عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {وفى الرقاب} {وفى سبيل الله}
  
              

          ░49▒ (ص) بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} {وَفِي سَبِيلِ اللهِ}[التوبة:60].
          (ش) أَي: هَذَا بَابٌ فِي بَيَانِ الْمُرَاد مِن قول اللَّه تَعَالَى: ({وَفِي الرِّقَابِ}) وكذا من قوله: ({وَفِي سَبِيلِ اللهِ}) وهما مِن آية الصدقات؛ وهي قوله تعالى: {إِنَّما الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} الآية، اقْتَطَعَهُما منها؛ للاحتياج إليهما من جملة مصارف الزكاة؛ وهي ثمانية:
          مِن جملتها (الرِّقَابُ) وهو جمع (رَقَبة)، وَالْمُرَاد: المكاتَبون يُعانون مِنَ الزكاة في فَكِّ رقابهم، وَهُو قَولُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ؛ منهم سَعِيد بْن جبير، وإِبْرَاهِيم النَّخَعِيُّ، والزُّهْريُّ، والثَّوْريُّ، وأَبُو حَنِيفَةَ، والشَّافِعِيُّ، ومالكٌ، واللَّيْث، وهو رِوَايَة ابْن الْقَاسِمِ وابن نافع عَن اللَّيْثِ، وفي «المغني»: وإليه ذهب أَحْمَد، وقَالَ ابْنُ تَيْمِيةَ: إن كان معه وفاءٌ لكتابته لم يعطِ لأجل فقره؛ لأنَّه عبد، وإن لم يكن معه شيءٌ أعطى الجميع، وإن كان معه بعضه تمَّمَ، سواءٌ كان قبل حلول النجم أو بعده؛ كيلا يحُلِ النجم وليس معه شيءٌ، فتفسخ الكتابة، ويجوز دفعُها إلى سيِّده، وعند الشَّافِعِيَّة: إن لم يحُلْ عليه نجمٌ؛ ففي صرفِه إليه وجهان، وإن دفعه إليه فأعتقه المولى أو أبرأه مِن بدل الكتابة أو عجز نفسه، والمال في يد المكاتب؛ رجع إليه، قَالَ النَّوَوِيُّ: وهو المذهب.
          قوله: ({وَفِي سَبِيلِ اللهِ}) وهو مُنقَطَع الغزاة عند أَبِي يُوسُفَ، ومُنقَطَع الحاجِّ عند مُحَمَّد، وفي «المبسوط»: {وفِي سَبِيلِ اللهِ} فقراء الغزاة عند أَبِي يُوسُفَ، وعند مُحَمَّد: فقراء الحاجِّ، وقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وفي «الإشراف»: قول أَبِي حَنِيفَةَ، وأَبِي يُوسُفَ، ومُحَمَّد: (سَبِيلُ اللهِ) هو الغازي غير الغنيِّ، وحكى أَبُو ثَوْرٍ عن أَبِي حَنِيفَةَ أنَّهُ الغازي دون الحاجِّ، وذكر ابن بَطَّالٍ أنَّهُ قول أَبِي حَنِيفَةَ، ومَالِكٍ، والشَّافِعِيِّ، ومثله النَّوَوِيُّ في «شرح المهذب»، وقال صاحب «التوضيح»: وأَمَّا قول أَبِي حَنِيفَةَ: لا يُعطى الغازي مِنَ الزكاة إلَّا أن يكون محتاجًا؛ فهو خلافُ ظاهرِ الكتاب والسُّنَّة، فأَمَّا الكتاب فقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللهِ}، وأَمَّا السُّنَّة فرَوى عَبْد الرَّزَّاقِ عن مَعْمَرٍ عن زيد بْن أَسْلَم عَنْ عَطَاءَ بْن يَسَارَ عن أَبِي سَعِيد الخُدْريِّ قال: قال رَسُول اللهِ صلعم : «لا تحلُّ الصدقة لغنيٍّ إلَّا لخمسة: لعاملٍ عليها، أو لغازٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، أو غنيٍّ اشتراها بماله، أو فقيرٍ تُصُدِّقَ عليه فأهدى لغنيٍّ أو غارم»، وأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وابْن ماجه، والْحَاكِم وقال: صَحِيح عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، ورَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مرسلًا.
