عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب أي الصدقة أفضل؟
  
              

          ░11▒ (ص) بابٌ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ وصَدَقَةُ الشَّحِيحِ الصَّحِيحِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذكَرُ فيه أيُّ الصدقة مِنَ الصدقات أفضلُ وأعظمُ أجرًا؟ هكذا هو الترجمة في رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذرٍّ: <باب فضل صدقة الشحيح الصحيح>.
          قوله: (وَصَدَقَةُ الشَّحِيحِ) بالرفع عطف على ما قبله مِنَ المقدَّر؛ تقديره: وفضل صدقة الشحيح، ولم يتردَّد فيه؛ لأنَّ فضْلَ صدقة الشحيح الصحيح على غيرِه ظاهرٌ؛ لأنَّ فيه مجاهدةَ النفس على إخراج المال الذي هو شقيقُ الروح مع قيام مانع الشحِّ، وليس هذا إلَّا مِن قوَّة الرغبة / في القربة وصحَّة العقد، فكان أفضلَ مِن غيره، وتردَّد في الأَوَّل بكلمة (أيُّ) التي هي للاستفهام؛ لأنَّ إطلاق الأفضليَّة فيه موضعُ التردُّد.
          قوله: (الشَّحِيحِ) صفة مشبَّهة مِنَ الشحِّ، قال ابن سِيدَه: الشُّحُّ والشَّحُّ والشِّحُّ: البخل، والضمُّ أعلى، وقد شَحَحْتَ تَشِحُّ وتَشَحُّ، وشَحِحْتَ تَشِحُّ، ورجلٌ شحيحٌ وشِحاحٌ، مِن قوم أشحَّة وأشحَّاء، ومِشْحاح، ونفسٌ شَحَّةٌ شحيحة، وعن ابنِ الأعرابيِّ: وتشاحُّوا في الأمر وعليه، وفي «الجامع»: حكى قومٌ الشَّحَّ والشُّحَّ، وأرى أن يكون الفتحُ في المصدر، والضمُّ في الاسم، وجمعه في أقلِّ العدد «أشحَّة»، ولم أسمع غيرَه، وفي «المنتهى» لأبي المعالي: «الشحُّ» بخلٌ مع حرص، وقال أبو إسحاقَ الحربيُّ في كتابه «غريب الحديث»: للشحِّ ثلاثةُ وجوه؛ الأَوَّل: أن تأخذَ مال أخيك بغير حقِّه، قال رجلٌ لابن مسعود: ما أُعطِي ما أقدر على منعه، قال: ذاك البخل، والشحُّ أن تأخذ مال أخيك بغير حقٍّ، الثاني: ما رُوِيَ عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ أنَّهُ قال: الشحُّ: منع الزكاة وادَّخارُ الحرام، الثالث: ما رُوِيَ: «أَنْ تصَّدَّق وأنت صحيحٌ شحيحٌ»، قال: والذي يبرأ مِنَ الوجوه الثلاثة ما رُوِيَ: «بَرِئَ مِنَ الشحُّ مَن أدَّى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة»، وفي «المغيث»: «الشحُّ» أبلغ في المنع مِنَ البخل، والبخل في أفراد الأمور وخواصِّ الأشياء، والشحُّ عامٌّ، وهو كالوصف اللازم مِن قِبَلِ الطَّبع والجِبِلَّة، وقيل: البخل بالمال والشحُّ بالماء والمعروف، وقيل: الشحيحُ: البخيل مع التحرُّص، وفي «مَجْمَع الغرائب»: «الشحُّ المطاع» هو البخيل الشديد الذي يملك صاحبَه؛ بحيث لا يمكنه أن يُخالفَ نفسَه فيه.
          (ص) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}[المنافقون:10].
          (ش) علَّلَ الترجمةَ بهذه الآية الكريمة؛ لأنَّ معناها التحذيرُ مِنَ التسويف بالإنفاق؛ استبعادًا لحلول الأَجَل، واشتغالًا بطول الأمل، والترجمةُ في فضل صدقة الصحيح الشحيح؛ لأنَّ فيها مجاهدةَ النفس على الإنفاق؛ خوفًا من هُجوم الأَجَل مع قيام المانع؛ وهو الشحُّ، فلذلك كانت صدقتُه أفضلَ مِن صدقة غيرِه، وهذا هو وجه المطابقة بين الترجمة والآية، والآيةُ الكريمة في (سورة المنافقين)، ومعنى ({أَنفِقُوا}) : تصدَّقوا مِمَّا رزقكم الله مِنَ الأموال ({مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}) يعني: يقول: يا سيِّدي؛ ردَّني إلى الدنيا {فَأَصَّدَّقَ} يعني: فأتصدَّق، ويُقال: أصدِّق بالله {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}[المنافقون:10]؛ يعني: أفعل ما فعل المصَّدِّقون، وروى الضحَّاك عن ابن عَبَّاسٍ أنَّهُ قال: مَن كان له مالٌ تجب فيه الزكاة فلم يزكِّه، أو مالٌ يُبلِّغه بيتَ ربِّه فلم يحجَّ؛ سأل عند الموت الرجعةَ، قال: فقال رجلٌ: اتَّق الله يا بن عَبَّاس، إِنَّما سألَت الكفَّارُ الرجعةَ، قال ابن عَبَّاس: إنِّي أقرأ عليك بهذا القرآن.
          (ص) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ} الآيَةَ[البقرة:254].
          (ش) (وَقَوْلِهِ) بالجرِّ عطف على (لِقَوْلِهِ)، وهذه الآية الكريمة في (سورة البقرة)، وهذه متأخِّرةٌ عن الآية الأولى في رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذرٍّ بالعكس، وقد أمر الله تعالى هنا أيضًا بالإنفاق مِمَّا رزقهم الله في سبيله؛ ليدَّخروا ثوابَ ذلك عند ربِّهم، فعليهم المبادرة إلى ذلك ({مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ}) أي: لا بدل فيه، وذكر لفظ (البيع) لِما فيه مِنَ المعاوضة وأخْذِ البدل، {وَلَا خُلَّةَ} أي: ليس خليلٌ ينفع في ذلك اليوم، ولا شفاعة للكافرين، {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}؛ لأنَّهم وضعوا العبادة في غير موضعها وعوَّلوا على شفاعة الأصنام، وروى ابنُ أبي حاتم عن عطاء بن دينارٍ أنَّهُ قال: الحمد لله الذي قال: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، ولم يقل: والظالمون هم الكافرون.