عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة
  
              

          ░19▒ (ص) بابُ إذا لَمْ يَكُنِ الإسْلامُ عَلَى الحَقِيقَةِ، وكانَ عَلَى الاسْتِسْلامِ أوِ الخَوْفِ مِنَ القَتْلِ؛ لِقَوْلِهِ ╡ : {قالَتِ الأَعْرابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنا}[الحجرات:14]، فَإذا كانَ عَلَى الحَقِيقَةِ؛ فَهْوَ عَلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلامُ}[آل عمران:19]، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}[آل عمران:85].
          (ش) الكلامُ فيه على وجوه:
          الأوَّل: وجهُ المناسبة بين البابَين هو أنَّ في الباب الأوَّل ذكرَ الإيمان بالله ورسوله، وفي هذا الباب يُبيَّن أنَّ المعتَبرَ المعتدَّ به مِن هذا الإيمانِ ما هو.
          الثاني: يجوزُ في قولِه: (باب) الوجهان؛ أحدُهما: الإضافةُ إلى الجملة التي بَعْدَه، وتكون كلمةُ (إذا) للظَّرْفية المَحْضَةِ، والتقديرُ: بابُ حينِ عَدْمِ كون الإسلامِ على الحقيقة، والوجهُ الآخر: أَنْ ينقطعَ عنِ الإضافة، وتكون (إذا) متضمِّنةً معنى الشَّرط، والجزاءُ محذوفٌ، والتقدير: بابٌ إنْ لم يكنِ الإسلام على الحقيقةِ؛ لا يُعْتَدُّ به، أو لا ينفعه، أو لا يُنْجِيه، ونحو ذلك، وعلى كلٍّ؛ التَّقديرُ: ارْتِفاعُ (باب) على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوف؛ أي: هذا بابٌ.
          وقالَ الكَرْمانيُّ: فإِن قلتَ: «إذا» للاستقبال، و«لم» لقلْبِ المضارعِ ماضيًا؛ فكيفَ اجتماعهما؟! قلتُ: «إذا» هنا لمجرَّدِ الوقت، ويَحْتَمِلُ أن يُقال: «لَم» لنفي الكونِ المقلوبِ ماضيًا، و«إذا» لاستقبال ذلك النفي.
          الثالثُ: مطابقة الآيات للترجمة ظاهرةٌ؛ لأنَّ الترجمةَ أنَّ الإسلامَ إذا لم يكن على الحقيقة؛ لا ينفعُ، والآيات تدلُّ على ذلك، على ما لا يخفى.
          الرابع: قولُه: (عَلَى الاسْتِسْلامِ) ؛ أي: الانقياد الظاهر فقط، والدخول في السِّلْمِ، وليس هذا إسلامًا على الحقيقة، وإلَّا؛ لَما صحَّ نفيُ الإيمان عنهم؛ لأنَّ الإيمانَ والإسلامَ واحدٌ عند البُخاريِّ، وكذا عند آخرين؛ لأنَّ الإيمانَ شرطُ صحَّةِ الإسلام عندهم.
          قوله: (أَوِ الخَوْفِ مِنَ القَتْلِ) أي: وكان الإسلامُ على الخوف مِن القتل، وكلمة (على) للتعليل.
          قولُه: (فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ) أي: فهو واردٌ على مُقتضى قولِه ╡ : {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلامُ}.
          الخامسُ: الكلامُ في قوله ╡ : ({قالَتِ الأَعْرابُ}) الآيةَ، وهو على أنواع:
          الأوَّل: في سببِ نزولها، وهو ما ذَكَرَهُ الواحِدِيُّ: أنَّ هذه الآيةَ نزلتْ في أعرابٍ من أَسَد بنِ خُزَيْمة، قَدِموا على رسولِ الله صلعم المدينةَ في سَنَةٍ جَدْبَةٍ، وأظهروا الشهادتَين، ولم يكونوا مؤمِنِين في السِّرِّ، وأفسَدوا / طرقَ المدينة بالعَذِرات، وأَغْلَوا أسعارَها، وكانوا يقولونَ لرسولِ لله صلعم : أتيناك بالأثقالِ والعِيال، ولم نقاتِلْكَ كما قاتَلَكَ بنو فلان؛ فَأَعْطِنا مِنَ الصدقة، وجعلوا يَمُنُّونَ عليه، فأنزلَ الله تعالى عليه هذه الآيةَ.
