عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب لا يقبل الله صدقة من غلول ولا يقبل إلا من كسب طيب
  
              

          ░7▒ (ص) بابُ لَا يَقْبَلُ اللهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ، وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، لِقَوْلِهِ: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}[البقرة:263].
          (ش) أي: هذا بابٌ ترجمته: (لَا يَقْبَلُ اللهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ)، هكذا وقع في رواية المُسْتَمْلِي، وفي رواية الأكثرين: <باب لا تُقبَلُ صدقةٌ مِن غُلول>، فقوله: <لا تُقبَلُ> على صيغة المجهول.
          وهذا قطعةٌ مِن حديثٍ أخرجه مسلمٌ مِن حديث مُصعَب بن سعد قال: دخل عبدُ الله بنُ عُمَر على ابنِ عامرٍ يعوده وهو مريضٌ، فقال: ألَا تدعو اللهَ لي يا بنَ عمر؟ فقال: إنِّي سمعتُ رسول الله صلعم يقول: «لا تُقبَل صلاةٌ بغير طهور، ولا صدقةٌ مِن غلول»، وكنتُ على البصرة.
          قُلْت: كأنَّه قاس الدعاءَ على الصلاة، فكما أنَّ الصلاةَ لا تكون إلَّا عن مصون مِنَ الأقذار؛ فكذلك الدعاء يكون للمصون مِن تبعات الناس، وكنت على البصرة وتعلَّقت بك / حقوق الناس، وكأنَّه ☺ قصد بهذا الزجرَ عليه والحثَّ على التوبة، وأخرجه الحسنُ بنُ سفيان في «مسنده» عن أبي كامل _أحدِ مشايخِ مسلمٍ_ فيه بلفظ: «لا يقبل الله صلاةً إلَّا بطهور، ولا صدقةً مِن غلول»، وروى أبو داود في «سننه»: حدَّثنا مسلم بن إبراهيمَ قال: حَدَّثَنَا شعبةُ عن قتادةَ، عن أبي المليح، عن أبيه، عن النَّبِيِّ صلعم قال: «لا يقبل الله ╡ صدقةً مِن غلول، ولا صلاةً بغير طهور».
          (الغُلُولُ) بِضَمِّ الغين: الخيانة في المغنَم، والسرقة مِنَ الغنيمة قبل القِسمة، يقال: غلَّ في المغنَم يغِلُّ _مِن (باب ضرب يضرِب) _ غُلولًا، فهو غالٌّ، وكلُّ مَن خان في شيء خفيةً فقد غلَّ، وسُمِّيَت غُلُولًا لأنَّ الأيديَ فيها مغلولةٌ _أي: ممنوعةٌ_ مجعولٌ فيها غِلٌّ؛ وهو الحديدة التي تَجمَع يدَ الأسير إلى عنقه، ويقال لها: «جامعة» أيضًا، وذكر ابنُ سِيدَه أنَّهُ يقال: غلَّ يغِلُّ غلولًا، وأغلَّ: خان، وخصَّ بعضُهم به الخونَ في الفَيء، وأغلَّه: خوَّنه، والإغلال: السرقة، قال ابن السِّكِّيت: لم يُسمَع في المغنم إلَّا غلَّ غُلولًا، وفي «الصحاح»: يُقال مِنَ الخيانة: أغلَّ يُغِلُّ، ومِنَ الحِقد: غلَّ يغِلُّ، ومِنَ الغُلُول: غلَّ يَغُلُّ؛ بالضمِّ.
          قوله: (وَلَا صَلَاةً) نكرةٌ في سياق النفي، فتعمُّ وتشمل سائرَ الصلوات مِنَ الفرض والنفل، و(الطُّهُور) بِضَمِّ الطاء، والمراد به الفعل، وهو قول الأكثرين، وقد قيل: يجوز فتحها، وهو بعمومه يتناول الماءَ والترابَ.
          قوله: (وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا مِنْ كَسَبٍ طَيِّبٍ) هذا في رواية المُسْتَمْلِي وحده، وهو قطعةٌ مِن حديث أبي هُرَيْرَة الآتي بعد هذا.
          قوله: (لِقَوْلِهِ) أي: لقول الله، قال الكَرْمَانِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: ما وجهُ تعليله بقوله تعالى: {وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ}، قُلْت: تلك الصدقة يتبعها الأذى يوم القيامة بسبب الخيانة، [ونُقِلَ عن بعضهم وجه مطابقة الترجمة للآية: أنَّ الأذى بعد الصدقة يُبطِلُها، فكيف بالأذى] المقارن لها؟ وذلك أنَّ الغالَّ يصَّدِّقُ بمال مغصوب، والغاصبُ مؤذٍ لصاحب المال عاصٍ بتصرُّفه فيه، فكان أولى بالإبطال، وقال ابن المُنَيِّر: فَإِنْ قُلْتَ: ما وجه الجمع بين الترجمة والآية؟ وهلَّا ذكر قولَه تعالى: {أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}[البقرة:267] قال: قُلْت: جرى على عادته في إيثار الاستنباط الخفيِّ والاتِّكالِ في الاستدلال الجليِّ على سبق الأفهام له، ووجه الاستنباط له يحتمل أنَّ الآيةَ لها إثباتُ الصدقةِ، غيرَ أنَّ الصدقةَ لمَّا تبعها سيِّئة الأذى بطلت، فالغُلُول غَصْبٌ، إذًا فيُقَارنُ الصدقةَ، فتبطل بطريق الأَولى.
          قوله: ({قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ}) أي: كلام حسن وردٌّ جميل على السائل، وقيل: دعاءٌ صالحٌ يدعو له، وارتفاع {قولٌ} على الابتداء وإن كان نكرةً؛ لأنَّه تخصَّص بالصفة، وقوله: ({خَيْرٌ}) خبره.
          وقوله: ({وَمَغْفِرَةٌ}) أي: سترٌ وتجاوزٌ مِنَ السائل إذا استطال عليه ({خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى}) [بمنَّة، وقيل: {مغفرة} أي: عفو عن ظلم قوليٍّ أو فعليٍّ خيرٌ مِن صدقة يتبعها أذى]، وقال الضحَّاك: نقول: أن تمسِكَ مالَك خيرٌ مِن أن تنفقَه، ثُمَّ تُتْبِعه منًّا وأذًى، ويقال: لمَّا علمَ اللهُ أنَّ الفقيرَ إذا رُدَّ بغير نوال يشقُّ عليه، وربَّما يدعو عليه ببسط اللسان وإظهار الشكوى؛ حثَّ على الصفح والعفو، ثُمَّ قال: ({وَاللّهُ غَنِيٌّ}) عن صدقة العباد، ولو شاء الله لأغنى جميعَ الخلق، ولكنَّه أعطى الأغنياءَ لينظر كيف شكرهم، وابتلى الفقراءَ لينظر كيف صبرهم، ({حَلِيمٌ}) لا يُعجِّل بالعقوبة، وقال الزَّمَخْشَريُّ: غنيٌّ لا حاجةَ به إلى مُنفِق يمنُّ ويُؤذِي، حليم عن معاجلته بالعقوبة، وهذا سخطٌ منه ووعيدٌ له، والله أعلم.