عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية
  
              

          ░35▒ (ص) بابٌ: مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ؟
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذكَر فيه ما كان مِن خليطين... إِلَى آخِرِهِ.
          وكلمة (ما) هنا تامَّة نكرة، مضمَّنة معنى حرف الاستفهام، ومعناها: أيُّ شيءٍ كان من خليطين فَإِنَّهُما يتراجعان؟ و(الخليطان) تثنية (خليط)، واختُلِف في الْمُرَاد بـ(الخليط) ؛ فذهب أَبُو حَنِيفَةَ إلى أنَّهُ الشريك؛ لأنَّ الخليطين في اللغة الَّتِي خاطبنا بها رَسُول اللهِ صلعم هما الشريكان اللَّذان اختلط مالهما ولم يتميَّز؛ كالخليطين مِنَ النَّبِيذ، قاله ابْن الأَثِيرِ، وما لم يختلط مع غيرِه فليسا بخليطين، هذا ما لا شكَّ فيه، وإذا تميَّز مالُ كلِّ واحدٍ منهما مِن مال الآخر؛ فلا خلطة.
          فعلى قول أَبِي حَنِيفَةَ لا يجب على أحدٍ مِنَ الشريكين أو الشركاء فيما يملك إلَّا مثل الذي كان يجب عليه لو لم يكن خلط، وذكر في «المبسوط» وعامَّة كتب أصحابنا أنَّ الخليطين يُعتَبر لكلِّ واحدٍ نصابٌ كاملٌ؛ كحال الانفراد، ولا تأثير للخلطة فيها، سواء كانت شركة ملك بالإرث والهبة والشراء ونحوِها، أو شركةَ عقدٍ؛ كالعَنان والمفاوضة، ذكره الوبريُّ، وقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اختلفوا في رجلين بينهما ماشية نصاب واحد، قالت طائفة: لا زَكَاةَ عليهما، قال: هذا قول مَالِكٍ والثَّوْريِّ وأَبِي ثَوْرٍ وأَهْل الْعِرَاقِ، وقَالَ ابْنُ حَزْمٍ في «المحلَّى»: وبِهِ قَالَ شَرِيك بن عَبْد اللهِ والْحَسَنُ بْن حيٍّ، وقال الشَّافِعِيُّ واللَّيْث وابْنُ حَنْبَل وإِسْحَاق: يجب عليهما الزَّكَاة، ولو كانوا أربعين رجلًا لكلِّ واحد شاة؛ تجب عليهم شاة، وقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: الأَوَّل أصحُّ؛ يعني: عدم وجوب الزَّكَاة، وقَالَ ابْنُ حَزْمٍ في «المحلَّى»: الخلطة لا تُحيل حكم الزَّكَاة هو الصحيح، وقال الطرطوشيُّ: لا تصحُّ الخلطة إلَّا أن يكون لكلِّ واحدٍ منهما نصاب كامل، والمعاني المعتبرة فيها: الراعي، والفحل، والمَراح، والدلو، والمبيت، ذكرها مَالِك في «المدوَّنة»، ومنهم مَن ذكر (الحلاب) مكان (المبيت)، وحصولُ جميعها ليس بشرط، و(الحلاب) معناه: أن يكون الحالب واحدًا إلَّا أنَّه يخلط الألبان.