          النَّوعُ الثاني: في معناها، فقولُه: ({الأَعْرابُ}) هم أهلُ البَدْوِ؛ قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وفي «العُبابِ»: ولا واحِدَ لـ«الأعراب»؛ ولهذا نُسِبَ إليها، ولا يُنْسَبُ إلى الجمع، وليستِ «الأعرابُ» جمعًا لـ«العَرَبِ»؛ كما كانت «الأنْباطُ» جَمْعًا لـ«النَّبَطِ»، وإنَّما «العَرَبُ» اسمُ جِنْسٍ؛ سُمِّيت العربُ؛ لأنَّهُ نشأَ أولادُ إسماعيلَ ◙ بِعَرَبَةَ؛ وهيَ مِن تِهامة، فَنُسِبوا إلى بلدهم، [وكلُّ مَن سكن بلادَ العَرَبِ وجزيرتَها، ونطقَ بلسان أهلِها؛ فهوَ عَرَبٌ؛ يَمَنُهُم وَمَعَدُّهُم]، وقال الأَزْهَرِيُّ: والأقربُ عندي أَنَّهم تسمَّوا عَرَبًا باسم بلدِهم العَرَبات، وقال إسحاقُ بنُ الفَرَجِ: عَرَبَةُ: باجَةُ العَرَبِ، وَباجَةُ: دارُ أبي الفَصاحَةِ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ صلوات الله عليهما وسلامه، قال: وفيها يقول قائلُهم:
وَعَرْبَةُ أَرْضٌ ما يُحِلُّ حَرامَها                     مِنَ الناس إلَّا اللَّوْذَعيُّ الحُلاحِلُ
          يعني: النَّبِيَّ صلعم ، [أُحِلَّتْ له مكَّة ساعةً من نَهارٍ، ثمَّ هي حَرامٌ إلى يوم القيامة، قال: واضطرَّ الشاعرُ إلى تَسْكِين الراء] مِنْ (عَرَبَةَ)، فَسَكَّنَها.
          قلتُ: (اللَّوْذَعِيُّ) : الخفيفُ الذكيُّ، الظَّريفُ الذَّهِنُ، الحديدُ الفؤاد، الفَصيح اللَّسِنُ؛ كأنَّهُ يَلْذَعُ بالنَّارِ مِن ذكائِه وحرارَتِهِ، و(الحُلاحِلُ) بِضَمِّ الحاء الأولى، وكسرِ الثانية؛ كِلاهما مهملتان: السَّيِّدُ الرَّكِين، ويُجمَعُ على (حَلاحِلَ) بالفتح.
          قوله: ({آمَنَّا}) مقولُ قولِهم، وقالَ الزَّمَخْشَريُّ: الإيمانُ: هو التصديقُ باللهِ، مع الثقة وطمأنينة النفس، والإسلامُ: الدخول في السَِّلْمِ، والخُروجُ مِن أنْ يكون حربًا للمؤمنين بإظهارِ الشَّهادَتَيْن، أَلا ترى إلى قولِه: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ}[الحجرات:14]، فاعلمْ: أنَّ كلَّ ما يكون مِنَ الإقرار باللِّسان مِن غيرِ مُواطَأَةِ القلب؛ فهو إسلام، وما واطَأَ فيه القلبُ اللسانَ؛ فهو إيمانٌ.
