاعيِّ، وقال مالكٌ: أكرهه، ولا يفطره إن لم يدخل حلقَه، وهو مثلُ قولِنا، وقال ابن عَبَّاس: لا بأسَ أن تمضغَ الصائمةُ لصبيِّها الطعامَ، وهو قول الحسن البصريِّ والنَّخَعيِّ، وكرهه مالكٌ والثَّوْريُّ والكوفيُّون إلَّا لمَن لم يجد بُدًّا مِن ذلك، وبه صرَّح أصحابُنا، وفي«المحيط»: ويُكرَه الذوقُ للصَّائم، ولا يفطره.
          وفيه: لا بأسَ بأن يذوقَ الصائمُ العسلَ أوِ الطَّعامَ ليشتريه ليعرف جيِّدَه ورديئَه؛ كي لا يغبن فيه متى لم يذقه، وهو المرويُّ عن الحسن البصريِّ، ولا بأسَ للمرأة أن تمضغَ الطَّعامَ لصبيِّها إذا لم تجد منه بدًّا.
          (ص) وَقَالَ الحَسَنُ: لَا بأسَ بالمَضْمَضَةِ والتَّبَرُّدِ لِلصَّائِمِ.
          (ش) مطابقته للترجمة من حيثُ إنَّ المضمضةَ جزءٌ للغسلِ.
          وقال بعضهم: وهذا التعليقُ وصله عبد الرزَّاق بمعناه.
          قُلْت: لم يبيِّن ذلك، بل روى عنه ابنُ أبي شَيْبَةَ خلافَ ذلك، فقال: حدَّثنا عبدُ الأعلى عن هشام عن الحسن: (أنَّهُ كان يكره أن يُمضمض الرجلُ إذا أفطرَ وإذا أرادَ أن يشربَ).
          قوله: (وَالتَّبَرُّدِ) أعمُّ مِن أن يكونَ في سائر جسده أو في بعضِه؛ مثل ما إذا تبرَّدَ بالماء على وجهه، أو على رجليه.
          (ص) وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: إذَا كانَ صَوْمُ أحَدِكُمْ؛ فَلْيْصْبحْ دَهِينًا مُتَرَجِّلًا.
          (ش) ذُكِرَ في وجه مطابقته للترجمة وجوهٌ:
          الأَوَّل: أنَّ الادِّهَانَ مِنَ اللَّيل يقتضي استصحابَ أثرِه في النهار، وهو مِمَّا يرطِّبُ الدماغَ ويقوِّي / النفسَ، فهو أبلغُ مِنَ الاستعانة ببرد الاغتسال لحظةً مِنَ النهار، ثُمَّ يذهب أثرُه.
          قُلْت: هذا بعيدٌ جدًّا؛ لأنَّ الأدهانَ في نفسها متفاوتةٌ، وما كلُّ دهنٍ يرطِّبُ الدماغَ، بل فيها ما يضرُّه، يعرفُه مَن ينظر في علم الطِّبِّ، وقوله: (أبلغُ مِنَ الاستعانة.....) إلى آخره، غيرُ مُسلَّمٍ؛ لأنَّ الاغتسالَ بالماء لتحصيل البرودةِ، والدهنُ يقوِّي الحرارة، وهو ضدُّ ذاك، فكيف يقول: (هو أبلغ...) إلى آخره؟!
          الوجه الثاني: قاله بعضُهم: أنَّ المانعَ مِنَ الاغتسال لعلَّه سلَكَ به مسلكَ استحبابِ التقشُّفِ في الصيام، كما ورد مثله في الحجِّ، والادِّهانُ والتَّرجُّلُ في مخالفةِ التقشُّفِ كالاغتسال.
          قُلْتُ: هذا أبعدُ مِنَ الأَوَّل؛ لأنَّ الترجمةَ في جواز الاغتسال، لا في منعه، وكذلك أثرُ ابن مسعود في الجوازِ، لا في المنع، فكيف يجعل الجوازَ مناسبًا للمنع؟!
