عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: في الركاز الخمس
  
              

          ░66▒ (ص) بابٌ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ.
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذكَر فيه: فِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ، و(الخُمُسُ) مرفوعٌ بالابتداء، و(فِي الرِّكَازِ) مقدَّمًا خبرُه، وَقَد مَرَّ تَفْسِير (الركاز).
          (ص) وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ: الرِّكَازُ دِفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ، فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الْخُمُسُ، وَلَيْسَ الْمَعْدِنُ بِرِكَازٍ.
          (ش) مُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ.
          و(مَالِكٌ) هو ابْن أَنَس صاحب المذهب المشهور.
          و(ابْنُ إِدْرِيسَ) هو مُحَمَّد بن إدريس، فقَالَ ابْنُ التِّينِ: قال أَبُو ذَرٍّ: يقال: هو مُحَمَّد بن إدريس الشَّافِعِيُّ؛ يعني: صاحب المذهب، ويقال: عَبْد اللهِ بن إدريس الأوديُّ الْكُوفِيُّ، وهو الأشبهُ، / وقد جزم أبو زيدٍ المَرْوَزِيُّ أحدُ الرواة عن الفِرَبْرِيِّ بأنَّه الشَّافِعِيُّ؛ يعني: صاحب المذهب، وتابعه البَيْهَقيُّ وجمهور الأئِمَّة، قيل: يؤيِّد ذلك أنَّهُ وُجِد في عبارة الشَّافِعِيِّ دون الأوديِّ، فروى البَيْهَقيُّ في «المعرفة» مِنْ طَرِيقِ الربيع قال: قال الشَّافِعِيُّ: والركاز الَّذِي فيه الخمس دِفن الجاهلية ما وجد في غير مِلكٍ لأحدٍ، وأَمَّا قوله: (فِي قَلِيْلِهِ وَكَثِيرِه الخُمُس) فهو قوله في القديم، كما نقله ابْن الْمُنْذِرِ عنه واختاره، وأَمَّا في الجديد فقال: لا يجب فيه الخُمُس حَتَّى يبلغ نصاب الزكاة.
          والتعليق عَنْ مَالِكٍ رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ في «كِتَاب الأَمْوَالِ» حَدَّثَنِي يَحْيَى بن عَبْد اللهِ بن بُكَيْر عَنْ مَالِكٍ قال: المعدن بمنزلة الزرع تؤخذ منه الزكاة كما تؤخذ مِنَ الزرع حين يُحصد، قال: وهذا ليس بركازٍ، وإِنَّما الركاز دفن الجاهلية الَّذِي يوجد مِن غير أن يطلب بمال ولا يتكلَّف له كثير عمل انتهى.
          قوله: (دِفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ) بكسر الدال؛ يعني: المدفون.
          [قوله: (فِي قَلِيلِهِ) هو الَّذِي لا يبلغ نصابًا، وفي كثيره ما بلغ نصابًا].
          قوله: (وَلَيْسَ الْمَعْدَنُ بِرِكَازٍ) فيجب فيه ربع العُشر لا الخمس؛ لأنه يحتاج إلى عمل ومعالجة واستخراج، بخلاف الرِّكاز، وقد جرت السنَّة أن ما غلظت مُؤنَتُه خُفِّف عنه في مقدار الزكاة، وما خفَّت زِيد فيه، وسُمِّي المعدن لإقامة التِّبر فيه؛ لأنَّه مِنَ العَدْن وهو الإقامة.
          (ص) وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلعم : «فِي الْمَعْدِنِ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ».
          (ش) هَذَا مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ مَالِكٍ وَابْنِ إِدْرِيسَ فِيمَا ذَهَبَا إِلَيْهِ، أَرَادَ أنَّهُ صلعم فَرَّقَ بَيْنَ الْمَعْدَنِ وَالرِّكَازِ، فَجَعَلَ الْمَعْدِنَ جُبارًا، وَأَوْجَبَ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسَ.
          وهَذَا التَّعْلِيق أسنده في هَذَا الْبَاب، فعن قريب يأتي إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
          و(الْجُبَارُ) بِضَمِّ الجيم وتَخْفِيف الْبَاء المُوَحَّدة وَفِي آخِرِهِ راء؛ وهو الهدر، ليس فيه شيءٌ.
          (ص) وَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ الْمَعَادِنِ مِنْ كُلِّ مِئَتَيْنِ خَمْسَةً.
          (ش) أي: خمسة دراهم، وهو ربع العُشر.