          قُلْت: ما أحسنَ الأدب! سيَّما مع الأكابر، وأَبُو حَنِيفَةَ لم يخالف الكتاب ولا السُّنَّة، وإِنَّما عمِلَ بالسنَّة فيما ذهب إليه، وَهُو قَولُه صلعم : «لا تحلُّ الصدقة لغنيٍّ»، وقال: الْمُرَاد مِن قوله: «لغازٍ فِي سَبِيلِ اللهِ» هو الغازي الغنيُّ بقوَّة البدن والقدرة على الكسب، لا الغنيُّ بالنِّصاب الشرعي؛ بدليل حديث مُعَاذ: «وردَّها إلى فقرائهم».
          (ص) وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاس: يُعْتِقُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ، وَيُعْطِي فِي الْحَجِّ.
          (ش) علَّق هذا عَنِ ابْنِ عَبَّاس لِيُشيرَ أنَّ شراءَ العبد وعِتقَه مِن مال الزكاة جائزٌ، وهو مطابقٌ للجزء الأَوَّل مِنَ التَّرْجَمَة.
          وهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَبُو بَكْر في «مصنَّفه» عن أَبِي جَعْفَر عن الأَعْمَش عن حسَّان عن مجاهد عَنِ ابْنِ عَبَّاس ☻: أنَّهُ كان لا يرى بأسًا أن يُعطيَ الرجل مِن زكاته في الحجِّ، وأن يعتق النسمة منها، وفي «كتاب العِلَل» لعَبْد اللهِ بن أَحْمَد عَنْ أَبِيهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن عَيَّاش: حَدَّثَنَا الأَعْمَش عن / ابْن أَبِي نَجِيحٍ عن مجاهد: قَالَ ابْنُ عَبَّاس: أعتِقْ مِن زكاتك، وفِي رِوَايَة أَبِي عُبَيْدٍ: أعتِقْ مِن زكاة مَالِك، وقال الميمونيُّ: قيل لأبي عَبْد اللهِ: يشتري الرجل مِن زكاة ماله الرقاب فيعتق ويجعل في ابن السبيل؟ قال: نعم؛ ابْنُ عَبَّاس يقول ذلك، ولا أعلم شَيْئًا يدفعه، وهو ظاهر الكتاب، قال الخلَّال في «علله»: هذا قولُه الأَوَّل، والعملُ على ما بيَّنَّه الجماعة في ضعف الحديث، أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن هاشم الأنطاكيُّ قال: قال أَحْمَد: كنتُ أرى أن يعتقَ مِنَ الزكاة، ثُمَّ كففت عن ذلك؛ لأنِّي لم أرَ إسنادًا يصحُّ، قال حَرْب: فاحتجَّ عليه بحَدِيث ابْنِ عَبَّاس، فقال: هو مضطربٌ، انتهى.
          وبقول ابْن عَبَّاس في عتق الرقبة مِنَ الزكاة قال الْحَسَن البِصْريُّ، وعَبْد اللهِ بْن الْحَسَنِ العنبريُّ، ومَالِكٌ، وإِسْحَاقُ، وأَبُو ثَوْرٍ، وفي «الجواهر» للمَالِكيَّة: يشتري بها الإمام الرقاب، فيعتقها عن الْمُسْلِمِينَ، والولاءُ لجميعهم، وقَالَ ابْنُ وَهْب: هو في فكاك المكاتَبين، ووافق الجماعة، ولو اشترى بزكاتِه رقبةً، فأعتقها ليكون ولاؤه له؛ لا يُجزِئه عند ابْن الْقَاسِمِ، خلافًا لأشهب، ولا يُجزِئ فكُّ الأسير بها عند ابْن الْقَاسِمِ، خلافًا لابْن حَبِيب، ولا يدفع عند مَالِك والأَوْزَاعِيِّ إلى مكاتَب ولا إلى عبدٍ، موسِرًا كان سيِّدُه أو معسِرًا، ولا مِنَ الكفَّارات.
          وجهُ قول الْجُمْهُور ما رَوَاهُ البراء بن عازب: أنَّ رجلًا جاء إلى رسول الله صلعم فقال: دُلَّني على عملٍ يُقرِّبني مِنَ الجنَّة، ويُباعدني مِنَ النار، فقال: «أعتِقِ النَّسَمة، وفُكَّ الرَّقبة»، قال: يا رَسُول اللهِ؛ أوَليسا واحدًا؟ قال: «لا، عتق النَّسمة أن تنفرد بعتقها، وفكُّ الرقبة أن تُعينَ في ثمنها»، رَوَاهُ أَحْمَدُ والدَّارَقُطْنيُّ.
