عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول النبي: أنا أعلمكم بالله
  
              

          ░13▒ (ص) بابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم : «أَنا أَعْلَمُكُمْ بالله»، وأنَّ المَعْرِفَةَ فِعْل القَلْبِ لِقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَلَكِن يُؤاخِذُكُم بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}.
          (ش) أي: هذا (بابُ) قول النَّبِيِّ صلعم ، والإضافَةُ ههنا مُتعيِّنةٌ.
          وقولُهُ: (أَنا أَعْلَمُكُمْ بِاللهِ) مَقولُ القولِ، كذا في رِوايَةِ أبي ذَرٍّ، وهُو لَفظُ الحديثِ الذي أورَدَهُ في جَميع طُرُقِهِ، وفي رِوايَةِ الأَصِيلِيِّ: <أَعْرَفُكُم> فعَن قريبٍ يَأتِي الفَرق بين المَعرِفَةِ والعِلْمِ.
          ثمَّ وجهُ المُناسبةِ بين البابَين: أنَّ البابَ الأوَّل يُبيِّنُ فيهِ أنَّ مِن الدِّين الفِرارَ من الفِتَنِ، [وهذا لا يكونُ إلَّا عَلى قَدرِ قُوَّةِ دينِ الرَّجُل حيثُ يَحْفِظ دِينَهُ، ويَعتزل النَّاسَ؛ خوفًا من الفِتَنِ]، وقُوَّة الدِّينِ تَدلُّ على قُوَّةِ المعرفَةِ بالله تعالى، فكُلَّما كانَ الرَّجُلُ أَقْوى في دِينِهِ؛ كانَ أقوى في مَعرفَةِ رَبِّهِ، وفي هذا الباب يُبيِّنُ أنَّ أَعْرَفَ الناس باللهِ تعالى هو النَّبِيُّ صلعم ، فلا جَرَمَ هو أقوى دينًا من الكُلِّ.
          وبَقِيَ الكلامُ ههنا في ثلاثَةِ مَواضِع:
          الأوَّل: أنَّ هذا (كتاب الإيمانِ)، فما وجْهُ تَعلُّق هذه الترجمة بالإيمانِ؟
          والثانِي: ما مُناسَبَةُ قولِهِ: (وَأَنَّ المَعْرِفَةَ فِعْلُ القَلْبِ) بِما قَبْلَهُ، ولا تعلُّقَ للحديثِ به أصلًا، ولا دلالةَ له عليه، لا عقلًا ولا وضعًا؟
          والثالث: ما مُناسَبَةُ ذِكْرِ قولِهِ تعالى: {وَلَكِن يُؤاخِذُكُم بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}[البقرة:225] هَهُنا، فلا تَعلُّق له بالإيمانِ؛ لأنَّهُ في الأَيمانِ، ولا تَعلُّق له بالبابِ أيضًا؟
          قلتُ: أمَّا وَجْهُ الأوَّل؛ فهو أنَّ المعرفَةَ باللهِ والعلم به من الإِيمانِ، فحينئذٍ دخَلَ في (كتاب الإيمانِ)، وفيه رَدٌّ على الكَرَّاميَّة؛ لأنَّهم يقولون: إنَّ الإيمانَ مُجَرَّد الإقرارِ باللِّسانِ، وزَعموا أنَّ المُنافق مؤمنٌ في الظاهر، كافرُ السَّريرَةِ، فيثْبُت له حكمُ المؤمنينَ في الدنيا، وحكم الكافرين في الآخرَةِ، وأشارَ البُخاريُّ بالرَّدِّ عليهم: بأنَّ الإيمانَ _هو أو بَعضُهُ_ فِعلُ القَلبِ؛ بالحديثِ المذكور.
          وأمَّا وجهُ الثانِي؛ فَهُوَ أنَّ الصحابَةَ ♥ لَمَّا أرادوا أنْ يزيدوا أعمالَهم على عَمَلِ رسول الله صلعم ؛ قالَ لهم: «لا يتهيَّأُ لَكُم ذلك؛ لأنِّي أَعْلمُكُم»، والعِلمُ من جُملَةِ الأفعالِ، بل من أَشْرَفِها؛ لأنَّهُ عَمل القَلبِ، فناسبَ قوله: (وَأَنَّ المَعْرِفَةَ فِعْلُ القَلْبِ) بما قَبْلَهُ.