          فإن قلتَ: ما وجهُ قولِه: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنا}[الحجرات:14]، والَّذي يقتضيه نَظْمُ الكلام أنْ يُقال: قل: لا تقولوا: آمنَّا، ولكن قولوا: أسلمنا؟
          قلتُ: أفاد هذا النَّظْمُ تكذيبَ دعواهم أوَّلًا، ودَفْعَ ما انتحلُوه، فقيلَ: {قل لم تؤمنوا}، ورُوعِيَ في هذا النوع مِنَ التكذيبِ أَدَبٌ حَسَنٌ حين لم يُصَرِّحْ بلفظه، فلم يقلْ: كذبْتُم، واستَغْنَى بالجملةِ التي هي {لم تؤمِنوا} عنْ أن يقال: لا تقولوا؛ لاستهجانِ أنْ يُخاطَبُوا بلفظٍ مُؤَدَّاه النهيُ عن القول بالإيمان.
          فإنْ قلتَ: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، بعدَ قوله: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا}[الحجرات:14] يشْبِهُ التَّكرُّرَ مِن غير استقلالٍ بفائدة متجدِّدة.
          قلتُ: ليس كذلك، فإنَّ فائدةَ قولِهِ: {لَّمْ تُؤْمِنُوا} تكذيبُ دعواهم، وقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ} توقيتٌ لِما أُمِروا به أن يقولوا؛ كأنَّه قيلَ لهم: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}، حين لم تثبتْ مُواطَأَةُ قلوبكم لألسنتكم.
          النَّوعُ الثالث: قال أبو بكر بنُ الطَّيِّب: هذه الآيةُ حُجَّةٌ على الكُرَّامِيَّةِ ومَن وافقهم مِنَ المُرْجِئَة في قولهم: إنَّ الإيمانَ هو الإقرارُ باللِّسان دونَ عَقْدِ القلب، وقد ردَّ الله تعالى قولَهم في موضعٍ آخرَ مِن كتابه، فقال: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمانَ}[المجادلة:23]، ولم يقلْ: كتبَ في ألسنتهم، ومِن أقوى ما يُرَدُّ عليهم به الإجماعُ على كفرِ المنافقِين وإن كانوا قد أظهروا الشهادتَين.
          النوعُ الرابع: أنَّ البُخاريَّ استدلَّ بذكرِ هذه الآية ههنا أنَّ الإسلامَ الحقيقيَّ هو المعتبَر، وهو الإيمانُ الذي هو عَقْدُ القلبِ المصدِّقِ لإقرار اللِّسان الذي لا ينفعُ عند الله غيرُه، ألا تَرَى كيف قال تعالى: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا}؛ حيث قالوا بألسنتهم دون تصديقِ قلوبِهم، وقال: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ}.
          الوجهُ السَّادس: في قولِه تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلامُ}[آل عمران:19]، والكلامُ فيه على وجوه:
          الأوَّل: أنَّ هذه جملةٌ مستأنفةٌ مؤكِّدةٌ للجملة الأُولى؛ وهي قولُه تعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلَـهَ إِلَّا هُوَ} الآيةَ[آل عِمران:18]، وَقُرِئَ بفتحِ {أنَّ} على البَدَلِيَّة مِنَ الأوَّل؛ كأنَّه قال: شهدَ الله أنَّ الدِّينَ عند الله الإسلامُ، وقرأَ أُبَيُّ بن كعبٍ:▬إنَّ الدينَ عند الله لَلإسلامُ↨؛ بِلام التَّأكيد في الخبر.
