عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: الحائض تترك الصوم والصلاة
  
              

          ░41▒ (ص) بابٌ الْحَائِضُ تَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ.
          (ش) أي: هذا بابٌ يذكر فيه: الحائضُ تترك الصوم والصلاة، إِنَّما قال: تترك للإشارة إلى أنَّهُ ممكِنٌ حسًّا، ولكنها تتركهما اختيارًا لمنع الشرع لها من مباشرتهما.
          (ص) وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: إِنَّ السُّنَنَ وَوُجُوهَ الْحَقِّ لَتَأْتِي كَثِيرًا عَلَى خِلَافِ الرَّأْيِ، فَمَا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ بُدًّا مِنِ اتِّبَاعِهَا، مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَائِضَ تَقْضِي الصِّيَامَ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ.
          (ش) (أَبُو الزِّنَادِ) بكسر الزاي وبالنون، اسمه عبد الله بن ذكوان القرشيُّ، أبو عبد الرَّحْمَن المَدَنِيُّ، وعن ابن مَعين: ثقةٌ حجَّةٌ، وعن أحمد: كان سفيان يُسمِّي أبا الزناد أمير المؤمنين في الحديث، مات سنة ثلاثين ومئة، وهو ابن ستٍّ وستِّين سنةً، وأبدله ابن بَطَّالٍ بأبي الدَّرْدَاء؛ يعني: قائلُ هذا الكلام هو أبو الدَّرْدَاء الصحابيُّ.
          والمقصود منه: أنَّ الأمور الشرعيَّة التي تَرِدُ على خلاف القياس ولا يعلمُ وجه الحكمة فيها يجب الاتِّباع بها، ويكل الأمرَ فيها إلى الشارع، ويتعبَّد بها ولا يعترض يقول: لِمَ كان كذا؟ ألَا ترى أنَّ في حديث قتادة قال: حدَّثتني معاذة أنَّ امرأة قالت لعائشة: أتجزئ إحدانا صلاتها إذا طهرت؟ قالت: أحروريَّةٌ أنتِ؟! كنَّا نحيض مَعَ النَّبِيِّ صلعم / فلا يأمرُنا به، أو قالت: فلا نفعله، قد تَقَدَّمَ هذا في (باب لا تقضي الحائض الصلاة) في (كتاب الحيض)، وقال بعضهم: وقد تَقَدَّمَ في (كتاب الحيض) سؤالُ معاذة مِن عائشة عنِ الفرق المذكور، وأنكرت عليها عائشةُ السؤال، وخشيت عليها أن تكون تلقَّفته مِنَ الخوارج الذين جرت عادتُهم باعتراض السُّنن بآرائهم، ولم يزدها على الحوالة على النصِّ، فكأنَّها قالت لها: دعي السؤال عنِ العلَّة إلى ما هو أهمُّ مِن معرفتها، وهو الانقياد إلى الشارع انتهى.
          قُلْت: قد غَلِط هذا القائل في قوله: (سؤال معاذة مِن عائشة عنِ الفرق...) إلى آخره، ولم يكن السؤال مِن معاذة، [وإِنَّما معاذةُ حدَّثت أنَّ امرأة قالت لعائشة: فهذه هي السائلة دون معاذة]، والسؤال والجواب إِنَّما كانا بين تلك المرأة وعائشة، ولم يكن بين معاذة وعائشة على ما لا يخفى.
          قوله: (وَوُجُوهُ الْحَقِّ) أي: الأمور الشرعيَّة، واللام في قوله: (لَتَأتِي) مفتوحة للتأكيد.
          قوله: (عَلَى خِلَافِ الرَّأْيِ) أي: العقل والقياس.
          قوله: (فَمَا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ بُدًّا) أي: افتراقًا وامتناعًا مِن اتِّباعها.
          قوله: (مِنْ ذَلِكَ) أي: مِن جملة ما هو أتى بخلاف الرأي، قضاء الصوم والصلاة، فإنَّ مقتضاه أن يكون قضاؤهما متساويين في الحكم؛ لأنَّ كلًّا منهما عبادة تركت لعذرٍ، لكنَّ قضاء الصوم واجبٌ.
          والحاصِلُ مِن كلامِه:
          أنَّ الأمور الشرعيَّة التي تأتي على خلاف الرأي والقياس، لا يُطلَبُ فيها وجه الحكمة، بل يُتَعَبَّد بها، ويُوكَل أمرها إلى الله تعالى؛ لأنَّ أفعال الله تعالى لا تخلو عن حكمةٍ، ولكنَّ غالبها يخفى على الناس ولا يدركها العقول، ومِن جملة ما قالوا في الفرق بين الصومِ والصلاة على أنواعٍ:
          منها: ما قال الفقهاء: الفرقُ بينهما أنَّ الصوم لا يقع في السَّنَة إلَّا مَرَّةً واحدة، فلا حرج في قضائه، بخلاف الصلاة، فَإِنَّها متكرِّرة كلَّ يومٍ ففي قضائها حرجٌ عظيم.
          ومنها: ما قالوا: إنَّ الحائض لا تَضعُفُ عنِ الصيام، فأُمِرَت بإعادة الصيام عملًا بقوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا}[البقرة:184]، والنزف مرض بخلاف الصلاة، فَإِنَّها أكثر الفرائض تردادًا، وهي التي حطَّها تعالى في أصل الفرض مِن خمسين إلى خمسٍ، فلو أُمِرَت بإعادتها لتضاعف عليها الفرض.
          ومنها: ما قالوا: إنَّ الله تعالى وصف الصلاة بأنَّها كبيرة في قوله: {وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ}[البقرة:54] فلو أُمِرَتْ بإعادتها لصارت كبيرةً على كبيرةٍ، وقال إمام الحَرَمين: إنَّ المتَّبَعَ في ذلك النصُّ، وإنَّ كلَّ شيءٍ ذكروه مِنَ الفرق ضعيفٌ، وزعم المُهَلَّب أنَّ السبب في منع الحائض مِنَ الصوم أنَّ خروج الدم يُحدِث ضَعفًا في النفس غالبًا، فاستُعمِلَ هذا الغالبُ في جميع الأحوال، فلمَّا كان الضعف يُبِيح الفطرَ ويوجبُ القضاء؛ كان كذلك الحيض، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المريض لو تحامل فصامَ صحَّ صومه، بخلاف الحائض، وأنَّ المستَحاضَةَ في نَزفِ الدم أشدُّ مِنَ الحائض، وقد أُبيحَ لها الصوم.