          الوجه الثالث: ما قيلَ: أراد البُخَاريُّ الرَّدَّ على مَن كرِهَ الاغتسالَ للصائم؛ لأنَّه إن كرِهَه خشيةَ وصولِ الماء حلقَه؛ فالعلَّةُ باطلةٌ بالمضمضة وبالسِّواك وبذوقِ القِدْرِ، ونحوِ ذلك، وإن كرهِهَ للرفاهية؛ فقد استحبَّ السَّلفُ للصائم الترفُّهَ والتَّجمُّلَ والادِّهانَ والكُحلَ ونحوَ ذلك.
          قُلْت: هذا أقربُ إلى القبول، ولكنَّ تحقيقَه أن يقالَ: إنَّ بالاغتسال يحصلُ التَّطهُّرُ والتنظُّفُ للصائم، وهو في ضيافة الله تعالى ينتظر المائدةَ، ومِن حاله هذه يحسنُ له التطهُّرُ والتنظُّفُ والتطيُّبُ، وهذه تحصل بالاغتسال والادِّهَان والترجُّل.
          قوله: (دَهِينًا) على وزن (فَعِيلٍ) بمعنى مفعولٍ؛ أي: مدهونًا.
          قوله: (مُتَرَجِّلًا) مِنَ التَّرجُّل؛ وهو تسريحُ الشعر وتنظيفُه، وكذلك الترجيلُ، ومنه أُخِذُ المِرْجَلُ؛ وهو المِشْطُ، ورُوِيَ عن قتادةَ أنَّهُ قال: (يُستحَبُّ للصائم أن يدَّهنَ حَتَّى يذهبَ عنه غبرةُ الصوم)، وأجازَه الكوفيُّون والشَّافِعِيُّ، وقال: (لا بأس أن يَدْهَنَ الصائمُ شاربَه)، وممَّن أجاز الدهنَ للصائمِ مُطَرِّفٌ وابن عبد الحكم وأصبغ، ذكرَه ابنُ حبيب، وكرهه ابنُ أبي ليلى.
          (ص) وَقَالَ أنَسٌ: إنَّ لِي أبْزَنَ أتَقَحَّمُ فِيه وأنَا صَائِمٌ.
          (ش) مطابقته للترجمة ظاهرةٌ؛ لأنَّ الدخولَ في الأبزَنِ فوقَ الاغتسالِ، و(الأَبْزَنُ) بفتحِ الهمزة وسكون الباء المُوَحَّدة وفتح الزاي وفي آخره نونٌ، وهو الحوض، وقال ابن قُرْقُولَ: مثل الحوض الصغير مِن فخَّارٍ ونحوه، وقيل: هو حجرٌ منقورٌ؛ كالحوض، وقال أبو ذرٍّ: كالقِدرِ يُسخَّنُ فيه الماء، وهو فارسيٌّ مُعرَّبٌ؛ ولذلك لا يُصرَفُ، وفي«المحكَم»: هو شيءُ يُتَّخَذُ من الصُّفر للماء، له جوفٌ، وفي كتاب«لغة المنصوريِّ» لابنِ الحشَّاء، ومِن خطِّه: (إِبزِن) ضبطَه بالكسر، قال: وهو مستنقَعٌ يكونُ أكثر ذلك في الحمَّام، وقد يكون في غيره، وقد يُتَّخذُ مِن صُفرٍ ومِن خشبٍ، وقال صاحبُ«التلويح»: الذي قرأتُه على جماعةٍ مِن فضلاء الأطبَّاء _وعدَّ جماعةً_ أُبزُن؛ بِضَمِّ الهمزة.
          قوله: (أتَقَحَّمُ فِيهِ) أي: أدخلُ، ومادَّته قافٌ وحاءٌ مُهْمَلة وميمٌ.
          قوله: (وَأَنَا صَائِمٌ) جملة حاليَّة، وهذا التعليقُ وصلَه قاسمُ بنُ ثابتٍ في«غريب الحديث» له مِن طريق عيسى بنِ طَهْمان: سمِعتُ أنسَ بنَ مالك يقولُ: (إنَّ لي أبزنَ، إذا وجدتُ الحرَّ تقحَّمتُ فيه وأنا صائمٌ).