          (ص) وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنِ اشْتَرَى أَبَاهُ مِنَ الزَّكَاةِ؛ جَازَ، وَيُعْطِي فِي الْمُجَاهِدِينَ وَالَّذِي لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ تَلَا: {إِنَّما الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآيَةَ [التوبة:60] فِي أَيِّهَا أَعْطَيْتَ؛ أَجْزَتْ.
          (ش) مطابقتُه في الجزء الأخير مِنَ التَّرْجَمَة.
          و(الْحَسَنُ) هُوَ البَصْريُّ.
          هَذَا التَّعْلِيق رَوى بعضَه أَبُو بَكْر ابن أبي شَيْبَةَ عن حَفْصٍ عن أشعث بن سوَّار قال: سُئِل الحسن عن رجلِ اشترى أباه مِنَ الزكاة فأعتقه قال: اشترى خيرَ الرقاب.
          قوله: (فِي أَيِّهَا) أي: في أيِّ مصرفٍ مِنَ المصارف الثمانية (أَعْطَيْتَ؛ أَجَزَتْ) كذا في الأصل بغير همزٍ؛ أي: قضت، قَالَ الكَرْمَانِيُّ: «أعطيتَ» بِلَفْظ المَعْرُوف والْمَجْهُول، وكذلك «أجزأت» من الإجزاء، وذكر ابْن التِّينِ بِلَفْظ: «أَجْزت» بدون الْهَمْزَة، وقال: معناه: قضت عنه، وقيل: «جَزَى» و«أَجْزَى» بمعنًى؛ أي: قضى، ومِن قول الحسنِ يُعلَم أنَّ اللَّام في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ} لبيان المصرف لا للتمليك، فلو صرف الزكاة في صنفٍ واحد؛ كفى.
          (ص) وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : «إِنَّ خَالِدًا احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ».
          (ش) هَذَا التَّعْلِيقُ يأتي في هَذَا الْبَاب مَوْصُولًا، و(الأدْرَاع) جمع (دِرْع)، ويروى: <أَدْرعة>.
          (ص) وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي لَاسٍ: حَمَلَنَا النَّبِيُّ صلعم عَلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ لِلْحَجِّ.
          (ش) (أَبُو لَاسٍ) بالسين الْمُهْمَلة، خزاعيٌّ، وقيل: حارثيٌّ، يعدُّ في المَدَنِيِّين، اختُلِفَ في اسمه؛ فقيل: زياد، وقيل: عَبْد اللهِ بن عَنَمَة؛ بعين مُهْمَلة مفتوحة بعدها نون مفتوحة، وقيل: مُحَمَّد بْن الْأَسْوَدِ، وله حديثانِ أحدهما هذا، وليس لهم أبو لاسٍ غيره، وهو فردٌ.
          وهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عن عُبَيد بن غَنَّام: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر ابن أبي شَيْبَةَ، وحَدَّثَنَا أَبُو خليفة: حَدَّثَنَا ابْنُ المدينيِّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عُبَيد الطَّنَافِسِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاقَ عن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بْن الْحَارِثِ عن عُمَر بْن الْحَكَم بن ثوبان عن أَبِي لَاسٍ قال: حملنا رَسُول اللهِ صلعم على إبلٍ مِن إبل الصدقة ضِعافٍ للحجِّ، فقلنا: يا رَسُول اللهِ؛ ما نرى أن تحملنا هذه، فقال: «ما مِن بعيرٍ إلَّا وفي ذروته شيطان، فإذا ركبتموها فاذكروا نعمة اللهِ عليكم كما أمركم اللهُ، ثُمَّ امتهنوها لأنفسكم، فإِنَّما يحمل اللهُ»، وأَخْرَجَهُ أَحْمَد أَيْضًا وابْن خُزَيْمَةَ والْحَاكِم وغيرهم، ورجاله ثقاتٌ، إلَّا أنَّ فيه عنعنةَ ابْن إِسْحَاقَ؛ ولهذا توقَّف ابْن الْمُنْذِرِ في ثبوته.