          وأمَّا وجه الثالثِ؛ فهو أنَّهُ أرادَ أنْ يَستدلَّ بالآية على أنَّ الإيمانَ بالقولِ وحده لا يتمُّ، ولا بُدَّ من انضمامِ العَقيدَةِ إليهِ، ولا شَكَّ أنَّ الاعتقاد فِعلُ القلبِ؛ فهو مُناسبٌ لقولِهِ: (وَأَنَّ المَعْرِفَةَ فِعْلُ القَلْبِ)، ولا يضرُّ استدلالَه كونُ مورِدِ الآية في (الأيمان) بالفَتح؛ لأنَّ مدارَ العلمِ فيها أيضًا على عَمل القلبِ.
          فنَبَّهَ البُخاريُّ ههنا على شَيئين؛ أحدهما: الرَّدُّ على الكَرَّامِيَّة الذي هو مُتَّفقٌ عليه بالوجه الذي ذكرنا، والآخَرُ: الدليلُ على زيادَةِ / الإيمانِ ونقصانه على مُقْتَضى مَذْهَبِهِ؛ لأنَّ قولَهُ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلام: (أَنا أَعْلَمُكُمْ باللهِ) يدلُّ ظاهرًا على أنَّ النَّاسَ يتَفاوتون فِي معرفَةِ الله تعالى، وأنَّ النَّبِيَّ صلعم هو أَعْلَمُهُم، فإذا كانَ كذلك؛ يكونُ الإيمانُ قابلًا للزيادَةِ والنُّقصانِ.
          قولُهُ: (وَأَنَّ المَعْرِفَةَ) بفتحِ الهمزَةِ عَطفًا على القَولِ، لا على المقولِ، وإلَّا؛ لكانَ مُكرَّرًا؛ إذ المقولُ وما عُطِفَ عليه حُكْمُهما واحِدٌ، ويجوزُ كَسْرُ (إِنَّ)، ويكونُ كلامًا مُستأنَفًا.
          قوله: (لِقَوْلِ اللهِ تَعالَى) استدلالٌ بهذهِ الآيَةِ على أنَّ الإيمانَ بالقَولِ وَحْدَهُ لا يتمُّ.
          قولُهُ: ({بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}[البقرة:225]) أي: بما عَزمت عليه قُلوبكم وقَصدتموهُ؛ إذْ كسب القَلبِ عَزْمُهُ ونَيَّتُه، وفي الآيةِ دَليلٌ لِما عليه الجمهور: أنَّ أفعالَ القُلوب إذا استقرَّت؛ يؤاخَذُ بها، وقولُهُ عليه الصلاة والسلام: «إنَّ الله تجاوَزَ لأُمَّتِي ما حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفسَها ما لم يتكلَّموا أو يَعْملوا بهِ» محمولٌ على ما إذا لَمْ تَستَقِرَّ، وذلك مَعفوٌّ عنه بلا شكٍّ؛ لأنَّهُ لا يُمْكِنُ الانفكاك عنه بخلافِ الاستقرار.
          فإنْ قُلتَ: ما حقيقَة المعرفَةِ؟ قلتُ: (المَعرفَة) في اللُّغَةِ: مَصدَرُ عَرَفْتهُ أَعْرِفُهُ، وكذلِكَ العِرفان، وأمَّا في اصطلاحِ أهلِ الكلامِ؛ هِيَ مَعرفَةُ الله بلا كَيفٍ ولا تَشبيهٍ، والفرقُ بَيْنها وبَيْنَ العِلْمِ: أنَّ المَعرِفَةَ عِبارَةٌ عن الإدراكِ الجُزْئِيِّ، والعِلم عن الإدراكِ الكُلِّيِّ، وبعبارةٍ أُخْرَى: العِلمُ إدراكُ المُركَّبات، والمعرفَةُ إدراك البَسائط، وهذا مُناسبٌ لِما يقوله أهل اللُّغَةِ من أنَّ (العِلم) يتعدَّى إلى مَفعولين، و(المعرفَةُ) إلى مفعولٍ واحدٍ.
          وقال إمامُ الحرمين: أجْمَعَ العلماءُ على وجوبِ معرفة الله تعالى، وقد استدلَّ عليه بقوله تعالى: {فاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ}[مُحَمَّد:19]، واخْتُلِفَ في أوَّلِ واجبٍ على المكلَّف، فقيل: مَعرِفَةُ اللهِ تعالى، وقِيل: النَّظَرُ، وقيل: القصدُ إلى النَّظَرِ الصَّحيح، وقال الإمامُ: الذي أراهُ أنَّهُ لا اختلافَ بينهما، فإنَّ أوَّل واجبٍ خِطابًا ومقصودًا المعرِفَة، وأوَّلُ واجبٍ اشتغالًا وأداءً القَصْدُ؛ بأنَّ ما لا يُتوصَّل إلى الواجبِ إلَّا به؛ فهو واجبٌ، ولا يُتوصَّل إلى المعارفِ إلَّا بالقَصْد.