          (ص) ويُذْكَرُ عنِ النَّبِيِّ صلعم أنَّهُ اسْتَاكَ وهُوَ صَائِمٌ.
          (ش) مطابقته للترجمة مِن حيثُ إنَّهُ يحصل به تطهيرُ الفم، كما ورد في الحديث:«السواك مطهرةٌ للفم» كما يحصل التَّطهيرُ للبدن بالاغتسال، فمِن هذه الحيثيَّة تحصلُ المطابقةُ بين الترجمة وبين الحديث الذي ذكره بصيغة التمريضِ.
          فَإِنْ قُلْتَ: في استياكِ الصائمِ إزالةُ الخلوفِ الذي هو أطيبُ عند الله مِن ريحِ المسكِ.
          قُلْت: إِنَّما مدحَ النَّبِيُّ صلعم الخلوفَ؛ نهيًا للناس عن تقزُّز مكالمةِ الصَّائمين بسبب الخُلوف، لا نهيًا للصُّوَّامِ عنِ السواك، والله غنيٌّ عن وصول الرائحة الطَّيِّبةِ إليه، فعلِمنا يقينًا أنَّهُ لم يُرِدْ بالنَّهي استبقاءَ الرَّائحة، وإِنَّما أرادَ نهيَ النَّاس عن كراهتها، وروى التِّرْمِذيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن بشَّارٍ: حَدَّثَنَا عبد الرَّحْمَن بن مهديٍّ: حَدَّثَنَا سفيانُ عن عاصم بن عُبَيد الله، عن عبد الله بن عامرِ بنِ ربيعةَ، عن أبيه قال: (رأيت النَّبِيَّ صلعم ما لا أحصي يتسوَّكُ وهو صائمٌ)، ثُمَّ قال: حديثُ عامر بن ربيعةَ حديثٌ حسنٌ، وأخرجَه أبو داود / أيضًا عن مُحَمَّد بنِ الصَّبَّاحِ عن شريك، وعن مُسَدَّد عن يحيى عن سفيان؛ كلاهما عن عاصمٍ، ولفظه: (رأيت رسول الله صلعم يستاكُ وهو صائمٌ) زاد في رواية: (ما لا أعدُّ ولا أحصي)، قال صاحبُ«الإمام»: ومدارُه على عاصمِ بنِ عُبَيد الله، قال البُخَاريُّ: مُنكَرُ الحديث، وقال النَّوَوِيُّ في«الخلاصة» _بعدَ أن حكى عَنِ التِّرْمِذيِّ أنَّهُ حسَّنَه_: (لكنَّ مدارَه على عاصمِ بن عُبَيد الله، وقد ضعَّفَه الجمهورُ، فلعلَّه اعتضد) انتهى، وقال المِزِّيُّ: وأحسنُ ما قيل فيه قولُ العِجْلِيِّ: لا بأسَ به، وقول ابنِ عَدِيٍّ: هو معَ ضعفه يُكتَبُ حديثُه، وقال البَيْهَقيُّ بعد تخريجه: عاصم بن عُبيد الله ليسَ بالقويِّ، وَلَمَّا روى التِّرْمِذيُّ حديثَ عامر بن ربيعةَ؛ قال: وفي الباب عن عائشةَ ♦.
          قُلْتُ: حديث عائشةَ رواه ابنُ ماجه والبَيْهَقيُّ من رواية أبي إسماعيل المؤدِّب _واسمه إبراهيم بن سليمان_ عن مُجالدٍ، عن الشعبيِّ، عن مسروقٍ، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلعم :«من خير خصالِ الصائم السواكُ»، ومُجالد بن سعيدٍ ضعَّفه الجمهور، ووثَّقه النَّسائيُّ، وروى له مسلمٌ مقرونًا بغيره.
          قُلْت: وفي الباب أيضًا عن أنسٍ [وحُبَابِ بنِ المنذر وخبَّابِ بنِ الأرتِّ وأبي هُرَيْرَة.
