عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {لا يسألون الناس إلحافا}
  
              

          ░53▒ (ص) باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} الآيَةَ[البقرة:273]
          (ش) أي: هذا بابٌ في ذكر قول اللَّه تَعَالَى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}[لأجل مدح مَن لا يسأل النَّاس (إِلْحَافًا) ] أي: سؤالًا إلحافًا؛ أي: إلحاحًا وإبرامًا، قال الطَّبَريُّ: ألحف السائل في مسألته؛ إذا ألحَّ، فهو ملحفٌ فيها، وقال السُّدِّيُّ: لا يُلحِفون في المسألة إلحافًا.
          وهذا مِن آية كريمةٍ في (سورة البقرة) أوَّلُها: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ}[البقرة:273].
          قال المفسِّرون: قوله تعالى: ({لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ}) يعني: الْمُهَاجِرِينَ قد انقطعوا إلى اللهِ وإلى رسوله، وسكنوا المدينة، وليس لهم سببٌ يَرُدُّون به على أنفسهم ما يُغنيهم، و({لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ}) يعني: سفرًا للتسبُّب في طلب المعاش، و(الضرب في الأرض) هو السفر، قال تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ}[المزمل:20]، ومعنى عدم استطاعتهم: أنَّهم كانوا يكرهون المسير؛ لِئلَّا يفوتهم صحبة رَسُول اللهِ صلعم .
          قوله: ({يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ}) : في لباسِهم وحالهم ومَقالهم.
          قوله: ({تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ}) إِنَّما يظهر لذوي الألباب مِن صفاتهم؛ كما قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم}[الفتح:29]، وقيل: الخطاب للنبيِّ صلعم ، وقيل: الخطاب لكلِّ راغبٍ في معرفة حالهم، يقول: يُعرف فقرهم بالعلامة في وجوههم مِن أثر الجوع والحاجة، وفي «تَفْسِير النَّسَفِيِّ»: هم أصحاب الصُّفَّة، وكانوا أربعَ مئة إنسان، لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، فكانوا يخرجون في كلِّ سَرِيَّةٍ بعثها النَّبِيُّ صلعم ، ثُمَّ يرجعون إلى مسجد الرسول.
          قوله: ({وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ}) من أبواب القربات، ({فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ}) لا يخفى عليه شيءٌ منه ولا مِن غيره، وسيجزي عليه أوفى الجزاء وأتَمَّه يَوْم الْقِيَامَةِ أحوجَ ما يكون إليه.
          (ص) وَكَمِ الغِنَى؟
          (ش) أي: أيُّ مقدارِ الغِنَى الَّذِي يمنع السُّؤَال؟ و(كم) هنا استفهاميَّةٌ تقتضي التمييز، والتقدير: كَمِ الغِنَى؟ أهو الَّذِي يمنع السُّؤَال أم غيره؟
          و(الغِنَى) بكسر الغين وبالقصر: ضدُّ (الفقر) وإن صحَّت الرِّوَايَة بالفتح وبالمدِّ؛ فهو الكفاية، وقد تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُود: يا رَسُول اللهِ؛ ما الغِنَى؟ قال: «خمسون دِرْهَمًا»، وقد ذكرنا في (باب الاستعفاف في المسألة) جملة أحاديثٍ عن جماعة مِنَ الصحابة ♥ في هَذَا الْبَاب.