عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب المنان بما أعطى
  
              

          ░19▒ (ص) بابُ الْمَنَّانِ بِمَا أَعْطَى.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان ذمِّ المنَّان بما أعطى؛ أي: بما أعطاه، وإِنَّما قدَّرنا هكذا لأنَّ لفظ (المَنَّانِ) يُشعِرُ بالذمِّ؛ لأنَّه لا يُذكَر إلَّا في موضعِ الذمِّ في حقِّ بني آدم؛ ولهذا قال تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}[البقرة:264]، فإذا كان المنُّ مُبطِلًا للصدقات يكون مِنَ الأشياء الذميمة.
          وقال ابن بَطَّالٍ: الامتنانُ مُبطِلٌ لأجر الصدقة، قال تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}، وقال القُرْطُبيُّ: لا يكون المنُّ غالبًا إلَّا عنِ البُخل والكِبْرِ والعُجْبِ ونسيان منَّة الله تعالى فيما أنعم عليه، فالبخيلُ يُعظِّم في نفسه العطيَّةَ وإن كانت حقيرةً في نفسها، والعُجْبُ يحملُه على النظر لنفسه بعين العَظَمة، وأنَّه مُنعِمٌ بمالِهِ على المُعطَى، والكِبْرُ يحملُه على أن يَحْقِرَ المعطَى له وإن كان في نفسِه فاضلًا، وموجِبُ ذلك كلِّه الجهلُ ونسيانُ مِنَّة الله فيما أنعم به عليه، ولو نَظَر مصيرَه لعَلِمَ أنَّ المِنَّة للآخِذِ؛ لِما يُزيلُ عنِ المُعطي مِن إثم المنعِ وذمِّ المانع، ولِما يحصل له مِنَ الأجر الجزيل والثناء الجميل انتهى.
          وقد أخبر النَّبِيُّ صلعم بالوعيد الشديد في حقِّ المنَّان فيما رواه مسلم مِن حديث أبي ذرٍّ ☺ : «ثلاثة لا يكلِّمهم الله يوم القيامة: المنَّانُ الذي لا يُعطِي شيئًا إلَّا منَّة، والمنفقُ سلعته بالحلف، والمسبلُ إزاره»، وفي الباب أيضًا عن ابن مسعود وأبي هُرَيْرَة وأبي أمامة بن ثعلبة وعمران بن حُصَيْنٍ ومعقل بن يسار.
          فَإِنْ قُلْتَ: لم يَذْكُرِ البُخَاريُّ في هذا الباب حديثًا؟ قُلْت: كأنَّه لم يتَّفق له حديثٌ على شرطه؛ فلذلك اكتفى بذكر الآية المذكورة، وفي «التلويح»: والذي يُقارِبُ شرطَه حديثُ أبي ذرٍّ عن النَّبِيِّ صلعم الذي ذكرناه، وقال بعضهم: كأنَّه أشار إلى ما رواه مسلمٌ مِن حديث أبي ذرٍّ مرفوعًا.
          قُلْت: هذا كلامٌ غيرُ موجَّه؛ لأنَّه كيف يشير إلى شيءٍ ليس بموجود؟! / والإشارةُ إِنَّما تكون للحاضر؛ ولهذا لم تثبت هذه الترجمة إلَّا في رواية الكُشْميهَنيِّ وحده بغير حديث.
          (ص) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} الآيَةَ[البقرة:262].
          (ش) علَّل الترجمة بهذه الآية الكريمة، ووجه ذلك أنَّ الله تعالى مدحَ الذين ينفقون أموالهم في سبيله، ثُمَّ لا يُتْبِعُون ما أنفقوا مِنَ الخيرات والصدقات منًّا على ما أعطوه، فلا يمنُّون به على أحدٍ لا بقولٍ ولا بفعلٍ، والذين يُتْبِعُون ما أنفقوا منًّا وأذًى يكونون مذمومين، ولا يستحقُّون مِنَ الخيرات ما يستحقُّ الذين لا يُتْبِعُون مَنًّا ولا أذًى، فيكون وجه التعليل هذا، والشيء يتبيَّن بضدِّه.
          قوله: ({وَلَا أَذًى) } أي: ولا يفعلون مع مَن أحسنوا إليه مكروهًا يُحبِطُون به ما سلف مِنَ الإحسان، ثُمَّ وعدهم الله بالجزاء الجميل على ذلك، فقال: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي: ثوابهم على الله لا على أحد سواه، {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فيما يستقبلونه مِن أهوال القيامة، {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي: على ما خلفوه مِنَ الأولاد، ولا ما فاتهم مِنَ الحياة الدنيا وزهرتها، وذكر الواحديُّ عن الكلبيِّ قال: نزلت هذه الآية في عثمانَ وعبد الرَّحْمَن بن عوف، جاء عبد الرَّحْمَن إلى رسول الله صلعم بأربعة آلاف درهم نصف ماله، وقال عثمان: عليَّ جهاز مَن لا جهاز له في غزوة تبوك، فجهَّز المسلمين بألف بعير بأقتابها وأحلاسها، فنزلت فيهما هذه الآية الكريمة، والله أعلم، وقال ابن بَطَّالٍ: ذكر أهل التفسير أنَّها نزلت في الذي يعطي مالَه المجاهدَ في سبيل الله؛ معونةً لهم على جهاد العدوِّ، ثُمَّ يمُنُّ عليهم بأنَّه قد صنع إليهم معروفًا إمَّا بلسان أو بفعل، ولا ينبغي له أن يمُنَّ به على أحدٍ؛ لأنَّ ثوابه على الله تعالى.