          وهَذَا التَّعْلِيق وصله أَبُو عُبَيْدٍ في «كِتَاب الأَمْوَالِ» مِنْ طَرِيقِ الثَّوْريِّ عن عَبْد اللهِ بن أَبِي بَكْر بْن عَمْرو بْن حَزْمٍ نحوه، وروى البَيْهَقيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيد بْن أبي عَروبة عن قَتَادَة أن عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ جَعَل الْمَعْدِنَ بِمَنْزِلَةِ الرِّكَاز يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخُمْسُ، ثُمَّ عَقَّبَ بِكِتَابٍ آخَرَ فجَعَلَ فيْهِ الزَّكَاةَ، قَالَ: وَرَوَيْنَا عَن عَبْد اللهِ بن أَبِي بَكْر أنَّ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ أخذ مِنَ المعادن مِن كلِّ مئتي درهمٍ خمسة دراهم، وعن أَبِي الزِّنَادِ قال: جعل عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ في المعادن أرباع العُشر إلَّا أن تَكونَ رِكْزةً، فإذا كانت رِكْزةً ففيها الخمسُ.
          (ص) وَقَالَ الْحَسَنُ مَا كَانَ مِنْ رِكَازٍ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ فَفِيهِ الْخُمُسُ، وَمَا كَانَ مِنْ أَرْضِ السِّلْمِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ.
          (ش) (الْحَسَنُ) هُوَ البِصْريُّ.
          قوله: (السِّلْمِ) بكسر السين وسكون اللَّام، وهو الصُّلح، وهذه التفرقةُ لم تعرف عن غيره.
          وَوَصَلَ هَذَا التَّعْلِيقَ ابن أبي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ عاصم الأحول عنه بِلَفْظ: «إذا وُجِدَ الكنز في أرض العدوِّ؛ ففيه الخمس، وإذا وُجِدَ في أرض العرب؛ ففيه الزكاة».
          (ص) وَإِنْ وَجَدْتَ اللُّقَطَةَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فَعَرِّفْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْعَدُوِّ فَفِيهَا الْخُمُسُ.
          (ش) هذا مِن تتمَّة كلام الحسن، وقَالَ ابن أبي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَبَّاد بْن الْعَوَّامِ عن هِشَام عَنِ الْحَسَنِ: الرِّكَازُ الكنز العاديُّ وفيه الخمس.
          و(اللُّقَطَةُ) بفتح القاف وسكونها، لكنَّ القياس أن يقال بالفتح للَّاقط، وسكون القاف للملقوطة، وإن كانت اللُّقطة من مال العدوِّ فلا حاجة إلى التعريف، بل يملكها ويجب فيها الخمس، ولا يكون لها حكم اللقطة بخلاف ما لو كانت في أرض العدوِّ المحتملة لكونها للمُسْلِمين.
          (ص) وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْمَعْدِنُ رِكَازٌ مِثْلُ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ لأَنَّهُ يُقَالُ: أَرْكَزَ الْمَعْدِنُ، إِذَا خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ، قِيلَ لَهُ: قَدْ يُقَالُ لِمَنْ وُهِبَ لَهُ شَيْءٌ، أَوْ رَبِحَ رِبْحًا كَثِيرًا، أَوْ كَثُرَ ثَمَرُهُ: أَرْكَزْتَ، ثُمَّ نَاقَضَ وَقَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَكْتُمَهُ فَلَا يُؤَدِّيَ الْخُمُسَ.
          (ش) قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْمُرَاد بـ«بَعْضُ النَّاسِ» أَبُو حَنِيفَةَ.
          قُلْت: جزم ابْن التِّينِ أنَّ الْمُرَاد به هو أَبُو حَنِيفَةَ، مِن أين أخَذَه؟ فلم لا يجوز أن يكون مرادَه / هو سُفْيَان الثَّوْريُّ مِن أهل الكوفة؟ أو الأَوْزَاعِيُّ مِن أَهْل الشَّامِ؟ فَإِنَّهُما قالا مثلَ ما قال أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ المعدن كالرِّكاز، وفيه الخُمُسُ في قليله وكثيره، على ظاهر قوله صلعم : «وفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ»، ولكنَّ الظاهر أنَّ ابْن التِّينِ لمَّا وقف على ما قاله البُخَاريُّ في «تاريخه» في حقِّ أَبِي حَنِيفَةَ مِمَّا لا ينبغي أن يُذكَر في حقِّ أحدٍ مِن أطراف الناس، فضلًا أن يقال في حقِّ إمامٍ هو أحدُ أركان الدين؛ صرَّح بأن الْمُرَاد بـ(بعض الناس) أَبُو حَنِيفَةَ، ولكن لا يُرمَى إلَّا شجرٌ فيه ثمر، وهذا ابن بَطَّالٍ قال: ذهب أَبُو حَنِيفَةَ والثَّوْريُّ وغيرهما إلى أنَّ المعدن كالركاز، واحتجَّ لهم بقول العرب: أركَزَ الرجلُ؛ إذا أصاب رِكازًا، وهي قِطَعٌ مِنَ الذهب تخرج مِنَ المعادن، وهذا قول صاحب «العين» وأَبِي عُبَيْدٍ، وفي «مَجمَع الغرائب»: «الركاز» المعادن، وفي «النهاية» لابْن الأَثِيرِ: المعدن والركاز واحدٌ، فإذا عُلِمَ ذلك بَطَل التشنيعُ على أَبِي حَنِيفَةَ.
