عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب اتباع الجنائز من الإيمان
  
              

          ░35▒ (ص) بَابٌ: اتِّبَاعُ الجَنائِزِ مِنَ الإِيمَان.
          (ش) أي: هذا بابٌ، وهُو مُنوَّنٌ، ويجوزُ تركُ التنوينِ؛ بإضافَتِهِ إلى الجملَةِ؛ أعني قولَه: (اتِّباعُ الجنائِزِ من الإيمانِ)، فقولُهُ: (اتِّبِاعُ الجَنَائِزِ) كلامٌ إضافِيٌّ مُبتدأٌ، وقوله: (مِنَ الإِيمَانِ) خَبرهُ؛ أي: اتِّباعُ الجنائِزِ شُعبَةٌ مِن شُعَب الإيمانِ، و(اتِّباعٌ) بتشديدِ التاءِ، مَصْدَرُ (اتَّبَعَ) مِن (بابِ الافتعال).
          و(الجنائِزُ) جَمعُ (جَِنازَةٍ) بالجيم المفتوحة والمكسورَةِ، والكَسْرُ أفصحُ، وقيل: بالفَتْحِ للمَيِّتِ، وبالكسرِ للنَّعْشِ وعليهِ المَيِّت، وقيلَ: عَكسُهُ، مُشتَقَّةٌ مِن جَنَزَ؛ إذا سَتَرَ، وقال الجَوْهَريُّ: «الجِنازَةُ» بالكَسْرِ، [والعامَّةُ تقولُ بالفتحِ، والمعنى: للميِّتِ على السريرِ، وإذا لم يَكُنْ عليه المَيِّتُ؛ فهو سَريرٌ ونعشٌ، وفي «العُباب»: ابن الأعرابيِّ: الجِنَازَةُ _بالكَسْرِ_: السَّرير؛ والجَنازَةُ _بالفتح_: المَيِّت، وقال ابن السِّكِّيتِ وابن قُتيبَةَ: يُقال: الجَنازَةُ والجِنازَةُ، وقالَ الأصمعيُّ: الجِنَازَةُ _بالكَسر_:] الميِّتُ نَفسُهُ، قال: والعَوامُّ يتوهَّمونَ أنَّهُ السريرُ، وقال النَّضرُ: الجَنازَةُ: السريرُ مع الرَّجُل جميعًا، وقال الخَليل: الجِنازَةُ _بالكسرِ_: خَشَبُ الشَّرجع، وقد جَرى في أفواهِ النَّاسِ الجَنازَةُ بالفتحِ، والنحارير يُنكِرونَ ذلك، وقالَ غيرُهُ: إذا لَم يَكنْ عليه ميِّتٌ؛ فهو سريرٌ أو نعشٌ، وكلُّ شيءٍ ثَقُلَ على قومٍ واغتمُّوا به؛ فهو جنازةٌ، وقال ابن عبَّادٍ: الجِنازَةُ _بالكَسْرِ_: المَرِيضُ، وطعَنَ فلانٌ في جِنازته، ورُمِي في جنازتِهِ؛ إذا ماتَ، وقال ابن دُريدٍ: جَنَزْتُ الشيء أجنِزُهُ جَنْزًا؛ إذا سَترتَهُ، وزعمَ قَومٌ أنَّ منه اشتقاقَ الجِنازَةِ، [قال: ولا أدري ما صِحَّته، وقال اللَّيثُ: جُنِزَ الشيَءُ؛ إذا جُمِعَ، وقيل: منه اشتقاق الجنازَةِ]؛ لأنَّ الثيابَ تُجْمَعُ على الميِّتِ، وقال ابن دُريدٍ: إنَّ النَّوَّار لمَّا احْتُضِرَتْ؛ أَوْصَتْ أنْ يُصلِّيَ عليها الحَسَن البَصْرِيُّ، فَأُخْبِرَ الحسنُ بذلك، فقال: إذا جَنَّزْتُموها؛ فآذِنونِي، قال: فاسْتَرْكَكْنا هذه الكَلِمَةَ مِنَ الحَسَنِ يومئذٍ؛ يعني التَّجنيزَ.
          فإنْ قُلتَ: ما وجهُ المناسبَةِ بينَ البابين؟
          قلتُ: الإنسانُ له حالتان: حالةُ الحياةِ وحالَةُ المماتِ، فالمذكورُ في الباب الأوَّل هو أركانُ الدينِ التي يَحصُلُ الثوابُ بإقامتها بمباشرَةِ الأحياءِ / [بدونِ واسطةٍ، والمذكور في هذا الباب هو الثَّوابُ الذي يَحْصُلُ بمباشَرَةِ الأحياء] بواسطَةِ الأمواتِ، وقال بَعضُهُم: خَتَمَ المُصَنِّف التَّراجمَ التي وقَعَتْ له مِن «شُعَبِ الإيمان» بهذه التَّرجَمَةِ؛ لأنَّ ذلك آخرُ أحوال الدنيا.
          قلتُ: هذا ليسَ بصحيحٍ؛ لأنَّهُ بَقِيَ من الأبوابِ المترجَمَةِ بـ(شُعَبِ الإيمانِ) (باب: أداء الخُمُس من الإيمانِ)، وهو مذكورٌ بعدَ أربعةِ أبوابٍ مِن هذا الباب، وكيفَ يصحُّ أنْ يُقال: خَتَم بهذه الترجمةِ التَّراجمَ المذكورَةَ؟!
          فإنْ قُلتَ: ما وَجهُ قولِهِ في البَابِ السَّابِقِ: (باب: الزَّكاة مِنَ الإسلامِ)، وفي هذا الباب: (باب: اتِّباع الجَنائِز من الإيمانِ) ؟
          قلتُ: راعى المُناسَبَةَ والمطابَقَةَ فيهما؛ فإنَّ المذكورَ فِي البابِ الأوَّل لَفظُ (الإسلام) ؛ حيثُ قال: (فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلامِ) والمذكورُ في هذا الباب لفظ (الإيمانِ) ؛ حيثُ قالَ: (مَن اتَّبَعَ جَنازَةَ مُسلمٍ إيمانًا)، فتَرْجَم البابَ على لَفْظِ (الإيمانِ).