عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول النبي: إذا توضأ فليستنشق بمنخره الماء
  
              

          ░28▒ (ص) بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم :«إِذَا تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرِهِ الْمَاءَ».
          (ش) أي: هذا بابٌ فيما جاءَ مِن قول النَّبِيِّ صلعم : (إِذَا تَوَضَّأَ...) إلى آخره، وهذه القطعة من حديثٍ لم يوصِلها البُخَاريُّ، وأوصلها مسلمٌ وقال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن رافع قال: حَدَّثَنَا عبد / الرزَّاق عن هَمَّامٍ قال: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عن هَمَّام بن مُنبِّهٍ قال: حَدَّثَنَا أبو هُرَيْرَة عن مُحَمَّدٍ رسولِ الله صلعم ، فذكرَ أحاديثَ منها: وقالَ رسول الله صلعم :«إذا تَوَضَّأ أحدكم فليستنشق بمنخرَيه مِنَ الماء، ثُمَّ لينتثر»، وفي لفظ له مِن رواية الأعرج عن أبي هُرَيْرَة يبلغُ به النَّبِيَّ صلعم قالَ:«إذا استجمرَ أحدُكم فليستجمر وترًا، وإذا تَوَضَّأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً، ثُمَّ لينتثر».
          قوله: (إِذَا تَوَضَّأ) أي: أحدُكم، كما في رواية مسلمٍ.
          قوله: (بِمَنْخِرِهِ) المَنْخَرُ ثقبُ الأنفِ، وقد تُكسَرُ الميمُ إتباعًا للخاء.
          (ص) ولَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الصَّائِمِ وغَيْرِهِ.
          (ش) هذا من كلام البُخَاريِّ؛ أي: لم يميِّزِ النَّبِيُّ صلعم في الحديث المذكور بينَ الصائم وغيرِه، بل ذكره على العمومِ، ولو كان بينهما فرقٌ؛ لميَّزه النَّبِيُّ صلعم ، لكن جاءَ تمييز الصائم مِن غيرِه في المبالغة في ذلك، كما وردَ في حديث عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه: أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال له:«بالغ في الاستنشاقِ إلَّا أن تكون صائمًا»، رواه أصحابُ«السُّنَن»، وصحَّحه ابن خزيمة وغيره.
          (ص) وقال الحَسَنُ: لَا بَأْسَ بالسَّعُوطِ لِلصَّائِمِ إنْ لَمْ يصِلْ إلَى حَلْقِهِ، ويَكْتَحِلُ.
          (ش) [هذا التَّعليقُ رواه ابنُ أبي شَيْبَةَ عن هشامٍ عنه نحوه.
          و(السَّعُوطُ) بفتح السين، وقد يروى بضمِّها، هو الدواء الذي يُصَبُّ في الأنف.
          قوله: (إِنْ لَمْ يَصِلْ) أي: السَّعوطُ إلى حلقه، وقُيِّدَ به لأنَّه إذا وصل إلى حلقه يضرُّ صومَه، ويقضي يومًا.
          قوله: (وَيَكْتَحِلُ) من كلام الحسن؛ أي: يكتحلُ الصائمُ؛ يعني: يجوز للصائم الاكتحالُ، وقد مرَّ الكلامُ فيه عن قريبٍ مستقصًى.
          (ص) وقال عَطَاءٌ: إنْ تَمَضْمَضَ، ثُمَّ أفْرَغَ ما فِي فِيهِ مِنَ المَاءِ؛ لَا يَضِيرُهُ إنْ لَمْ يَزْدَرِدْ رِيقَهُ، وماذَا بَقِيَ فِي فِيهِ؟ فإنِ ازْدَرَدَ رِيقَ العِلْكِ؛ لا يَضُرُّه.
          (ش) هذا التَّعليقُ وصلَه سعيدُ بنُ منصور عنِ ابنِ المبارك عن ابن جُرَيْجٍ عنه، وقد مضى الكلام فيه عن قريبٍ عند قوله: (وقال عطاءٌ وقتادةُ: يبتلع ريقَه).