          قوله: (مِثْلُ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ) بكسر الدال؛ كَمَا ذَكَرْنَا عَنْ قَرِيبٍ، بمعنى: المدفون.
          قوله: (لأَنَّهُ يُقَالُ: أَرْكَزَ الْمَعْدِنَ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ) الضمير في (لأنَّهُ) ضمير الشأن، وأشار به إلى تعليلِ مَن يقول: إنَّ المعدِن هو الركاز، وليس كذلك؛ لأنَّه لم يُنقَل عنهم ولا عن العرب أنَّهم قالوا: أركز المعدنُ، وإِنَّما قالوا: أركز الرجلُ، فإذا لم يكن هذا صَحِيحًا فكيف يتوجَّه الإلزام بقول القائل: قد يقال لمن وُهِبَ له... إِلَى آخِرِهِ؟ أراد أنَّهُ يلزم أن يقال: كلُّ واحدٍ مِنَ الموهوب والربح والثمر ركازٌ، فيجب فيه الخُمس، وليس كذلك، بل الواجب فيه العُشر، ومعنى (أركز الرجل) صار له ركازٌ مِن قطع الذهب؛ كَمَا ذَكَرْنَا، ولا يلزم منه أنَّهُ إذا وُهِب له شيءٌ أن يقال له: أركزتَ؛ بالخطاب، وكذلك إذا ربح ربحًا كثيرًا أو كثُر ثمره، ولو عَلِم المعترض أنَّ معنى (أفعَل) ههنا [ما هو؛ لَمَا اعترضَ ولا أفحشَ فيه، ومعنى (أفعل) ههنا] للصيرورة؛ يعني: لصيرورة الشيء منسوبًا إلى ما اشتقَّ منه الفعل؛ كـ(أغدَّ البعيرُ) أي: صار ذا غُدَّة، ومعنى (أركز الرجل) صار له رِكازٌ مِن قِطَعِ الذهب، كَمَا ذَكَرْنَاه، ولا يُقال إلَّا بهذا القيد؛ أعني: مِن قِطَع الذهب، ولا يقال: (أركز الرجلُ) مطلقًا.
          قوله: (ثُمَّ نَاقَضَ) أي: ناقض هذا القائلُ قولَه، وجهُ هذه المناقضة على زعمِه أنَّهُ قال أوَّلًا: المعدِن يجب فيه الخمس؛ لأنَّه ركاز، وقال ثانيًا: إنَّهُ لا يؤدَّى الخمس في الركاز، وهو متناولٌ للمعدن.
          قوله: (أَنْ يَكْتُمَهُ) أي: عنِ الساعي حَتَّى لا يطالب به.
          قُلْت: هذا ليس بمناقضة؛ لأنَّه فهم مِن كلام هذا القائل غير ما أراده، فصدر هذا عنه بلا تأمُّلٍ ولا تروٍّ.
          بيان ذلك: أنَّ الطَّحَاويَّ حكى عن أَبِي حَنِيفَةَ أنَّهُ قال: مَن وجد ركازًا فلا بأس أن يعطيَ الخُمس للمساكين، وإن كان محتاجًا جاز له أن يأخذه لنفسه، قال: وإِنَّما أراد أَبُو حَنِيفَةَ أنَّهُ تأَوَّل أنَّ له حقًّا في بيت المال، ونصيبًا في الفيء،؛فلذلك له أن يأخذ الخُمسَ لنفسه عوضًا مِن ذلك، ولقد صدق الشاعر:
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا                     وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ
          والكَرْمَانِيُّ أَيْضًا مشى في مشيهِم، ولكنَّه اعترف أنَّ النقض تعسُّفٌ حكاه عن ابن بَطَّالٍ ورضيَ به، وَقالَ بَعْضُهُمْ: نقل الطَّحَاويُّ عن أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا أنَّهُ لو وجد في داره معدنًا؛ فليس عليه شيءٌ، ثُمَّ قال: وبهذا يتَّجه اعتراضُ الطَّحَاويِّ.
          قُلْت: معناه: لا يجب عليه شيءٌ في الحال إلَّا إذا حال الحول، وكان نصابًا يجب فيه الزكاة، وبِهِ قَالَ أَحْمَد، وعند أَبِي يُوسُفَ، ومُحَمَّد: يجب الخمس في الحال، وعند مَالِك والشَّافِعِيِّ: الزكاة في الحال، وهذا مخالفٌ لقوله صلعم : «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ».
          وقال هذا القائل أَيْضًا: والفرق بين المعدن والركاز أنَّ المعدن يحتاج إلى عمل ومؤونة ومعالجة، بخلاف الركاز.
          قُلْت: هذا شيءٌ عجيبٌ! لأنَّه ليس بهذا يعرف حقيقة كلِّ واحدٍ منهما ما هي؟ والفرق بين الأشياء ببيان ماهيَّاتها وحقائقها، والَّذِي ذكره هذا مِنَ اللوازم الخارجة عن الماهيَّة.