عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول النبي: الدين النصيحة لله ولرسوله
  
              

          ░42▒ (ص) بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم : «الدِّينُ النَّصِيحَةُ للَّهِ ولِرَسُولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِمْ»، وقولِهِ تعالى {إِذَا نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ}.
          (ش) الكلامُ فيه على وُجوهٍ:
          الأوَّل: أنَّ (بَاب قَولِ النَّبِيِّ صلعم ) كلامٌ إضافِيٌّ مَرفوعٌ على أنَّهُ خَبَرُ مُبتدأٍ مَحذوفٍ؛ تقديرُهُ: هذا بابُ قولِ النَّبِيِّ صلعم ، وقولُهُ: (الدِّين) مُبتدأٌ، و(النَّصِيحَةُ) خبرهُ، وهذا التركيبُ يفيدُ القَصْرَ والحَصْرَ؛ لأنَّ المُبتدأَ والخبرَ إذا كانا مَعْرِفَتين؛ يستفادُ ذلك منهما.
          فإنْ قُلتَ: ما مَحلُّ هذهِ الجُمْلَةِ؟
          قلتُ: النَّصْبُ؛ لأنَّهُ مَقول القَولِ، واللامُ في (للهِ) صِلَةٌ؛ لأنَّ الفصيحَ أنْ يُقال: نَصَحَ لَهُ.
          فإنْ قُلتَ: لِمَ تركَ اللَّام في (عامَّتِهم) ؟ قلتُ: لأنَّهم كالأتباعِ للأئمَّةِ لا استقلالَ لَهُم، وإعادةُ اللَّامِ تدلُّ على الاستقلالِ.
          قوله: (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بالجَرِّ، عطفٌ على قولِهِ: (قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم ).
          الثاني: وجْهُ المناسبَةِ بين البابَين من حيثُ إنَّ المذكورَ في البابِ الأوَّل: أنَّ الأعمالَ بالنيَّاتِ، وأنَّها لا تقبل إلَّا إذا كانَتِ ابتغاءً لوجهِ الله تعالى مع تَرك الرِّياءِ، والعملُ على هذا الوجه مِن جُملَةِ النَّصيحَةِ لله تعالى، ومن جُمْلَةِ النَّصيحَةِ لرَسُولِهِ أيضًا؛ حيثُ أتى بعملِهِ على وُفْقِ ما أمر به الرَّسولُ صلعم مُجْتَنبًا عمَّا نَهاهُ عنه.
          ثُمَّ إنَّ البُخَاريَّ ☼خَتَمَ (كتابَ الإيمانِ) بهذا / الحديثِ؛ لأنَّهُ حَديثٌ عظيمٌ جليلٌ حَفيلٌ، عليه مَدار الإسلام، كما قيلَ: إنَّهُ أحدُ الأحاديث الأربعةِ التي عليها مَدارُ الإسلام، فيكونُ هذا ربعَ الإسلام، ومنهم مَن قال: يُمْكِنُ أنْ يُستخرجَ منه الدليلُ على جميعِ الأحكام.
