عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الزكاة من الإسلام
  
              

          ░34▒ (ص) بَابٌ: الزَّكَاةُ مِنَ الإِسْلَامِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ، و(البابُ) / مُنوَّنٌ، ويجوزُ بالإضافَةِ إلى الجملَةِ، و(الزَّكاةُ) مرفوعٌ بالابتداءِ، وخبَرُهُ (مِنَ الإِسْلَامِ) أي: الزَّكاةُ شُعبةٌ من شُعَبِ الإسلامِ.
          وجهُ المناسبَةِ بين البابين من حيثُ إنَّ المذكورَ في الباب السابق هو زيادةُ الإيمانِ ونقصانِهِ، وقد علمَ أنَّ الزيادَةَ تكونُ بالأعمالِ، والنقصَ بتركِها، وهذا البابُ فيه أنَّ أداءَ الزكاةِ من الإسلامِ؛ يعني: أنَّهُ إذا أدَّى الزَّكاةَ؛ يكونُ إسلامُهُ كاملًا، وإذا تركها؛ يكونُ ناقصًا، لا يُقال: لِمَ أفردَ الزكاةَ بالذِّكْرِ في الترجمةِ مِن بينِ سائرِ أركان الإسلام؛ لأنَّهُ قد أفردَ لكلِّ واحدٍ مِن بقيَّةِ الأركانِ بابًا بترجمةٍ.
          (ص) {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ}[البينة:5].
          (ش) هكذا هو في روايةِ أبي ذرٍّ، وفي روايةِ الباقين: <بابُ الزكاة من الإسلامِ وقول الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ} الآية>، وفي بعضِ النُّسخ: <وقوله تعالى: [{وَمَا أُمِرُوا} الآية>، قَوْلُهُ: (وَقُولِ اللهِ) مَجرورٌ عطفًا على مَحَلِّ قَوْلِهِ: (الَزَّكَاةُ مِنَ الإِسْلامِ) ؛ لأنَّها مُضافٌ إليها، وكذلك قَوْلُهُ: (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) ]، وأمَّا رِاويَةُ أبي ذرٍّ؛ فإنَّها بلا عَطفٍ؛ لأنَّ الواوَ في قَوْلِهِ: {وَمَا أُمِرُوا}[البينة:5] واوُ العَطْفِ في القرآنِ، عُطِفَ بها على ما قَبلَهُ مِن قوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البَيِّنَةُ}[البينة:4].
          فإنْ قُلتَ: كيفَ التِئامُ الآيةِ بالترجَمةِ؟
          قلتُ: الالتئامُ بينهما مَعْنَويٌّ؛ وهو أنَّ الآية فيها ذكرُ أنَّ الزكاةَ مِنَ الدِّين، والدِّينُ هو الإسلامُ؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلَامُ}[آل عمران:19]، تحقيقُ ذلك: أنَّ اللهَ تعالى ذَكَرَ في هذهِ الآيةِ الكريْمَةِ ثلاثَةَ أشياء؛ الأوَّل: إخلاصُ الدِّينِ الذي هُو رأسُ جميعِ العباداتِ، والثاني: إقامَةُ الصلاةِ التي هي عِمادُ الدينِ، والثالث: إيتاءُ الزَّكاة التي تُذْكَر دائمًا تاليةً للصَّلاةِ، ثمَّ أشارَ إلى جميعِ ذلك بقَوْلُهُ: {وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ[أي: المذكورُ من هذه الأشياء هو دِينُ القَيِّمَة؛ أي: دينُ المِلَّةِ القَيِّمة، فالموصوفُ محذوفٌ، وقُرِئ: {وَذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمَة}] على تأويلِ (الدِّين) بالمِلَّةِ، ومعنى {القَيِّمَة}: المستقيمَةُ النَّاطِقَةُ بالحقِّ والعَدْلِ.
          فإنْ قُلتَ: كيفُ خَصَّ الزكاةَ بالتَّرْجَمَةِ، والمَذكورُ ثَلاثَةُ أَشياءَ؟!
          قلتُ: أُجبتُ عن هذا عن قَريبٍ.
          قَوْلُهُ: ({وَمَا أُمِرُوا}) أي: وما أُمِرَ أهلُ الكتاب في التَّوراة والإنجيلِ إلَّا بالدِّينِ الحَنيفِيِّ، ولكنَّهم حَرَّفُوا وبَدَّلُوا، وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا وجهُ قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ}؟ قلتُ: معناهُ: وما أُمِروا بما في الكتابَيْنِ إلَّا لأجلِ أنْ يَعبدوا اللهَ على هذه الصِّفَة، وقرأَ ابن مسعودٍ ☺ : {إلَّا أنْ يَعْبُدوا} بمعنى: بأنْ يَعبدوا اللهَ، انتهى.
          قلتُ: (العبادَةُ) بمعنى التَّوحيد؛ أي: وما أُمِرُوا إلَّا ليوحِّدوا اللهَ، والاستثناءُ مِن أعمِّ عامِّ المفعولِ لأجلِهِ؛ أي: ما أُمِرُوا لأجلِ شيءٍ إلَّا للعبادَةِ؛ أي: التَّوحيد، والعِبْرَةُ لعمومِ اللَّفظِ، لا لخُصوصِ السَّبَبِ، ويدخلُ فيه جميع النَّاس.
          قَوْلُهُ: ({مُخْلِصِينَ}) حالٌ مِنَ الضميرِ الذي في {أُمِرُوا}، وقَوْلُهُ: ({الدِّينَ}) منصوبٌ بِهِ.
          قَوْلُهُ: ({حُنَفَاءَ}) حالٌ أخرى، جَمعُ (حنيفٍ) ؛ وهو المائلُ عن الضَّلالِ إلى الهدايَةِ.
          قَوْلُهُ: ({وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ}) عطفٌ على قَوْلُهُ: {لِيَعْبُدُوا اللهَ} مِن بابِ عطفِ الخاصِّ على العامِّ، وفيه تفضيلٌ للصلاةِ والزكاةِ على سائرِ العباداتِ، وقد مَرَّ معنى إقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزَّكاة.