عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول النبي: إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا
  
              

          ░11▒ (ص) بابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم :«إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ؛ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ؛ فَأَفْطِرُوا».
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان قول النَّبِيِّ صلعم .. إلى آخره، وهذه الترجمة هي بعينٍها لفظُ مُسلمٍ؛ حيث قال: حَدَّثَنَا يحيى بن يحيى قال: أخبرنا إبراهيمُ بنُ سعدٍ عن ابن شهاب، عن سعيد بن المُسَيَِّبِ، عن أبي هُرَيْرَة قالَ: قال رسولُ الله صلعم :«إذا رأيتم الهلالَ فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطِروا، فإن غُمَّ عليكم فصوموا ثلاثين يومًا»، وليس في أحاديث الباب مثلُ عينِ الترجمة، وإِنَّما المذكورُ ما يقارب الترجمةَ مِن حيث اللَّفظُ، وما هو عينُها مِن حيثُ المعنى على ما نبيِّنُه عن قريبٍ إن شاء الله تعالى.
          (ص) وَقَالَ صِلَةُ عَنْ عَمَّارٍ: مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ؛ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ.
          (ش) مطابقة هذا الأثرِ للترجمة مِن حيثُ إنَّ مقتضى معناها: ألَّا يُصامَ يوم الشَّكِّ؛ لأنَّه صلعم علَّق الصوم برؤية الهلال؛ وهو هلال رمضان، فلا يصام اليومُ الذي هو آخر شعبانَ إذا شكَّ فيه؛ هل هو مِن شعبان أو مِن رمضان؟
          و(صِلَةُ) بكسرِ الصَّاد المُهْمَلة وفتح اللَّام المُخَفَّفَة، على وزنِ (عِدَة)، وقال بعضهم: على وزن«عُمَر» وليس بصحيحٍ، وهو ابنُ زُفَرُ _بِضَمِّ الزَّاي وفتح الفاء المُخَفَّفَة وفي آخره راءٌ_ العَبْسِيُّ الكوفيُّ، يُكْنَى أبا بكرٍ، ويقال: أبا العلاء، قال الواقديُّ: تُوُفِّي في زمن مصعب بن الزُّبَير، وهو مِن كبار التَّابِعينَ وفضلائهم، وزعم ابنُ حزمٍ أنَّهُ صِلَةُ بنُ أَشْيَمَ، وهو وَهَمٌ منه، وقد صرَّح بأنَّه صلةُ بنُ زُفَرَ جميعُ مَن روى هذا، و(عَمَّارٌ) هو ابنُ ياسرٍ، العَنْسِيُّ أبو اليقظان، قُتِلَ بِصِفِّينَ.
          وقد وصلَ هذا التعليقَ أصحابُ السُّنَن الأربعة؛ فقال التِّرْمِذيُّ: حَدَّثَنَا عبد الله / بن سعيد الأشجِّ: حَدَّثَنَا أبو خالدٍ الأحمرُ عن عَمْرو بن قيسٍ الملائيِّ، عن أبي إسحاقَ، عن صلةَ بنِ زُفَرَ قال: كنَّا عند عمَّارِ بن ياسر، فأُتِي بشاةٍ مصليةٍ، فقال: كلوا، فتنحَّى بعضُ القوم، فقال: إنِّي صائم، فقال عمَّارٌ:«مَن صام اليومَ الذي يُشَكُّ فيه؛ فقد عصى أبا القاسمِ صلعم »، ورواه النَّسائيُّ عَنِ الأشجِّ، ورواه أبو داودَ وابنُ ماجه عن مُحَمَّد بن عبد الله بن نُمَير عن أبي خالدٍ الأحمر، وأخرجَه أيضًا ابنُ خُزَيمة وابن حِبَّانَ والحاكم، وقال: صحيحٌ على شرطِهما، ولم يُخرِّجاه.
          و(يَومُ الشكِّ) هو اليومُ الذي يتحدَّث النَّاسُ فيه برؤية الهلال، ولم تثبت رؤيتُه، أو شهِدَ واحدٌ، فرُدَّت شهادتُه، أو شاهدان فاسقان، فرُدَّت شهادتهما، وقال ابنُ المنذر في«الإشراف»: قال أبو حنيفةَ وأصحابُه: لا بأسَ بصومٍ يومِ الشكِّ تطوُّعًا، وهذا قولُ أهل العلم، وبه قال الأوزاعيُّ واللَّيثُ بنُ سعدٍ وأحمدُ وإسحاقُ، ومثلُه عن مالكٍ على المشهور، وكانت أسماءُ بنتُ أبي بكر ☻ تصومُه، وذكر القاضي أبو يَعْلَى: أنَّ صومَ يومِ الشَّكِّ مذهبُ عُمَر بن الخَطَّاب وعليِّ بنِ أبي طالب وأنسِ بنِ مالكٍ وأبي هُرَيْرَة وابن عَبَّاس.
          وقال أصحابنا: صومُ يومِ الشَّكِّ على وجوهٍ:
          الأَوَّل: أنَّه ينوي فيه صومَ رمضانَ، وهو مكروهٌ، وفيه خلافٌ عن أبي هُرَيْرَةَ وعمرَ ومعاويةَ وعائشةَ وأسماء، ثُمَّ إن بانَ أنَّهُ مِن رمضانَ يجزئه، وهو قول الأوزاعيِّ والثَّوْريِّ ووجهٌ للشَّافِعِيَّة، وعند الشَّافِعِيِّ وأحمد: لا يجزئه إلَّا إذا أخبره به مَن يثقُ به؛ مِن عبد أو امرأة.
          والثاني: أنَّهُ إن نوى عن واجبٍ آخر؛ كقضاء رمضان والنَّذرِ، أو الكفَّارةِ، وهو مكروه أيضًا، إلَّا أنَّهُ دون الأَوَّل في الكراهة، وإن ظهر أنَّهُ مِن شعبانَ؛ قيل: يكون نفلًا، وقيل: يجزئه عنِ الذي نواه مِنَ الواجبِ، وهو الأصحُّ، وفي«المحيط»: وهو الصحيحُ.
          والثالث: أن ينويَ التطوُّعَ، وهو غيرُ مكروهٍ عندنا، وبه قال مالكٌ، وفي«الإشراف»: حُكيَ عن مالكٍ جوازُ النَّفلِ فيه عن أهل العلم، وهو قولُ الأوزاعيِّ واللَّيثِ وابن مَسْلَمَة وأحمدَ وإسحاقَ، وفي«جوامع الفقه»: لا يُكرَه صومُ يومِ الشَّكِّ بنيَّةِ التطوُّع، والأفضلُ في حقِّ الخواصِّ صومُه بنيَّةِ التطوُّع بنفسه وخاصَّته، وهو يُروى عن أبي يوسفَ، وفي حقِّ العوامِّ التلوُّم إلى أن يقربَ الزوالُ، وفي«المحيط»: إلى وقت الزوال، فإن ظهرَ أنَّهُ مِن رمضان نوى الصومَ، وإلَّا؛ أفطر.
          والرابع: أن يضجعَ في أصل النِّيَّة؛ بأن ينوي أن يصومَ غدًا إن كان مِن رمضان، ولا يصومُه إن كان مِن شعبانَ، وفي هذا الوجه لا يصيرُ صائمًا.
          والخامس: أن يضجعَ في وصف النِّيَّة بأن ينويَ إن كان غدٌ مِن رمضانَ؛ يصومُ عنه، وإن كان مِن شعبانَ؛ فعن واجبٍ آخرَ، فهو مكروه.
          والسادس: أن ينويَ عن رمضانَ إن كان غدٌ منه، وعن التطوُّعِ إن كانَ مِن شعبانَ؛ يُكرَه.
          قوله: (مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ) وفي روايةِ ابن خزيمة وغيره: (مَن صام اليومَ الذي يشكُّ فيه) قال الطِّيبيُّ: إِنَّما أتى بالموصولِ، ولم يقل: يومَ الشَّكِّ؛ مبالغةً في أنَّ صومَ يومٍ فيه أدنى شكِّ سببُ العصيان، فكيفَ مَن صامَ يومًا الشكُّ فيه قائم؟!
          قوله: (فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ) استدلَّ به على تحريم صومِ يومِ الشَّكِّ؛ لأنَّ الصَّحابيَّ لا يقول ذلك مِن قِبَلِ رأيه، فيكونُ مِن قبيلِ المرفوع، وقال ابنُ عبد البرِّ: هو مسندٌ عندَهم لا يختلفونَ في ذلك، وخالفه الجَوْهَريُّ المالكيُّ، فقال: هو موقوفٌ، ورُدَّ عليه بأنَّه موقوف لفظًا مرفوعٌ حكمًا، وإِنَّما قال:«أبا القاسم» بتخصيصِ هذه الكنيةِ؛ للإشارة إلى أنَّهُ صلعم هو الذي يقسم بين عباد الله حكمَ الله بحسب قدرهم واقتدارهم.