عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب وجوب صوم رمضان
  
              

          ░1▒ (ص) بابُ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان وجوب صومِ [شهرِ رمضانَ، وهكذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية النَّسَفِيِّ: (باب وجوبِ صومِ] رمضان وفضلِه).
          (ص) وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:183].
          (ش) هذا أيضًا من الترجمة.
          (وَقَوْلِ) مجرورٌ؛ لأنَّه عطف على قوله: (وجوب الصَّوم)، وأشار بإيراد هذه الآيةِ الكريمةِ إلى أمورٍ تتضمَّن هذه الآية _وهي فرضيَّةُ صومِ رمضانَ_ بقوله: ({كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}) وأنَّه كان فرضًا على مَن قبلَنا مِنَ الأمم، وأنَّ الصومَ وُصْلَةٌ [إلى التُّقى؛ لأنَّه مِنَ البرِّ الذي يكفُّ الإنسانَ عن كثيرٍ مِمَّا تطلَّع له النَّفسُ مِنَ المعاصي، وفيه تزكيةٌ للبدن] وتضييقٌ لمسالكِ الشيطان، كما ثبتَ في«الصحيحين»:«يا معشرَ الشبابِ؛ مَنِ استطاع منكم الباءةَ؛ فليتزوَّج، ومَن لم يستطع؛ فعليه بالصوم، فَإِنَّهُ له وُجاءٌ».
          ثُمَّ إنَّهم تكلَّموا في هذا التشبيه؛ وهو قوله: ({كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}) فقيل: إنَّهُ تشبيهٌ في أصل الوجوب، لا في قَدْرِ الواجب، وكان الصومُ على آدم ◙ أيَّام البيضِ، وصومُ عاشوراءَ على قوم موسى ◙ ، وكان على كلِّ أمَّةٍ صومٌ، والتشبيه لا يقتضي التسويةَ مِن كلِّ وجهٍ، / كما في قوله صلعم :«إنَّكم سترون ربَّكم كما ترونَ القمرَ ليلةَ البدر»، هذا تشبيهُ الرؤيةِ بالرؤية، لا تشبيهُ المرئيِّ بالمرئيِّ، وقيلَ: هذا التشبيهُ في الأصل والقَدرِ والوَقتِ جميعًا، وكان على الأوَّلين صومُ رمضانَ، لكنَّهم زادوا في العدد، ونقلوا مِن أيَّام الحرِّ إلى أيَّامِ الاعتدال، وعن الشَّعبيِّ: أنَّ النَّصارى فرضَ عليهم شهرُ رمضانَ كما فُرِضَ علينا، فحوَّلوه إلى الفصلِ، وذلك أنَّهم ربَّما صاموه في القيظِ، فعدُّوا ثلاثين يومًا، ثُمَّ جاء بعدَهم قرنٌ منهم، فأخذوا بالثقة في أنفسِهم، فصاموا قبلَ الثُّلاثين يومًا وبعدَها يومًا، ثُمَّ لم يزل الآخرُ يستنُّ بسنَّةِ القرنِ الذي قبلَه حَتَّى صارت إلى خمسين، وقال الطَّبَريُّ: وقالَ آخرون: بلِ التشبيهُ إِنَّما هو مِن أجل أنَّ صومَهم كان مِنَ العشاء الآخرة إلى العِشاء الآخرة، وكانَ ذلك فُرِضَ على المؤمنين في أَوَّل ما افترض عليهم الصوم، وقال السُّدِّيُّ: النَّصارى كُتِبَ عليهم رمضانُ، وكُتِبَ عليهم ألَّا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم، ولا ينكحوا النِّساءَ شهرَ رمضان، فاشتدَّ ذلك على النصارى، وجعل يتقلَّبُ عليهم في الشتاء والصيف، [فلمَّا رأَوا ذلك اجتمعوا، فجعلُوا صيامًا في الفصلِ بين الشِّتاء والصيف]، وقالوا: نزيد عشرين يومًا نُكفِّر بها ما صنعنا، فجعلوا صيامَهم خمسين يومًا، فلم يزلِ المسلمون على ذلك يصنعون كما تصنعُ النَّصارى حَتَّى كان مِن أمر أبي قيسِ بن صِرْمَةَ وعمرَ ☻ ما كان، فأحلَّ اللهُ لهم الأكلَ والشربَ والجماع إلى طلوع الفجر.
          وفي«تفسير ابن أبي حاتم» عن الحسنِ قال: والله لقد كُتِبَ الصيامُ على كلِّ أمَّةٍ خَلَت، كما كتبه علينا شهرًا كاملًا، وفي«تفسير القرطبيِّ» عن قتادة: كتبَ اللهُ تعالى على قومِ موسى وعيسى ♂ صيامَ رمضانَ، فغيَّروا، وزاد أحبارُهم عشرةَ أيَّامٍ، ثُمَّ مرِضَ بعضُ أحبارِهم، فنذَرَ إن شفِيَ أن يزيدَ في صومِهم عشرةَ أيَّامٍ أخرى، ففعل، فصار صومُ النصارى خمسين يومًا، فصعُبَ عليهم في الحرِّ، فنقلوه إلى الرَّبيع، قال: واختارَ هذا القولَ النَّحَّاسُ، وأسند فيه حديثًا يدلُّ على صحَّته.
          فَإِنْ قُلْتَ: لم يُعلم مِن هذه الآيةِ إلَّا أصلُ فرضيَّة الصومِ، ولم يُعلَمُ العددُ، ولا كونُه في شهرَ رمضان.
          قُلْت: لمَّا عُلِمَ منها أصلُ الفرض؛ نزلَ قوله: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ}[البقرة:184]، فعُلِمَ من ذلك أنَّ الفرضَ أيَّامٌ معدوداتٌ، ولمَّا نزل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}[البقرة:185]؛ عُلِمَ أنَّ ذلك العددَ هو ثلاثون يومًا؛ لأنَّه فُرِضَ في رمضان، والشهرُ ثلاثون يومًا، وإن نقص؛ فحكمُه حكمُه، وعن هذا قالوا: إنَّ«الشَّهر» مرفوعٌ على أنَّهُ بدلٌ مِن قوله: ({الصِّيَامُ}) في قوله: ({كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}) وقُرِئ بالنَّصبِ [على:«صوموا شهرَ رمضانَ»، أو على أنَّهُ بدلٌ مِن قولِه: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ}، وانتصاب ({أيَّامًا}) على الظرفيَّة؛ أي: كُتِبَ عليكم الصِّيامُ] في أيَّامٍ معدوداتٍ، وبيَّنَها بقولِه: ({شَهْرُ رَمَضَانَ}).
          فَإِنْ قُلْتَ: ما الحكمةُ في التَّنصيصِ على الثَّلاثين التي هي الشهرُ الكاملُ؟ قُلْت: قالوا: لمَّا أكل آدم ◙ مِنَ الشجرة التي نهى عنها؛ بقي شيءٌ مِن ذلك في جوفه ثلاثين يومًا، فلمَّا تاب الله عليه؛ أمره بصيام ثلاثين يومًا بلِياليهنَّ، ذكره في«خلاصة البيانِ في تلخيص معاني القرآن».