عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب إطعام الطعام من الإسلام
  
              

          ░6▒ (ص) بابٌ: إطْعامُ الطَّعامِ مِنَ الإِسْلامِ.
          (ش) الكلامُ فيه مثل الكلامِ فيما قبلهُ في الإعراب وتركِهِ، وفي رواية الأَصِيلِيِّ: <من الإيمانِ> موضعَ (من الإسلامِ)، والتقديرُ: إطعامُ الطعامِ مِن شُعَبِ الإسلامِ أو الإيمانِ؛ وذلك لأنَّهُ لَمَّا قالَ أوَّلًا: (بابُ أمورِ الإيمانِ)، وذكرَ فيهِ أنَّ الإيمانَ لَهُ شُعَبٌ؛ ذكَرَ عَقيبَهُ أبوابًا، كلُّ بابٍ مِنها يَشتمل على شيء من الشُّعَبِ، وهذا البابُ فيه شعبتان؛ الأولى: إطعامُ الطعام، والثانية: إقراء السلام مطلقًا.
          وبقيت المناسبة بين البابين؛ وهي: أنَّ البابَ الأوَّل فيه أفضليَّة مَن سَلِمَ المسلمونَ مِن لسانِهِ ويدِهِ، وقد ذكرنا أنَّ المرادَ مِن الأفضليَّةِ الخيريَّةُ وأكثريَّة الثواب، وهذا البابُ فيه خيريَّةُ مَن يُطْعِم الطعامَ ويقرأ السلامَ، ولا شَكَّ أنَّ المُطعَم في سَلامَةٍ مِن لسان المُطعم ويَدِهِ؛ لأنَّهُ لَمْ يُطعمهُ إلَّا عَن قَصْدِ خَيرٍ لَهُ، وكذلك المُسلَّمُ عليهِ في سَلامةٍ مِن لسان المُسلِّمِ ويَدِهِ؛ لأنَّ مَعْنَى (السَّلام عَليكَ) : أنتَ سالِمٌ مِنِّي ومن جِهَتِي.
          فإن قلتَ: كان يَنبغي أنْ يقول: بابٌ: أيُّ الإسلامِ خَيرٌ؟ كما قالَ في الباب الأوَّل: (أيُّ الإسلام أفضلُ؟).
          قلتُ: لاختلافِ المقامِ؛ لأنَّ الأفضليَّة هناك راجِعَةٌ إلى الفاعلِ، والخيريَّةُ ههنا راجعَةٌ إلى الفعلِ، وهذا أوجهُ وأحسنُ من الذي قاله الكرمانِيُّ؛ وهو: أنَّ الجوابَ ههنا _وهو: تُطْعِمُ الطعامَ_ صَريحٌ في أنَّ النَّبِيَّ ◙ جَعَل الإطعامَ من الإسلامِ، بخلافِ ما تقدَّمَ؛ إذْ ليسَ صريحًا في أنَّ سلامة المسلمينَ منه من الإسلامِ، انتهى.
          قلتُ: إذا كانَ مَن سَلِمَ المسلمونَ مِن لسانِهِ ويدِهِ أفضلَ ذَوي الإسلام؛ فبالضرورةِ / تكونُ السلامَةُ منه مِنَ الإسلامِ، على أنَّ الكنايَةَ أبلغُ مِنَ التصريح؛ فافهم.
          وقال الكرمانيُّ: فإنْ قُلتَ: هل فَرقٌ بين (أفضل) وبين (خَير) ؟ قلتُ: لا شكَّ أنَّهُما من بابِ التَّفضيل، لكنَّ الفضلَ يَعْنِي: كثرةَ الثوابِ في مُقابَلَةِ القِلَّةِ، والخَيرَ يعني: النَّفع في مقابَلَةِ الشَّرِّ، والأوَّل مِنَ الكَمِّيَّةِ، والثاني مِن الكَيْفيَّة، وتعقَّبَهُ بعضُهُم بقولِهِ: الفَرقُ لا يتمُّ إلَّا إذا اخْتُصَّ كُلٌّ منهما بتلك المقولةِ، أمَّا إذا كان كلٌّ منهما يُعقَل تأتِّيهِ في الأُخْرى؛ فلا، وكأنَّهُ بُني على أنَّ لَفظَ (خير) اسمٌ، لا فعل تفضيل، انتهى.
          قلتُ: الفَرقُ تامٌّ بلا شكٍّ؛ لأنَّ (الفضلَ) في اللغة: الزيادة، ويقابلهُ القِلَّة، والخيرُ إيصالُ النَّفع، ويُقابله الشَّرُّ، والأشياءُ تتبيَّنُ بِضِدِّها، وفي «العُباب»: الفَضْلُ والفضيلَةُ خِلافُ النَّقصِ والنَّقيصَةِ، وقالَ: الخَيرُ ضِدُّ الشرِّ.
          وقولُهُ: (وكأنَّهُ بُنِي على أنَّ لفظة «خير» اسمٌ، لا فعل تفضيلٍ) ليسَ موضع التشكيكِ؛ لأنَّ لفظةَ (خَير) ههنا أفعلُ التفضيلِ قطعًا؛ لأنَّ السؤال ليسَ عن نفسِ الخيريَّةِ، وإنَّما السؤالُ عن وصفٍ زائدٍ؛ وهو الأخيريَّة، غيرَ أنَّ العَرَب استعملَتْ (أفعلَ التفضيلِ) من هذا البابِ على لَفْظَهِ، فيُقال: زيدٌ خيرٌ من عَمْرو، على معنى: أخير منه؛ ولهذا لا يُثنَّى ولا يُجمَع ولا يؤنَّث.