          الثالث: أنَّهُ ذكر هذا الحديثَ مُعلَّقًا، ولم يُخرِّجهُ مُسندًا في هذا الكتاب؛ لأنَّ راويَ الحديثِ تَميمٌ الدَّارِيُّ، وأشهَرُ طُرقِهِ فيه: سُهيل بن أبي صالحٍ، وليسَ مِن شَرْطِهِ؛ لأنَّهُ لَمْ يُخرِّج له في «صحيحه»، وقَد أخرَجَ له مُسلمٌ والأربعة، وروى عنه مالكٌ ويحيى الأنصاريُّ والثَّوْريُّ وابن عُيَيْنَةَ وحَمَّادُ بن سَلَمَة وخَلقٌ كثيرٌ، وقال البُخَاريُّ: سمعتُ عليًّا _يعني: ابنَ المَدينيِّ_ يقول: كان سُهيل بن أبي صالح ماتَ له أخٌ، فوجَدَ عليه، فَنَسِيَ كثيرًا مِنَ الأحاديث، وقال يَحيى بن مَعينٍ: لا يُحْتَجُّ به، وقال أبو حاتمٍ: يُكْتَبُ حَديثُهُ، وقال ابن عَديٍّ: وهو عندي ثَبْتٌ لا بأسَ به، مقبولُ الأخبارِ، وقد روى عنه الأئمَّة، وقال الحاكمُ: وقد روى مالكٌ [عنه، وهو الحَكَمُ] في شيوخِهِ مِن أهل المدينة النَّاقدُ لهم، ثُمَّ قال في أحاديثِهِ بالعراق: إنَّهُ نَسِيَ الكثيرَ منها، وساءَ حِفْظهُ في آخِرِ عُمْرِهِ، وقد أكثَرَ مُسلمٌ عنه في إخراجِهِ في الشواهِدِ مَقْرُونًا في أكثرِ رواتِهِ بحافِظٍ لا يدافِع، فيسلمُ بذلك مِن نِسبَتِهِ إلى سُوء الحِفْظِ، ولكن لَمَّا لَم يكن عند البُخَاريِّ مِن شَرْطِهِ؛ لم يأتِ فيه بصيغَةِ الجَزْمِ، ولا في مَعرِض الاستدلالِ، بل أدخلَهُ في التبويبِ، فقال: بابُ قولِ النَّبِيِّ صلعم كذا، فَلَمْ يتركْ ذكرَه؛ لأنَّهُ عندَهُ مِنَ الواهي، بل ليُفهَم أنَّهُ اطَّلَعَ عليه أنَّ فيه عِلَّةً منعتهُ مِن إسنادِهِ، وله من ذلِكَ في كتابِهِ كثيرٌ يقفُ عليه مَن له تَمييزٌ، والله أعلَمُ.
          الرابع: أنَّ هذا الحديثَ أخرجَهُ مُسلمٌ: حدَّثنا مُحَمَّد بن عبَّادٍ المَكِّيُّ: حدَّثنا سُفيانُ عن سُهيلٍ عن عطاءِ بنِ يَزيدَ اللَّيْثِيِّ عن تَميمٍ الدَّارِيِّ: أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: «الدِّينُ النَّصيحَة»، قلنا: لِمَن؟ قال: «لله ولكتابه ولِرَسُولِهِ ولأئمَّةِ المسلمينَ وعامَّتِهم»، وليس لتميمٍ الدَّارِيِّ في «صحيح مسلم» غيرُه، أخرَجَهُ في (بابِ الإيمان).
          وأخرجَهُ أبو داود أيضًا في (الأَدَبِ) عن أحمد ابن يُونُس عن زُهَيرٍ عن سُهيلٍ بِهِ.
          وأخرجَهُ النَّسائيُّ في (البَيْعَةِ) عن يَعقوب بن إبراهيم عن عبدِ الرحمن عن سفيانَ الثَّوْريِّ بِهِ، وعن مُحَمَّد بن مَنصور عن سُفيان بن عُيَيْنَةَ بِهِ.
          وأخرجَهُ إمامُ الأئمَّةِ مُحَمَّدُ بن إسحاقَ بن خُزَيْمَةَ في كتاب «السياسَة» تأليفه: حَدَّثنا عبد الجبَّار بن العلاء المَكِّيُّ: حدَّثنا ابن عُيَيْنَةَ عن سُهيلٍ: سَمِعْتُ عطاء بن يزيد: حدَّثنا تَميمٌ قال: قال رسولُ الله صلعم : «الدِّينُ النصيحَةُ، الدينُ النصيحَةُ»، فقال رجلٌ: لِمَن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولنبيِّهِ ولأئمَّةِ المؤمنينَ وعامَّتِهم».
          الخامس: أنَّ حديثَ النَّصيحَةِ رُوِيَ عن سُهيلٍ عن أبيهِ عن أبي هُرَيرَةَ، وهو وَهَمٌ مِن سُهَيلٍ، أو مِمَّنْ روى عنه، قال البُخَاريُّ في «تاريخه»: لا يصحُّ إلَّا عن تَميمٍ؛ ولهذا الاختلافِ لم يُخرِّجهُ في «صحيحه»، وللحديثِ طرقٌ دونَ هذه في القُوَّة؛ فمنها: ما أخرجَهُ أبو يعلى مِن حديثِ ابن عَبَّاس، ومنها: ما أخرجَهُ البَزَّارُ مِن حديثِ ابن عُمَرَ ☻.
