عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الصلاة من الإيمان
  
              

          ░30▒ (ص) بابٌ: الصَّلاةُ مِنَ الإيمانِ
          (ش) الكلامُ فيه على وجوه:
          الأوَّل: أنَّ قوله: (بابٌ) خبرُ مبتدأٍ محذوف؛ أي: هذا بابٌ، ويجوز فيه التنوينُ، وتركُهُ بإضافته إلى الجُملة؛ لأنَّ قولَه: (الصَّلَاةُ) مرفوعٌ بالابتداء، وخبرُه قولُه: (مِنَ الإِيمَانِ) أي: الصلاةُ شُعبةٌ مِن شُعَبِ الإيمان.
          الثاني: وجهُ المناسبة بين البابينِ مِن حيثُ إنَّ مِن جُملةِ المذكورِ في حديثِ الباب الأوَّل الاستعانةَ بالأوقاتِ الثلاثة في إقامةِ الطاعاتِ، وأفضلُ الطاعاتِ البَدَنِيَّةِ التي تُقامُ في هذه الأوقات الصلواتُ الخَمْس، والأوقاتُ الثلاثة هي (الغُدْوَة والرَّوْحَة وشيءٌ مِنَ الدُّلْجَة)، فوقتُ صلاة الصبحِ في الغُدْوة، ووقتُ صلاةِ الظهرِ والعصر في الرَّوْحة، ووقتُ العشاء في جُزءِ الدُّلْجَة، على قولِ مَن يقولُ مِن أهل اللُّغة: إنَّ الدُّلْجَة سَيرُ الليل كلِّه، ولَمَّا كان العبدُ مأمورًا بالاستعانة بهذه الأوقات، وكانت هي أوقاتَ الصلواتِ الخمسِ أيضًا، وهي مِنَ الإيمان؛ ناسبَ ذكْرُهَا عَقِيبَ هذه الأوقاتِ التي يتضمَّنُها البابُ الذي قَبْلَ هذا الباب، على أنَّ البابَ الذي قَبْلَ هذا الباب إِنَّما ذُكِرَ بينه وبين هذا البابِ؛ [استطْرَادًا للوجهِ الذي ذكرناه هناك، وفي الحقيقةِ يُطْلَبُ وجهُ المناسبةِ بين هذا الباب] و(باب صومُ رمضان احتسابًا مِنَ الإيمانِ) وهو ظاهرٌ؛ لأنَّ كُلًّا مِنَ الصلاة والصوم مِن أركانِ الدِّين العظيمة، ومِنَ العبادات البَدَنِيَّة.
          الثالث: كونُ الصلاة مِنَ الإيمان ظاهرٌ، ولا سِيَّما على قولِ مَن يقولُ: الأعمالُ من الإيمان، وحديثِ ابنِ عُمر ☻: «بُنِيَ الإسلامُ على خَمْس...» الحديثَ.
          (ص) وَقَوْلُِ الله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}[البقرة:143] يَعْني: صَلَاتكُمْ عندَ البَيْتِ.
          (ش) لَفْظةُ: (قَوْلُِ) يجوزُ فيه الوجهانِ منَ الإعراب: الجَرُّ؛ عَطْفًا على المضافِ إليه؛ أعني: قولَه: (الصَّلَاةُ مِنَ الإِيمَانِ) فَإِنَّها جملةٌ أُضيفَ إليها (البابُ) على تقدير تركِ التنوين فيه، كما ذكَرْنا، والرفعُ؛ عطفًا على لَفْظِ (الصلاةُ).
          ثُم الكلامُ فيه على وجوه:
          الأوَّل: أنَّ هذه الآية مِن جُملةِ الترجمة؛ لأنَّ البابَ مترْجَمٌ بترجمتين؛ إحداهما قولُه: (الصلاةُ مِنَ الإيمان)، والأُخْرى: قولُه: (وقولُِ الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}[البقرة:143])، والمناسبةُ بين الترجمتين ظاهرةٌ؛ لأنَّ في الآية أَطْلَقَ على (الصلاةِ) (الإيمانَ)، على سبيلِ إطلاق الكلِّ على الجُزءِ، وبَيَّنَ ذلك بقولِه: (الصلاةُ مِنَ الإيمان) ؛ لأنَّ كلمةَ (مِن) للتَّبْعِيض، والمرادُ: الصلاةُ مِن بعضِ الإيمان.
