عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله ╡ : {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم}
  
              

          ░15▒ (ص) بابُ قَوْلِ اللهِ ╡ : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ}[البقرة:187].
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ قول الله / ╡ وما يتعلَّق به مِنَ الأحكام، وهذه الآيةُ إلى قوله: {مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ} روايةُ أبي ذرٍّ، وفي رواية غيرِه إلى آخر الآيةِ {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، وجعل البُخَاريُّ هذه الآيةَ ترجمةً؛ لبيانِ ما كان الحال عليه قبلَ نزول هذه الآيةِ، وسببُ نزولها في عُمَر بنِ الخَطَّاب وصِرْمَةَ بنِ قيسٍ، قال الطَّبَريُّ بإسنادِه إلى عبد الله بن كعب بن مالك يحدِّث عن أبيه قال: (كانَ الناس في رمضان إذا صامَ الرجلُ، فأمسى فنام؛ حرم عليه الطَّعامُ والشراب والنساء حَتَّى يفطرَ مِنَ الغد، فرجع عُمَر بنُ الخَطَّاب مِن عند النَّبِيِّ صلعم ذات ليلة وقد سمر عنده، فوجدَ امرأتَه قد نامت، فأرادها، فقالت: إنِّي قد نمتُ، فقال: ما نمت؟ ثُمَّ وقع بها، وصنعَ كعبُ بنُ مالك مثله، فغدا عُمَرُ بنُ الخَطَّاب إلى النَّبِيِّ صلعم فأخبره، فأنزل الله: {عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ}؛ الآية، وهكذا رويَ عن مجاهدٍ وعطاءٍ وعِكرمةَ والسديِّ وقتادةَ وغيرِهم في سبب نزول هذه الآيةِ في عُمَرَ بن الخَطَّاب، ومَن صنع كما صنع، وفي صِرْمةَ بنِ قيسٍ، فأباحَ الجماعَ والطعامَ والشراب في جميعِ اللَّيل رحمةً ورخصةً ورِفْقًا، وحديثُ البابِ مقتَصَرٌ على قضيَّة صِرمةَ بنِ قيس.
          قوله: ({الرَّفَثُ}) هو الجماعُ هنا، قاله ابنُ عَبَّاس وعطاءٌ ومجاهدٌ وسعيدُ بن جبير [وطاوُوسٌ وسالمُ بن عبد الله وعمرُو بنُ دينار والحسنُ وقتادةُ والزُّهْريُّ والضَّحَّاكُ] وإبراهيم النَّخَعِيُّ والسُّدِّيُّ وعطاءٌ الخراسانيُّ ومقاتلُ بن حيَّان، وقالَ الزجَّاج: {الرَّفَثُ} كلُّه جامعٌ لكلِّ ما يريدُه الرجلُ مِنَ النساء.
          قوله: ({هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}) قال ابن عَبَّاس ومجاهدٌ وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ والحسنُ وقتادةُ والسُّدِّيُّ ومقاتلُ بنُ حيَّانَ: يعني: هنَّ سَكَنٌ لكم وأنتم سَكَنٌ لهنَّ، وقال الربيع بن أنس: هنَّ لحافٌ لكم وأنتم لحافٌ لهنَّ، وحاصله: أنَّ الرجل والمرأة كلٌّ منهما يخالط الآخرَ ويماسُّه ويضاجعُه، فناسبَ أن يرخِّصَ لهم في المجامعة في ليل رمضانَ؛ لئلَّا يشقَّ ذلك عليهم ويُحرَجوا، وقيل: كلُّ قِرْنٍ منكم يسكنُ إلى قِرْنِه ويلابسُه، والعربُ تُسمِّي المرأةَ لباسًا وإزارًا، قال الشاعر:
إذا ما الضجيعُ ثنى جيدَها                     تداعَت، فكانت عليه لباسَا
          وقال آخرُ:
ألَا أبلِغْ أبا حَفصٍ رسولًا                     فِدًى لك من أخي ثقةٍ إزاري
          قالَ أهل اللُّغةِ: معناه: فِدًى لك امرأتي، وذكرَ ابنُ قُتيبةَ وغيرُه أنَّ المراد بقوله:«إزاري» فدًى لك امرأتي، وقال بعضُهم: أراد نفسَه؛ أي: فدًى لك نفسي، وفي كتاب«الحيوان» للجاحظ: ليسَ شيءٌ مِنَ الحيوان يتبطَّن طروقته _أي: يأتيها مِن جهةِ بطنها_ غيرَ الإنسانِ والتمساح، وفي«تفسير الواحديِّ»: والدُّبُّ، وقيل: الغرابُ.
          قوله: ({تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ}) يعني: تجامعون النساءَ وتأكلونَ وتشربون في الوقت الذي كانَ حرامًا عليكم، ذكره الطَّبَريُّ، وفي«تفسير ابنِ أبي حاتم» عن مجاهدٍ: {تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ} قال: تظلمون أنفسَكم.
          قوله: ({فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ}) أي: جامِعُوهنَّ، كنَّى اللهُ عنه، قاله ابنُ عَبَّاس، ورويَ نحوُه عن مجاهدٍ وعطاءٍ والضَّحَّاكِ ومقاتلِ بنِ حيَّانَ والسُّدِّيِّ والربيع بن أنسٍ وزيدِ بن أسلمَ.
          قوله: ({وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ}) قال مجاهدٌ _فيما ذكره عبدُ بنُ حُمَيدٍ في«تفسيره»_: الولدان: لم تلد هذه، فهذه، وذكرَه أيضًا الطَّبَريُّ عن الحسن والحَكَمِ وعِكرمةَ وابنِ عَبَّاس والسُّدِّيِّ والربيع بن أنسٍ، وذكره ابنُ أبي حاتم في«تفسيره» عن أنسِ بن مالكٍ وشريحٍ وعطاءٍ والضَّحَّاكِ وسعيدِ بنِ جُبَيرٍ وقتادةَ، قال الطَّبَريُّ: وعن ابنِ عَبَّاس أيضًا في قوله تعالى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ} قالَ: ليلة القدر، وقال الطَّبَريُّ: وقال آخرون: بل معناه: ما أحلَّه الله لكم ورخَّصه، قال ذلك قتادةُ، وعن زيدِ بن أسلمَ: هو الجماعُ.