          فحديثُ أنسٍ]
رواه الدَّارَقُطْنيُّ والبَيْهَقيُّ مِن رواية أبي إسحاقَ الخوارزميِّ قاضي خوارزمَ، قال: (سألت عاصمًا الأحولَ، فقُلْت: أيستاكُ الصائم؟ فقال: نعم، فقُلْت: برطب السواك ويابسه؟ قال: نعم، قُلْت: أَوَّلَ النهار وآخره؟ قال: نعم، قُلْت: عمَّن؟ قال: عن أنسِ بنِ مالك عن النَّبِيِّ صلعم ) قال الدَّارَقُطْنيُّ: (أبو إسحاقَ الخوارزميُّ ضعيفٌ، [حدَّث] بِبَلْخ عن عاصمٍ الأحولَ بالمناكيرِ، لا يُحتَجُّ به) انتهى، ورواه النَّسائيُّ في كتاب«الأسماء والكنى» في ترجمة أبي إسحاقَ، وقال: (اسمُه إبراهيمُ بنُ عبد الرَّحْمَن، مُنكَرُ الحديث).
          وحديث حُبَابِ بنِ المنذر رواه أبو بكرٍ الخطيبُ نحوَ حديث خَبَّابِ بن الأرتِّ.
          وحديثُ خَبَّابِ بن الأرتِّ رواهُ الطبرانيُّ والدَّارَقُطْنيُّ والبَيْهَقيُّ مِن طريقه من رواية كَيْسان أبي عمرَ القصَّاب عن عُمَر بن عبد الرَّحْمَن، عن خَبَّاب، عن النَّبِيِّ صلعم :«إذا صمتم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشيِّ، فَإِنَّهُ ليس مِن صائمٍ تيبسُ شفتاه بالعشيِّ إلَّا كانتا نورًا بين عينيه يوم القيامةِ»، قال الدَّارَقُطْنيُّ: كَيْسانُ أبو عمر ليسَ بالقويِّ، وقد ضعَّفه يحيى بن مَعِين والسَّاجيُّ.
          وحديث أبي هُرَيْرَة رواهُ البَيْهَقيُّ من رواية عُمَر بن قيسٍ عن عطاء عن أبي هُرَيْرَة قال: (لك السَّواك إلى العصر، فإذا صلَّيتَ العصرَ فألقه، فإنِّي سمعتُ رسولَ الله صلعم يقول:«خلوف فم الصائم أطيبُ عند الله مِن ريح المسك»)، (عمرُ بنُ قيسٍ) هو الملقَّب سَنْدَلُ مَكِّيٌّ متروك، قاله أحمدُ والنَّسائيُّ وغيرهما، ولكنَّ الحديثَ المرفوعَ منه صحيحٌ، أخرجه البُخَاريُّ ومسلمٌ مِن رواية الأَعْمَش عن أبي صالحٍ عن أبي هُرَيْرَة، وأَمَّا استدلالُ أبي هُرَيْرَة به على السِّواك؛ فليس في«الصحيح».
          وأَمَّا حكمُ السواك للصائم؛ فاختلف العلماءُ فيه على ستَّة أقوالٍ:
          الأَوَّل: أنَّهُ لا بأسَ به للصائم مطلقًا، قبلَ الزوال وبعدَه، ويُرْوَى عن عليٍّ وابنِ عمر أنَّهُ لا بأسَ بالسواك الرَّطْبِ للصائم، ورويَ ذلك أيضًا عن مجاهدٍ، وسعيدِ بن جبير، وعطاءٍ، وإبراهيمَ النَّخَعِيِّ، ومُحَمَّد بن سِيرِين، وأبي حنيفةَ وأصحابه، والثَّوْريِّ، والأوزاعيِّ، وابنِ عُلَيَّةَ، ورُوِيَتِ الرخصة في السواك للصائم عن عمرَ وابنِ عَبَّاس، وقال ابن عُلَيَّةَ: السواك سُنَّةٌ للصائم والمُفطِرِ، والرَّطبُ واليابسُ سواءٌ.