          الثَّاني: قال الكَلْبِيُّ: لَمَّا ظهرَ رسولُ الله صلعم بالمدينة؛ قَدِمَ عليه حَبْران / مِن أحْبار أهلِ الشام، فلمَّا أبصرا المدينةَ؛ قال أحدُهما لصاحبه: ما أشْبَهَ هذه المدينةَ بصفةِ مدينةِ النَّبِيِّ الذي يخرجُ في آخرِ الزمان! فلمَّا دَخَلا على النَّبِيِّ صلعم ، وَعَرَفاهُ بالصفة والنَّعْتِ؛ قالا له: أنتَ مُحَمَّدٌ؟ قال: «نعم»، قالا: وأنت أحمد؟ قال: «نعم» قالا: إِنَّا نسألك عن شهادةٍ، فإنْ أنتَ أخبرْتَنا بها؛ آمنَّا بك وصدَّقْناك، قال لهما رسولُ الله ◙ : «سَلاني»، فقالا: أَخْبِرْنا عن أعظم شهادةٍ في كتاب الله تعالى، فأنزلَ اللهُ سبحانه وتعالى على نبيِّه صلعم : {شْهِدَ اللّهُ} إلى قولِه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلامُ}؛ فأسلمَ الرَّجلان، وصدَّقا برسولِ الله صلعم .
          الثالثُ: أنَّ البُخاريَّ استدلَّ بها على أنَّ الإسلامَ الحقيقيَّ هو الدِّين؛ لأنَّه تعالى أخبر أنَّ الدِّينَ هو الإسلام، فلو كان غيرَ الإسلامِ؛ لَما كان مَقبولًا، واستدلَّ بها أيضًا على أنَّ الإسلامَ والإيمانَ واحدٌ، وأنَّهُما مُتَرادفان، وهو قولُ جَماعةٍ مِن المحدِّثين، وجمهورِ المعتزلة والمتكلِّمين؛ وقالوا أيضًا: إنَّه استثنى المسلمينَ مِنَ المؤمنين في قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنا مَن كانَ فِيها مِنَ المُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المُسْلِمِينَ}[الذاريات:35-36]، والأصل في الاستثناء أن يكونَ المستثنى مِن جنس المستثنى منه، فيكونُ الإسلام هو الإيمانَ، وعُورِضَ بقولِه تعالى: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنا}، فلو كان الإيمانُ والإسلامُ واحدًا؛ لَزِمَ إِثْبات شيءٍ ونفيُه في حالةٍ واحدةٍ، وإنَّه مُحالٌ.
          الوجهُ السابع: في قولِه تعالى: ({ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}) [آل عمران:85]، والكلامُ فيه على وجهين:
          الأوَّل: في معناه، فقولُه: {وَمَن يَبْتَغِ} أي: ومَن يطلُبْ، مِن بَغَيْتُ الشيءَ؛ طَلَبْتُهُ، وَبَغَيْتُكَ الشيءَ: طلبتُه لك، يقالُ: بَغَى يَبْغي بِغْيَةً وبُغاءً _بالضمِّ_ وبُغايةً.
          قولُه: {فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} جوابُ الشرط.
          قولُه: {وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ} أي: مِن الذين وقَعُوا في الخُسران مطلقًا مِن غيرِ تقيُّد؛ قصدًا للتعميم، وقُرِئَ: {ومَن يبتغْ غيرَ الإسلام}؛ بالإدغام.
          الثاني: أنَّ البُخاريَّ استدلَّ به مِثْلَما استدلَّ بقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلامُ}، واستدلَّ به أيضًا على اتِّحادِ الإيمان والإسلام؛ لأنَّ الإيمانَ لو كان غيرَ الإسلام؛ لما كان مقبولًا، وأُجِيب: بأنَّ المعنى: ومَن يبتغ دينًا غيرَ دين مُحَمَّدٍ صلعم ؛ فلن يُقبلَ منه.
          قلتُ: ظاهرُه يدلُّ على أنَّه لو كان الإيمانُ غيرَ الإسلام؛ لم يُقبَلْ قطُّ، فتعيَّنَ أنْ يكونَ عينَه؛ لأنَّ الإيمانَ هو الدين، والدينُ هو الإسلام؛ لقولِه تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلامُ}، فينتُجُ أنَّ الإيمانَ هو الإسلام، وقد حَقَّقْنا الكلامَ فيه فيما مضى في أوَّل (كتاب الإيمان).