          قوله: (لَا يَضِيرُهُ) مِن ضارَه يَضِيرُه ضَيرًا؛ بمعنى (ضرَّه)، وهو روايةُ المُسْتَمْلِي، وفي رواية غيره: <لا يضرُّه> مِن (ضَرَّه) بالتشديد.
          قوله: (إِنْ لَمْ يَزْدَرِدْ) أي: إن لم يبلع ريقَه.
          قوله: (وَمَاذَا بَقِيَ فِي فِيهِ؟) أي: في فمِه، وهذه الجملةُ وقعت حالًا، وقد ذكرنا أنَّ في رواية البُخَاريِّ: (وما بقي في فيه) فكلمة (ما) على رواية البُخَاريِّ موصولةٌ، وعلى رواية: (ماذا [بقي] في فيه؟) استفهاميَّةٌ، كأنَّه قال: وأيُّ شيءٍ يبقى في فيه بعدَ أن يمجَّ الماء إلَّا أثر الماءِ؟ فإذا بلعَ ريقَه لا يضرُّه، وفي نسخةِ صاحب«التلويح» بخطِّه: لا يضيرُه؛ لأنَّه لم يزدرد ريقَه؛ أي: يبلع ريقَه.
          (ص) وَلَاَ يَمْضَغُ العِلْكَ، فَإِنِ ازْدَرَدَ رِيقَ العِلْكِ؛ لَا أقُولُ: إنَّهُ يُفْطِرُ، ولكِنْ يُنْهَى عَنْهُ، فَإِنِ اسْتَنْثَرَ، فدَخَلَ المَاءَ حَلْقَهُ؛ لَا بأسَ؛ لَمْ يَمْلِكْ.
          (ش) ]
(لَا يَمْضَغُ العِلْكَ) بكلمة: (لا) روايةُ الأكثرين، وفي رواية المُسْتَمْلِي: <ويمضغ العلكَ> بدون كلمة: (لا) والأَوَّل أَولى، وكذلك أخرجَه عبد الرزَّاق عنِ ابن جُرَيْج: (قلت لعطاءٍ: يمضغُ الصائمُ العلكَ؟ قال: لا، قُلْت: إنَّهُ يمجُّ ريقَ العلكِ، ولا يزدردُه، ولا يمصُّه، قال: وقلتُ لَه: أيتسوَّك الصَّائمُ؟ قال: نعم، قُلْت: أيزدردُ ريقَه؟ قال: لا، قُلْت: ففعلَ، أيضرُّه؟ قال: لا، ولكن ينهى عن ذلك)، و(الْعِلْكُ) بكسر العين المُهْمَلة وسكون اللام، هو الذي يمضغ مثل المِصْطكى، وقال الشَّافِعِيُّ: يكره؛ لأنَّه يجفِّفُ الفمَ ويعطش، وإن وصلَ منه شيءٌ إلى الجوف؛ بطل الصومُ، وكرِهَه أيضًا إبراهيمُ والشعبيُّ، وفي رواية جابرٍ عنه: (لا بأس به للصَّائمِ ما لم يبلع ريقَه)، وروى ابنُ أبي شَيْبَةَ عن أبي خالدٍ، عن ابن جُرَيْج، عن عطاءٍ: أنَّهُ سُئِلَ عن مضغِ العِلكِ، فكرهه، وقالَ: هو مراده، وقالَ ابنُ المنذر: رخَّص مضغَ العِلك أكثرُ العلماء إن كانَ لا يتحلَّبُ منه شيءٌ، فإن تحلَّب منه شيءٌ، فازدرده؛ فالجمهور على أنَّهُ يفطر.
          قوله: (فَإِنِ اسْتَنْثَرَ) أصله مِن نثرَ ينثِرُ _بالكسر_؛ إذا امتخطَ، و(استنثرَ) / (استفعلَ) منه؛ أي: استنشق الماءَ، ثُمَّ استخرج ما في أنفِه، فينتثِرُه، وقيلَ:«الاستنثارُ» تحريكُ النُّثرة؛ وهي طرفُ الأنف.
          قوله: (لَمْ يَمْلِكْ) أي: لم يملك منعَ دخولِ الماء في حلقه.