          الثاني: كراهتُه للصائمِ بعد الزوالِ، [واستحبابُه قبلَه برطبٍ أو يابسٍ، وهو قولُ الشَّافِعِيِّ _في أصحِّ قوليه_ وأبي ثور، وقد رُوِيَ عن عليٍّ ☺ كراهةُ السواك بعدَ الزوال]، رواه الطبرانيُّ.
          الثالث: كراهتُه للصائم بعد العصرِ فقط، ويُرْوَى عن أبي هُرَيْرَة.
          الرابع: التفرقةُ بينَ صوم الفرض وصوم النفل؛ فيُكرَهُ في الفرض بعدَ الزوال، ولا يُكرَه في النفل؛ لأنَّه أبعدُ عنِ الرِّياء، حكاه المسعوديُّ عن أحْمَد ابن حَنْبَل، وحكاه صاحبُ«المعتمد» / من الشَّافِعِيَّة عن القاضي حُسَينٍ.
          الخامسُ: أنَّهُ يُكرَه السواكُ للصائم بالسواكِ الرَّطبِ دونَ غيره، سواءٌ أَوَّل النَّهار وآخره، وهو قولُ مالكٍ وأصحابِه، وممَّن رُوِيَ عنه كراهةُ السواك الرَّطْبِ للصائم الشعبيُّ وزيادُ بن حُدَيرٍ وأبو مَيْسَرةَ والحكمُ بن عُتَيْبةَ وقتادةُ.
          السادس: كراهتُه للصائم بعد الزوالِ مطلقًا، وكراهيةُ الرَّطبِ للصَّائم مطلقًا، وهو قولُ أحمدَ وإسحاقَ ابنِ راهُوْيَه.
          (ص) وَقَالَ ابنُ عُمَرَ ☻: يَسْتَاكُ أَوَّلَ النَّهَارِ وآخِرَهُ، ولَا يَبْلَعُ رِيقَهُ.
          (ش) مطابقته للترجمة مثلُ مطابقة الحديث السَّابق.
          وهذا التعليقُ روى معناه ابنُ أبي شَيْبَةَ عن حفصٍ، عن عُبيد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر بلفظ: (كان يستاكُ إذا أرادَ أن يروح إلى الظُّهر وهو صائمٌ).
          (ص) وقال عَطَاءٌ: إِنِ ازْدَرَدَ رِيقَهُ؛ لَا أقُولُ: يُفْطِرُ.
          (ش) أي: قال عطاءُ بنُ أبي رَبَاح في أثر ابنِ عمرَ المذكورِ: (إنِ ازْدَرَدَ) أي: إن ابتلعَ ريقَه بعدَ التَّسوُّك؛ لا يفطر، وأصل: (ازدرد) ازتردَ؛ لأنَّه مِن (زرد) إذا بلعَ، فنقل إلى (باب الافتعال) فصارَ ازترَدَ، ثُمَّ قُلِبَتِ التاءُ دالًا، فصارَ (ازْدَردَ).
          (ص) وقال ابنُ سِيرينَ: لَا بَأسَ بالسِّوَاكِ الرَّطْبِ، قِيلَ: لَهُ طَعْمٌ؟! قالَ: والمَاءُ لَهُ طَعْمٌ، وأنْتَ تُمَضْمِضُ بِهِ.
          (ش) (ابْنُ سِيرِينَ) هو مُحَمَّدُ بنُ سِيرِين، وهذا التعليقُ رواه ابنُ أبي شَيْبَةَ عن عُبَيدِ بن سهلٍ الغدانيِّ عَن عُقْبَة بن أبي حمزةَ المازنيِّ قالَ: (أتى مُحَمَّدَ بنَ سِيرِين رجلٌ، فقال: ما ترى في السواك للصائم؟ قال: لا بأسَ به، قال: إنَّهُ جريدةٌ وله طعمٌ؟! قال: الماءُ له طعمٌ وأنت تمضمِضُ به).