          ولو كان أحدهما عبدًا أو كافرًا؛ قال مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ: لم تصحَّ الخلطة، وقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ: تصحُّ، ولا يُشتَرط الخلطة في جميع الحَول، وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لو اختلطا قبل الحول بشهرين فأقلَّ؛ فهما خليطان، وقَالَ ابْنُ حَبِيب: أدناه شهرٌ، وقال أبو مُحَمَّد: إذا لم يُقصَد الفرار صحَّ، ورأى الأَوْزَاعِيُّ ومَالِكٌ وأَبُو الْحَسَنِ بن المفلِس مِنَ الظاهريَّة الخلطة في المواشي لا غير، ورأى الشَّافِعِيُّ حكم الخلطة الَّتِي قال به جاريًا في المواشي والزروع والثِّمَار والدراهم والدنانير، وقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: ورأى أنَّ مئتي نفس لو مَلَكوا مئتي درهم، كلُّ واحد دِرْهَمًا؛ يجب عليهم فيها خمسة دراهم، وقَالَ النَّوَوِيُّ: «الخُلطة» بِضَمِّ الخاء، سواءٌ كانت خلطة شيوع واشتراك في الأعيان، أو خلطة أوصافٍ وجوارٍ في المكان، بشروط تسعة: أن يكون الشركاء مِن أهل وجوب الزَّكَاة، وأن يكون المال بعد الخَلط نِصابًا، وأن يمضيَ عليه بعد الخلط حَوْلٌ كامل، وأن لا يتميَّز أحدهما عن الآخر في المَراح وفي المَسرح وفي المَشرب؛ كالبئر والنهر والحوض والْعَيْن، أو كانت المياه مختلفة بحيث لا يختصُّ غنمُ أحدهما بشيءٍ، والسابع: الراعي، والثامن: في الفحل، والتاسع: في المِحلب، ولا يشترط خلط اللبن، وقال أبو إِسْحَاق المَرْوَزِيُّ: يشترط، فيحلب أحدهما فوق لبن الآخر، قَالَ صَاحِبُ «البيان»: هو أصحُّ الوجوه الثَّلَاثَة، وفي وجه: يشترط أن يحلبا معًا، ويخلطان اللبن ثُمَّ يقتسمانه، وقَالَ صَاحِبُ «المفيد»: ويشترط عِنْدَهُ اتَّحاد الدلو والكلب، وقيل: ليس ذلك بمذهبه، وحكى الرافعيُّ عن الحنَّاطيِّ أنَّهُ حكى أنَّ خلط الجوار لا أثر لها، وغُلِّط، و(المَسرح) المرعى، وقيل: طريقها إلى المرعى، وقيل: الموضع الذي تجتمع فيه لتسرح، و(المِحْلب) بالكسر هنا / وهو الإناء الذي يُحلَب فيه.
          وفي بعض كتب الْحَنَابِلَة ذُكِرَ للخلطة ستُّ شرائط، ثُمَّ إنَّهُ قد يكون أثرُ الخلط في إيجابها، وقد يكون في تكثيرها، وقد يكون في تقليلها؛ مثال الأَوَّل: خمسٌ مِنَ الإبل أو أربعون مِنَ الغنم بين اثنين، تجب فيها الزَّكَاة، ولو انفردت لا تجب، ومثال الثَّانِي: لكلِّ واحدٍ منهما مئة شاة وشاة، [تجب على كلِّ واحدٍ شاةٌ ونصف، ولو انفردت يجب على كلِّ واحد شاةٌ]، ومثال الثَّالِث؛ وهو التقليل: مئة وعشرون شاةً بين ثَلَاثَةٍ، يجب على كلِّ واحد ثلث شاة، ولو انفردت لوجب على كلِّ واحد شاةٌ، واستدلُّوا بحديث الْبَابِ السَّابِق، ولنا أنَّهُ قد ثبت عن رَسُول اللهِ صلعم أنَّهُ قال: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْس ذَوْد صدقة...» الحديث، وجميع النصوص الواردة في نصب الزَّكَاة يمنع الوجوب فيما دونها، ولأنَّه لا حقَّ لأحدهما في ملك الآخر، وماله غير زكويٍّ؛ لنقصانه عن النصاب، ومثلُهُ مالُ الآخر.
          وقال أبو مُحَمَّد: ورأوا في خمسة أنفس لكلِّ واحد بنتُ مخاض يجب على كلِّ واحد خُمُس شاة، وفي عشرة بينهم خمسٌ مِنَ الإبل، لكلِّ واحد نصفُ بعير، يجب على كلِّ واحدٍ منهم عُشر شاةٍ، مع قوله صلعم : «ليس في أربعٍ مِنَ الإبل شيء»، فهذه زَكَاةٌ ما أوجبها اللَّه تَعَالَى قطُّ، وحكمٌ بخلاف حكمِ اللَّه تَعَالَى وحكمِ رَسُول اللهِ صلعم ، وجعلوا لمالِ أحدهما حكمًا في مال الآخر، وهذا باطل وخلافُ القُرْآن والسُّنَن، واشتراطُ الشروط التسعة المذكورة وغيرِها تحكُّمٌ بلا دليل أصلًا، لا مِن قرآن، ولا مِن سُنَّة، ولا مِن قول صاحب، ولا مِن قياس، ولا مِن وجهٍ معقول، وليتَ شِعْرِي! مَن جعل الخُلطة مقصورةً على الوجوه الَّتِي ذكروها دون أن يريد به الخُلطة في المنزل، أو في الصناعة، أو في الشركة، أو في الغنم كما قال طَاوُوس وعَطَاء؟؟ ولو وجبت بالاختلاط في المرعى؛ لوجبت في كلِّ ماشية في الأرض؛ لأنَّ المراعيَ متَّصلةٌ في أكثر الدنيا، إلَّا أن يقطع بينها بحرٌ أو نهرٌ أو عمارة، قال: وأَمَّا تقرير المَالِكيَّة الاختلاط بالشهر والشهرين؛ فتحكُّمٌ باردٌ، وقولٌ ظاهرُ الإحالة جدًّا؛ لأنَّه خصَّ بها المواشي فقط دون الخُلطة في الثِّمَار والزروع والنقدين، وليس ذلك في الخبر.