          الثاني: قال الوَاحِدِيُّ في كتاب «أسباب النزول»: قال ابنُ عَبَّاس ☻ في روايةِ الكَلْبِيِّ: كَانَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلعم قد ماتوا على القِبْلَة الأُولى؛ منهم: سعدُ بن زُرَارَة، وأبو أُمَامة أحدُ بني النَّجَّار، والبَرَاء بنُ مَعْرُورٍ أحدُ بني سَلَمَة، في أُناس منهم آخَرين، جاءت عَشَائرُهم فقالوا: يا رسولَ الله؛ تُوفِّيَ إخوانُنا وهم يُصلُّون إلى القِبْلة الأولى، وقد صَرَفكَ اللهُ ╡ إلى قِبْلَة إبراهيم ◙ ، فكيفَ بإخوانِنا في ذلك؟ فأنزلَ الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} الآيةَ[البقرة:143].
          الثالث: قال ابن بَطَّالٍ: هذه / الآية حُجَّةٌ قاطعةٌ على الجَهْمِيَّة والمُرْجِئَة؛ حيثُ قالوا: إنَّ الفرائضَ والأعمالَ لا تُسمَّى إيمانًا، وهو خلافُ النصِّ؛ لأنَّ الله تعالى سَمَّى صلاتَهُم إلى بيتِ المقدِسِ إيمانًا، ولا خِلافَ بينَ أهلِ التَّفْسِير أنَّ هذه الآيةَ نزلتْ في صَلاتهم إلى بيتِ المَقْدِس.
          قلتُ: لا يَلْزمُ مِنَ الاتِّفاقِ على نُزولها في صَلاتهم إلى بيتِ المقْدِسِ إِطلاقُها.
          وقال ابنُ إسحاقَ وغيرُه في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}[البقرة:143]: بالقِبْلَة الأولى، وتَصْدِيقِكُم نبيَّكُم، واتِّباعِكُم إِيَّاه إلى القِبْلَة الأخرى؛ أي: لَيُعْطِيَنَّكُم أَجْرَهما جميعًا، وقال الزَّمَخْشَرِيُّ في «الكَشَّاف»: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}[البقرة:143] أي: ثباتَكُم على الإيمانِ، وأنَّكُم لم تَزِلُّوا ولم تَرْتَابُوا، بل شَكَرَ صنيعَكُم، وأَعَدَّ لكمُ الثوابَ العظيم، ويجوز أنْ يُرادَ: وما كان الله ليَترُكَ تَحويلَكم؛ لِعلْمِه أنَّ تركه مفسدةٌ وإضاعةٌ لإيمانِكم، وقيل: مَن كان صَلَّى إلى بيت المَقْدِسِ قبلَ التَّحويلِ؛ فَصَلاتُه غيرُ ضائعةٍ؛ انتهى.
          قلتُ: هذا ثلاثةُ أوْجُهٍ؛ الأوَّل: مِن قَبِيلِ إطلاقِ المعروضِ على العارض، والثاني: مِن قَبِيل الكِنَاية؛ لأنَّ تركَ التحويلِ مَلْزُومٌ لإضاعةِ الإيمان، والثالثُ: مِن قَبِيلِ إطلاقِ الكلِّ على الجُزْء.
          ثم اللَّام في قولِه: {لِيُضِيعَ} لِتَأكيدِ النَّفْيِ.
          فإنْ قيلَ: المقامُ يقتضي أنْ يقالَ: (إِيمانَهم) بلفظِ الغِيبَة.
          أُجيب: بِأنَّ المقصودَ تَعميمُ الحُكْمِ للأمَّة؛ الأحياءِ والأموات، فَذَكَرَ الأَحياءَ المخاطَبين؛ تَغْليبًا لهم على غَيرِهم.
          ولا يُناسِبُ [وضعُ الآية في الترجمةِ إلَّا مِنَ الوجهِ الثالث، وهو الذي أشارَ إليه البُخَاريُّ بقوله]: (يَعنِي: صَلاتَكم) ؛ حيثُ فَسَّرَ (الإيمانَ) بـ(الصلاة)، وهكذا وقعَ هذا التفسيرُ في رواية الطَّيَالِسِيِّ والنَّسائيِّ، من طريق شَرِيكٍ وغيرِه، عن أبي إسحاقَ، عن البَراء في الحديثِ الذي أخرجَهُ البُخَاريُّ ههنا: فأنزلَ الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}[البقرة:143]: صَلاتَكُم إلى بيت المَقدِس.
          الرابع: قولُه: (عِنْدَ البَيْتِ) أرادَ به الكعبةَ، شرَّفَها الله تعالى، وقال النَّوويُّ: هذا مُشْكِلٌ؛ لأنَّ المراد: صلاتُكم إلى البيتِ المقدس، وكان ينبغي أنْ يقولَ: أَي: صَلاتَكم إلى بيتِ المقدس، [وهذا هو مُرادُه، فَيُتَأَوَّلُ عليه كَلامُه، وقال بعضُ الشَّارِحين: المرادُ: إلى البيت؛ يعني: بيتَ المقدس]، أو الكعبة؛ لأنَّ صلاتَهم إليها إلى جهةِ بيتِ المَقْدِس.