          السادس: قولُهُ: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ) فيهِ حَذفٌ؛ تقديرُهُ: عِمادُ الدِّينِ وقوامُه [النَّصيحَةُ؛ [كقوله: (الحجُّ عرفَةَ) ؛ أي: عِمادُ الحجِّ وقوامُهُ] وُقوفُ عَرَفَةَ، [أو التَّقديرُ: مُعظَم أركان الدِّين النَّصيحَةُ]؛ [كما يُقال في الحجِّ: عَرَفَةُ؛ أي: مُعظمُ أركان الحَجِّ وقوفُ عَرَفَة]، وأصلُ (النَّصيحَة) ] مأخوذٌ مِن نَصَحَ الرَّجُلُ ثوبَه؛ إذا خاطَهُ بالمِنْصَحِ؛ وهي الإبْرَة، والمعنى: أنَّهُ يَلمَّ شعثَ أخيهِ بالنُّصح؛ كما تَلمُّ المِنْصَحَةُ، ومنه التَّوبَةُ النَّصوح، كأنَّ الذنبَ يمزِّقُ الدِّينَ والتوبَة تَخيطُهُ، وقال المازريُّ: النَّصيحَةُ مُشتقَّةٌ مِن: نَصحتُ العسلَ؛ إذا صفيتَهُ مِنَ الشَّمَع، شَبَّه تخليصَ القولِ مِنَ الغِشِّ بتخليص العَسَلِ مِنَ الخَلطِ، وفي «المحكم» «النُّصح»: نقيضُ الغشِّ، نصحَ له ونصحَهُ ينصَحُ نُصْحًا ونَصُوحًا ونِصَاحَةً ونَصَاحَةً، وفي «الجامِعِ»: النُّصحُ: بذل المودَّةِ والاجتهادِ في المشورَةِ، وفي «كتاب ابن طريفٍ»: نَصَح قَلبُ الإنسانِ: يخلص مِنَ الغُشِّ، وفي «الصَّحاح»: هو باللَّامِ أَفْصَحُ، وفي «الغَريبين»: «نَصحتهُ»: قالَ أبو زَيدٍ؛ أي: صَدَّقتهُ، وقال الخَطَّابِيُّ: «النَّصيحَةُ» كَلِمَةٌ جامِعَةٌ؛ معناها: حيازَةُ الحَظِّ للمنصوحِ لَهُ، ويُقال: هو مِن وجيزِ الأسماءِ، ومُخْتَصر / الكلام، وليسَ في كلام العَرَبِ كلمةٌ مُفرَدَةٌ تُستوفَى بها العبارةُ غير مَعنى [هذه الكلمة؛ كما قالوا في «الفلاحِ»: ليسَ في كلامِ العَرَبِ كلمَةٌ مُفردَةٌ تُستوفى بها العبارَةُ غير معنى] ما جَمَعَتْ مِن خيرِ الدنيا والآخرة.
          أمَّا (النَّصيحَةُ لله تعالى) ؛ فمَعْنَاها يَرْجِعُ إلى الإيمانِ بِهِ، ونفيِ الشِّرْكِ عنهُ، وتركِ الإلحادِ في صِفاتِهِ، ووصفهُ بصفاتِ الجلال والكَمال، وتنزيهه تعالى عن النَّقائِص، والقيام بطاعتِهِ، واجتناب معصيَتِهِ، وموالاة مَن أطاعه ومعاداة مَن عصاهُ، والاعتراف بِنِعْمَتِهِ وشُكْرِهِ عليها، والإخلاص في جميع الأمور، قال: وحقيقَةُ هذه الإضافَةِ راجِعَةٌ إلى العبدِ في نَصيحَةِ نفسِهِ؛ فإنَّهُ تعالى غَنِيٌّ عن نُصحِ النَّاصِحِ وعن العالَمين.
