عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قيام ليلة القدر من الإيمان
  
              

          ░25▒ (ص) بابٌ: قِيامُ لَيْلَةِ القَدْرِ مِنَ الإيمانِ.
          (ش) لَمَّا كان المذكور بعد ذِكْرِ المقدِّمة التي هي (باب كيفيَّةِ بَدْءِ الوحي) (كتابَ الإيمان) المشتمِلَ على أبوابٍ فيها بَيانُ أمورِ الإيمان، وذَكَرَ في أثنائها خمسةً مِنَ الأبواب مِمَّا يُضَّادُّ أمورَ الإيمان؛ لأجل مناسبةٍ ذَكَرْنَاها عندَ ذكرِ أَوَّلِ الأبواب الخمسة؛ عادَ إلى بَيَانِ بَقِيَّةِ الأبوابِ المشتمِلَةِ على أمور الإيمان؛ نحوُ: (قيامُ ليلة القدر مِنَ الإيمان)، و(الجهادُ مِنَ الإيمان)، و(تطوُّعُ قيام رمضانَ مِنَ الإيمان)، و(صومُ رمضانَ مِنَ الإيمان)، وغيرِ ذلك مِنَ الأبواب المُتعلِّقة بأمور الإيمان، وينبغي أنْ تُطْلَبَ المناسبةُ بَيْنَ هذا الباب وبين (بابِ السَّلام منَ الإسلام) ؛ [لأنَّ الأبوابَ الخمسةَ المذكورةَ بينَهُما إِنَّمَا هُو بطريقِ الاستطرادِ، لا بِطَرِيقِ الأَصَالة، فالمذكورُ بطريق الاستِطْرادِ كالأجنبيِّ، فيكونُ هذا البابُ في الحقيقة مذكورًا عَقِيبَ (بَابِ السَّلام مِنَ الإسلام) ]، فَتُطْلَبُ المناسبةُ بينهما، فنقولُ: وجهُ المناسبة هو أنَّ المذكور في (بابِ السلام من الإسلام) هو أنَّ إِفْشاءَ السَّلامِ مِن أُمُور الإيمان، وكذلك ليلةُ القَدْرِ فيها يُفْشَى السَّلامُ مِنَ الملائكة على المؤمنين، قال الله تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ}[القدر:5]، قال الزَّمَخْشَرِيُّ: ما هي إلَّا سَلامٌ؛ لكثرةِ ما يُسَلِّمُون _أي: الملائكة_ على المؤمنين، وقيل: لا يَلْقَونَ مؤمنًا ولا مؤمِنةً إلَّا سَلَّمُوا عليه في تلك اللَّيلة.
          ثمَّ قولُه: (بَابٌ) مُعرَبٌ على تقديرِ أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ منوَّنٌ؛ أي: هذا بابٌ، وقوله: (قِيامُ) مرفوعٌ بالابتداء، وخبرُه قولُه: (مِنَ الإِيمَانِ)، ويجوزُ أن يُتْرَكَ التنوينُ مِن (بابٌ) على تقديرِ إضافته إلى الجملة، وعلى كُلِّ التقديرِ الأصلُ: هذا بابٌ في بيان أنَّ قيام ليلةِ القَدْرِ مِن شُعَبِ الإيمان، و(القيامُ) مصدرُ (قام)، يقال: قامَ قِيامًا، وأصلُه: قِوامًا، قُلِبَتِ الواوُ ياءً؛ لانكسار ما قَبْلَها.
          والكلامُ في ليلة القدرِ على أنواعٍ:
          الأوَّل: في وجهِ التَّسْمِيَة به:
          فقيل: سُمِّي به؛ لِمَا تَكْتُبُ فيها الملائكةُ؛ مِنَ الأقْدارِ والأرزاق والآجالِ الَّتِي تكون في تلكَ السَّنَة؛ أي: يُظهرُهُمُ اللهُ عليه، ويأمُرُهم بفعْلِ ما هو مِن وظيفتهم، وقيل: لِعُظْم قَدْرِها وشَرَفِها، وقيل: لأنَّ مَن أتى فيها بالطاعات؛ صار ذا قَدْرٍ، وقيل: لأنَّ الطاعاتِ لها قَدْرٌ زائدٌ فيها.