          فَإِنْ قُلْتَ: لا طعمَ للماء؛ لأنَّه تَفِهٌ، قُلْت: قالَ اللهُ تعالى: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}[البقرة:249]، وقال صاحب«المجمل»: الطعام يقع على كلِّ ما يُطعَمُ حَتَّى الماء.
          (ص) ولم يَرَ أنَسٌ والحَسَنُ وإبْرَاهِيمُ بالْكُحْلِ لِلصَّائِمِ بَأسًا.
          (ش) (أَنَسٌ) هو ابنُ مالكٍ الصحابيُّ، و(الْحَسَنُ) هو البصريُّ، و(إِبْرَاهِيمُ) هو النَّخَعِيُّ، ومسألةُ الكحل للصائم وقعت هنا استطرادًا، لا قصدًا؛ فلذلك لا تُطلَبُ فيها المطابقةُ للترجمة.
          أَمَّا التعليقُ عن أنسٍ؛ فرواه أبو داود في«السُّنَن» مِن طريق عُبَيد الله بنِ أبي بَكْر بنِ أنسٍ عن أنسٍ: (أنَّهُ كانَ يكتحلُ وهو صائمٌ) وروى التِّرْمِذيُّ عن أبي عاتكةَ عن أنسٍ: (جاء رجل إلى النَّبِيِّ صلعم قالَ: اشتكت عيني، أفأكتَحِلُ وأنا صائم؟ قال:«نعم»)، قال التِّرْمِذيُّ: ليس إسنادُه بالقويِّ، ولا يصحُّ عنِ النَّبِيِّ صلعم في هذا الباب شيءٌ، و(أبو عاتكة) اسمُه طريفُ بنُ سَلمانَ، وقيل: سليمان، وقيل: اسمُه سلمانُ بنُ طريفٍ، قال البُخَاريُّ: هو مًنكَرُ الحديث، وقال أبو حاتم الرازيُّ: ذاهبُ الحديث، وقال النَّسائيُّ: ليس بثقةِ، وروى ابن ماجه بسندٍ لا بأسَ به عن عائشة قالَت: (اكتحل النبيُّ صلعم وهو صائمٌ)، وفي«كتاب الصيام» لابنِ أبي عاصمٍ بسندٍ لا بأسَ به من حديث نافعٍ عن ابن عمر: (خرج علينا رسولُ الله صلعم وعيناه مملوءتان مِنَ الإثمدِ في رمضان وهو صائمٌ).
          فَإِنْ قُلْتَ: يعارِضُ هذا حديثٌ رواه أبو داودَ عَن عبد الرَّحْمَن بن النُّعمانِ بنِ مَعْبَد بن هَوذَةَ، عن أبيه، عن جدِّه، عن النَّبِيِّ صلعم : (أنَّهُ أمر بالإثمد المروح عندَ النَّوم، وقال:«ليتَّقِهِ الصائمُ»).