          وأمَّا (النصيحَةُ لكتابَه سُبحانه وتعالى) ؛ فالإيمانُ بأنَّهُ كَلامُ الله تعالى وتَنزيلُهُ، لا يُشبِهه شيءٌ مِن كلامِ الخَلقِ، ولا يَقدر على مِثْلِهِ أحدٌ مِنَ المخلوقاتِ، ثمَّ تَعظيمهُ وتلاوته حقَّ تلاوتِهِ، وإقامَة حُروفِهِ في التِّلاوَةِ، والتصديقُ بما فيهِ، وتَفهُّم عُلومِهِ، والعملُ بِمُحْكَمِهِ، والتسليمُ لمتشابَهِهِ، والبحثُ عن ناسِخِهِ ومَنْسوخِهِ، وعمومِهِ وخصوصِهِ، وسائرِ وجوهِهِ، ونشر علومِهِ، والدعاء إليه.
          وأمَّا (النَّصيحَةُ لرسولِهِ صلعم ) ؛ فتصديقه على الرِّسالَةِ، والإيمانِ بجميعِ ما جاءَ به، وطاعته في أوامرِهِ ونواهيهِ، ونصرته حَيًّا ومَيَّتًا، وإعظام حَقِّهِ، وإحياء سُنَّتِهِ، والتلطُّف في تعلُّمِها وتعليمها، والتخلُّق بأخلاقه، والتأدُّب بآدابهِ، ومحبَّة أهل بيتِهِ وأصحابِهِ.
          وأمَّا (النَّصيحَةُ للأئمَّةِ) ؛ فمعاونتُهم على الحَقِّ وطاعتُهم فيهِ، وتذكيرُهم برفقٍ، وتركُ الخروج عليهم بالسَّيف ونحوه، والصَّلاةُ خَلفَهم، والجهادُ معهم، وأداءُ الصدقات إليهم، هذا على المشهورِ مِن أنَّ المرادَ مِنَ الأئمَّةِ أصحابُ الحكومَةِ؛ كالخلفاءِ والولاةِ، وقَد يؤوَّلُ بعلماءِ الدِّينِ، ونَصيحَتُهم: قبولُ ما رَوَوهُ، وتقليدُهم في الأحكامِ، وإحسانُ الظنِّ بهم.
          وأمَّا (نَصيحَةُ العامَّةِ) ؛ فإرشادُهُم لمصالِحِهم في آخرتِهم ودنياهم، وكفُّ الأَذَى عنهم، وتعليمُ ما جَهِلوا، وإعانَتهم على البِرِّ والتَّقوى، وسَترُ عوراتِهم، والشَّفَقَة عليهِمْ، وأنْ يُحِبَّ لهم ما يُحِبُّ لنَفْسِهِ مِنَ الخَيرِ.
          السابع: في الحديثِ فوائِدُ أخرى:
          منها: ما قِيل: إنَّ الدينَ يُطْلَقُ على العَمَلِ؛ لكونِهِ سَمَّى النَّصيحَةَ دِينًا.
          ومنها: أنَّ النصيحَةَ فَرضٌ على الكفايَةِ، لازمةٌ على قَدْرِ الطاقَةِ إذا عَلِمَ النَّاصِحُ أنَّهُ يُقبَلُ نُصْحُهُ، ويُطاع أمرُهُ، وأَمِنَ على نفسِهِ المكروهَ، فإنْ خَشِيَ؛ فهُو في سَعةٍ، فيجبُ على مَن عَلِمَ بالمبيعِ عَيْبًا أنْ يُبيِّنَهُ، بائعًا كانَ أو أجنبيًّا، ويَجِبُ على الوكيلِ والشريكِ والخازِن النُّصْحُ.
          ومنها: أنَّ النَّصيحَةَ كما هِيَ فَرضٌ للمذكورين، فكذلِكَ هي فَرضٌ لِنَفْسِهِ؛ بأنْ يَنْصَحَها بامتثالِ الأوامِرِ واجتنابِ المَناهِي.
          الثامن: (قوله تَعَالى: {إِذَا نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ}[التوبة:91]) في (سورةِ بَراءَة)، وأوَّل الآيَةِ: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلَا عَلَى المَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ} الآيةَ، أكَّدَ الحديثَ المذكورَ بهذه الآية، والمراد بـ{الضُّعَفَاءِ}: الزَّمْنى والهَرْمَى، و{الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ}: الفُقَراء، و(النصحُ للهِ ورسولِهِ) : الإيمانُ بهما، وطاعتهما في السرِّ والعَلَنِ.