          الثاني: في وَقْتِها:
          اخَتَلَفَ العلماءُ فيه؛ فقالتْ جماعةٌ: هي مُنْتَقِلَةٌ؛ تكون في سَنةٍ في ليلةٍ، وفي سنةٍ في ليلةٍ أخرى، وهكذا، وبهذا يُجْمَعُ بين الأحاديثِ الدَّالَّة على اختلافِ أوقاتِها، وبه قال مالكٌ وأحمدُ وغيرُهما، قالوا: إِنَّمَا تنتقلُ في العَشْرِ الأواخر مِن رَمضانَ، وقيل: بل في كُلِّه، وقيل: إِنَّها مُعيَّنةٌ لا تنتقلُ أبدًا، بل هي ليلةٌ معيَّنةٌ في جميعِ السنين لا تُفَارِقُها، وقيل: هي في السَّنَةِ كُلِّها، وقيل: في شهرِ رمضانَ كلِّه، وهو قولُ ابنِ عُمَر ☻، وبهِ أخذ أبو حنيفة ☺ ، وقيل: بل في العَشْرِ الأوسط والأواخِرِ، وقيل: بَلْ في الأواخِرِ، وقيل: تختصُّ بأوتارِ العَشْرِ، وقيل: بِأَشْفَاعِهِ، وقيل: بل في ثلاثٍ وعشرين أو سبعٍ وعشرين، وهو قول ابنِ عَبَّاس، وقيل: في ليلةِ سبعَ عشرةَ، أو إحدى وعشرين، / أو ثلاث وعشرين، وقيل: ليلة ثلاثٍ وعشرين، وقيل: ليلة أربع عشرين، وهو مَحْكِيٌّ عن بلالٍ وابن عَبَّاسٍ ♥ ، وقيل: سبع وعشرين، وهو قولُ جماعةٍ من الصحابة، وبه قال أبو يوسفَ ومُحَمَّدٌ، وقال زيدُ بنُ أَرْقَمَ: سبعَ عشرةَ، وقيل: تسعَ عشرةَ، وحُكِيَ عن عليٍّ ☺ ، وقيل: آخر ليلةٍ مِنَ الشهر، ومَيَّلَ الشافعيُّ إلى أَنَّها ليلةَ الحادي والعشرين، أو الثالثِ والعشرين، ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ، وهو خارجٌ عن المذكورات.
          الثالث: هل هي محقَّقَة تُرَى أَمْ لا؟
          فقال قومٌ: رُفِعَتْ؛ لقولِه صلعم حِين تَلاحَى الرَّجُلان: «رُفِعَتْ»، وهذا غلطٌ، لأنَّ آخرَ الحديث يردُّ عليه؛ وهو: «عسى أنْ يكونَ خيرًا لكم، التَمِسُوها في السَّبع والتِّسْع»، وفيه تصريحٌ بأنَّ المرادَ برَفْعِها رفعُ بيان عِلْمِ عَيْنِها، لا رفعُ وُجُودِها، وقال النوويُّ: أجمعَ مَن يُعْتَدُّ به على وجودِها ودوامِها إلى آخرِ الدَّهر، وهي موجودةٌ تُرَى ويحقِّقُها مَن شاءَ اللهُ تعالى مِن بني آدمَ كلَّ سنة في رمضان، وأخبارُ الصالحين بها ورؤيتُهُم لها أكثرُ مِن أن تُحْصَى، وأمَّا قولُ المُهَلَّبِ: «لا يمكن رؤيتُها حقيقةً»؛ فَغَلَطٌ، وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: ولعلَّ الحكمةَ في إخفائِها أَنْ يُحْيِيَ مَن يريدُها اللَّياليَ الكثيرةَ؛ طَلَبًا لِمُوافَقَتِها، فَتَكْثُرُ عبادتُه، وألَّا يَتَّكِلَ الناسُ عند إظهارِها على إصابةِ الفَضْلِ فيها، فَيُفَرِّطُوا في غيرها.