          قُلْت: قال أبو داود: قال لي يحيى بن مَعِين: هذا حديثٌ مُنكَرٌ، وقال الأثرمُ عن أحمد: هذا حديثٌ منكَرٌ، فلا معارضةَ حينئذٍ، وروى ابنُ عَدِيٍّ في«الكامل» والبَيْهَقيُّ مِن طريقه والطبرانيُّ في«الكبير» مِن رواية حبَّان بن عليٍّ عن مُحَمَّد بن عُبَيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جدِّه: (أنَّ النَّبِيَّ صلعم كان يكتحل بالإثمد وهو صائمٌ)، و(مُحَمَّدٌ) هذا قالَ فيه البُخَاريُّ: مُنكَرُ الحديث، وقال ابنُ معينٍ: ليس حديثُه بشيء، وروى الحارث بن أبي أسامة عن أبي زكريَّا يحيى بن إسحاقَ: حَدَّثَنَا سعيدُ بنُ زيدٍ عن عَمْرو بن خالدٍ عن مُحَمَّد بن عليٍّ عن أبيه عن جِّده، عن عليِّ بن أبي طالبٍ، وعن حبيب بن ثابتٍ عن نافعٍ / عن ابن عمرَ قالَ: (انتظرنا النَّبِيَّ صلعم أن يخرجَ في رمضان إلينا، فخرَجَ مِن بيت أمِّ سلمةَ وقد كحلتْه وملأتْ عينيه كُحْلًا)، وليس هذان الحديثان صريحَين في الكحل للصائم، إِنَّما ذكر فيهما رمضان فقط، ولعلَّه كان في رمضان في اللَّيل، والله أعلم، وروى البَيْهَقيُّ في«شعب الإيمان» مِن حديث ابن عَبَّاس قال: (قال رسول الله صلعم :«مَنِ اكتحلَ بالإثمد يومَ عاشوراء؛ لم يرمد أبدًا»)، قال البَيْهَقيُّ: إسنادُه ضعيفٌ، وفيه: روى الضَّحَّاكُ عنِ ابن عَبَّاس، والضَّحَّاكُ لم يلقَ ابنَ عَبَّاسٍ، ☻، وروى ابنُ الجوزيِّ في«كتاب فضائل الشهور» مِن حديث أبي هُرَيْرَة في حديثٍ طويلٍ فيه صيامُ عاشوراء والاكتحال فيه: قال ابنُ ناصر: هذا حديثٌ حسنٌ عزيزٌ، رجالُه ثقاتٌ، وإسنادُه على شرط«الصَّحيح»، ورواه ابنُ الجوزيِّ في«الموضوعات»، وقال شيخُنا: والحقُّ ما قاله ابنُ الجوزيِّ، وأنَّه حديثٌ موضوعٌ، وروى الطبرانيُّ في«الأوسط» من حديث بريرةَ قالت: (رأيت النَّبِيَّ صلعم يكتحل بالإثمد وهو صائمٌ).
          وأَمَّا أثر الحسنِ فوصله عبد الرزَّاق بإسنادٍ صحيحٍ عنه، قال: (لا بأسَ بالكحل للصائم).
          وأَمَّا أثر إبراهيمَ فاخْتُلِف عنه؛ فروى سعيدُ بنُ منصور عن جريرٍ عن القعقاعِ بن يزيد: (سألت إبراهيمَ: أيكتحلُ الصائم؟ قال: نعم، قُلْتُ: أجد طعمَ الصَّبر في حلقي؟ قال: ليس بشيء) وروى ابنُ أبي شَيْبَة عن حفصٍ، عن الأَعْمَش، عن إبراهيمَ قال: (لا بأسَ بالكحل للصائم ما لم يجد طعمَه).
          وأَمَّا حُكْمُ المسألةِ: فقد اختلفوا في الكحل للصائم؛ فلم يَرَ به الشَّافِعِيُّ بأسًا، سواءٌ وجدَ طعمَ الكحلِ في الحلق أم لا، واختلف قولُ مالكٍ فيه في الجوازِ والكراهة؛ وقالَ في«المدوَّنة»: يفطرُ ما وصلَ إلى الحلقِ مِنَ العين، وقال أبو مصعب: لا يفطر، وذهبَ الثَّوْريُّ وابنُ المبارك وأحمدُ وإسحاقُ [إلى كراهة الكحلِ للصائم، وحكيَ عن أحمدَ أنَّهُ إذا وجدَ طعمه في الحلق أفطرَ، وعن عطاءٍ والحسنِ البصريِّ والنَّخعيِّ] والأوزاعيِّ وأبي حنيفة وأبي ثور: يجوزُ بلا كراهة، وأنَّه لا يفطر به، سواءٌ وجد طعمه أم لا، وحكى ابنُ المنذر عن سليمانَ التَّيميِّ ومنصور بن المعتمر وابنِ شُبْرُمَةَ وابنِ أبي ليلى أنَّهم قالوا: يبطل صومُه، وقال قتادةُ: يجوزُ بالإثمد، ويُكرَه بالصَّبِر، وفي«سنن أبي داود» عن الأَعْمَش قالَ: (ما رأيتُ أحدًا مِن أصحابنا يكرهُ الكحلَ للصائم).