          قُلتُ: إذا أُطْلِقَ (البيتُ) يُرادُ به الكعبةُ، ولَم يَقُلْ أحدٌ: إنَّ البيتَ إذا أُطْلِقَ يُرادُ به القُدْسُ، أو أحدُهما؛ بالشَّكِّ.
          وقال بعضُهم: قد قيلَ: إنَّ فيه تَصْحِيفًا، والصوابُ: يعني: صلاتَكم لغير البيتِ، ثم قال: وعندي أنَّه لا تَصْحِيفَ فيه، بل هو صوابٌ؛ بيانُ ذلك: أنَّ العلماء اختلفوا في الجهةِ التي كان النَّبِيُّ صلعم يتوجَّهُ إليها للصلاةِ وهو بمكَّةَ؛ فقال ابنُ عَبَّاس ☻ وغيرُه: كان يُصلِّي إلى بيتِ المَقْدِس، [لكنَّه لا يستدْبِرُ الكعبةَ، بل يَجْعَلُها بينه وبين بيتِ المَقْدِس، وأطلقَ آخرُون: أنَّه كان يُصلِّي إلى بيتِ المَقْدِس]، وقال آخرون: كان يُصلِّي إلى الكعبةِ، فلمَّا تَحوَّلَ إلى المدينةِ؛ استقبلَ بيتَ المَقْدسِ، وهذا ضعيف، ويَلْزَمُ منه دعوى النَّسْخِ مَرَّتَين، والأوَّل أصَحُّ؛ لأنَّهُ يَجمَعُ بين القولينِ، وقد صَحَّحَهُ الحاكمُ وغيرُه من حديثِ ابنِ عَبَّاس، فكأنَّ البُخَاريَّ أرادَ الإِشارةَ إلى الجَزْمِ بالأصحِّ؛ مِنْ أَنَّ الصلاةَ لَمَّا كانت عندَ البيت؛ كانتْ إلى بيت المقدس، واقْتَصَرَ على ذلك؛ اكتفاءً بالأوْلَوِيَّة؛ لأنَّ صلاتَهم إلى غيرِ جهة البيت وهم عند البيت إذا كانت لا تَضِيعُ؛ فَأَحْرَى أَلَّا تَضِيعَ إذا بَعُدُوا عنه.
          قلتُ: هذه اللفظةُ ثابتةٌ في الأُصول، صحيحةٌ، ومعناها صحيحٌ، غيرَ أنَّه اخْتَصَرَ في العِبَارة، والتقديرُ: يعني: صلاتَكم التي صَلَّيْتُموها إلى بيتِ المقدسِ عندَ البيتِ؛ أي: الكعبة، فقولُه: (عند البيتِ) يَتَعَلَّقُ بذلك المحذوفِ، وقولُ هذا القائل: (واقْتَصَرَ على ذلك اكْتفاءً بالأَوْلَوِيَّة...) [إلى آخره كلامٌ يَحتاجُ إلى دِعَامَةٍ؛ لأنَّ دعواهُ أوَّلًا بقوله: (واقْتَصَرَ على ذلك اكْتِفاءً بالأولويَّة) ]، ثم تَعْليلُه بقولِه: (لأنَّ صلاتَهُم... إلى آخِرِه) لا تَعَلُّقَ له قَطُّ لبيانِ تصحيحِ قولِ البُخَاريِّ: (عندَ البيتِ)، وتَصحيحُه بما ذَكَرْناه، ونَقَلَهُ عن بعضِهم بأنَّ فيه تَصْحِيفًا، ثم قولُه: (وعندي أنَّه لا تَصْحِيفَ فيه) وإنْ كان كذلك / في نفسِ الأمرِ، لكن لو كان عندَه الوقوفُ على معنى التَّصْحِيفِ؛ كان يَقولُ أَوَّلًا: مِثْلُ هذا لا يُسَمَّى تَصْحيفًا، وإنَّما يُقالُ: مُشْكِلٌ؛ كما قاله النَّوويُّ، أو نحو ذلك؛ لأنَّ التَّصْحيفَ هو أنْ يَتَصَحَّفَ لفظٌ بلفظٍ، وهذا ليس كذلك، وقال الصَّغَانِيُّ ☼ : التَّصْحِيفُ: الخطأُ في الصَّحِيفة، يقولون: تَصَحَّفَ عليه لفظُ كذا، فَعَرَفْتَ أنَّ مَن لم يعرفْ معنى التصحيفِ؛ كيف يُجِيبُ عَنْهُ بالتَّحْرِيفِ؟!