          فَإِنْ قُلْتَ: روى الدَّارَقُطْنيُّ والبَيْهَقيُّ عن سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص ☺ قال: قال رَسُول اللهِ صلعم : «الخليطان ما اجتمعا على الحوض والراعي والفحل».
          قُلْت: في سنده عَبْد اللهِ بْن لَهِيعَةَ، وهو ضَعِيفٌ، فلا يجوز التمسُّك به، وكذا ذكره عبد الحقِّ في «الأحكام الكبرى»، وأعجبُ الأمور أنَّ البَيْهَقيَّ إذا كان الحديثُ لهم يسكت عَنِ ابْنِ لهيعة وعن مثله، وإذا كان عليهم يتكلَّم فيهم بالباع والذراع.
          قوله: (فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ) أي: فإنَّ الخليطين يتراجعان بينهما؛ معناه: أنَّ الساعيَ إذا أخذ مِن مالِ أحدهما جميعَ الواجب؛ فَإِنَّهُ يرجع على شريكه بحصَّته؛ مثلًا إذا كان بينهما أربعون شاةً، لكلِّ واحد منهما عشرون، وقد عَرَف كلٌّ منهما عينَ مالِه، فأخذ المصدِّق مِن أحدهما شاةً؛ فإنَّ المأخوذ مِن ماله يرجع على خليطِه بقيمةِ نصف شاة، وهذه تُسمَّى خُلطة الجِوار، ويقع التراجع فيها، وقد يقع قليلًا في خُلطة الشيوع، وقَالَ صَاحِبُ «التوضيح»: والتراجع مقتضاه مِنَ اثنين.
          قُلْت: لا نُسلِّم ذلك؛ لأنه مِن (باب التفاعل)، ومقتضاه مِنَ اثنين وجماعة، والذي مقتضاه مِنَ اثنين فقط يكون مِن (باب المفاعلة)، كما عُلِمَ فِي مَوْضِعِهِ.
          (ص) وَقَالَ طاوُوس وَعَطَاءٌ: إِذَا عَلِمَ الْخَلِيطَانِ أَمْوَالَهُمَا فَلَا يُجْمَعُ.
          (ش) (طَاوُوس) ابن اليمان، و(عَطَاءٌ) ابن أَبِي رَبَاحٍ.
          وهذا تعليقٌ رَوَاهُ ابن أبي شَيْبَةَ في «مصنَّفه» عن مُحَمَّد بن بكر عن ابْن جُرَيْجٍ: أخبرني عَمْرو بن دِينَار عَنْ طَاوُوس قال: إذا كان الخليطان يعلمانِ أموالهما؛ فلا تُجمَعُ أموالهما فِي الصَّدَقَةِ، وحَدَّثَنَا مُحَمَّد بن بَكْرٍ عن ابْن جُرَيْجٍ قال: أخبرتُ عَطَاءً قولَ طَاوُوس، فقال: ما أراه إلَّا حقًّا، واعترض ابْن الْمُنْذِرِ وقال: قولُ طَاوُوس وعَطَاء غفلة منهما؛ إذ غيرُ جائز أن يتراجعا بالسويَّة والمالُ بينهما لا يَعْرِف أحدٌ مالَه مِن مالِ صاحبِه.
          قوله: (إِذَا عَلِمَ / الْخَلِيطَانِ) يعني: لا يكون المالُ بينهما مشاعًا، وهذا يُسمَّى بخُلطة الجِوار، فمذهبُ طَاوُوس وعَطَاء هو خُلطة الشيوع.
          (ص) وَقَالَ سُفْيَانُ: لَا تَجِبُ حَتَّى يَتِمَّ لِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً وَلِهَذَا أَرْبَعُونَ شَاةً.
          (ش) أي: قال سفيان الثَّوْريُّ: لا تجب الزَّكَاة، وقَالَ الكَرْمَانِيُّ: أي: لا يثبت الخلط، ورَوَاهُ عَبْد الرَّزَّاقِ عنه، وقال التَّيميُّ: كان سفيان لا يرى للخلطة تأثيرًا؛ كما لا يراه أَبُو حَنِيفَةَ، وفي «التوضيح»: وقولُ مَالِكٍ كقول عَطَاء.