عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}
  
              

          ░17▒ (ص) باب: {فَإِن تابُواْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ}[التوبة:5]
          (ش) الكلامُ فيه على وجوهٍ:
          الأوَّل: أنَّ قولَهُ: (باب) ينبغي ألَّا يُعْرَب؛ لأنَّهُ كتعديد الأسماءِ مِن غير تركيبٍ، والإعرابُ لا يكونُ إلَّا بعدَ العِقْدِ والتركيبِ، وقال بعضُهُم: بابٌ، هو منوَّنٌ في الروايَةِ، والتقديرُ: بابٌ في تفسيرِ قوله تعالى: {فَإِن تابُواْ}، وتَجوزُ الإضافَةُ؛ أي: بابُ تَفْسيرِ قَولِهِ، وإنَّما جَعل الحديثَ تَفسيرًا للآيةِ؛ لأنَّ المرادَ بالتوبَةِ في الآيةِ الرجوعُ عن الكُفْرِ إلى التوحيدِ، ففسَّرَهُ قوله عَلَيْهِ الصلاة والسَّلام: «حتَّى يشهدوا أنْ لا إله إلا الله وأنَّ مُحَمَّدًا رسول الله».
          قلتُ: فيه نظرٌ من وجوهٍ:
          الأوَّل: أنَّ قولَهُ: (بابٌ، هو منوَّنٌ في الروايَةِ) دعوى بلا برهانٍ، فمَن قال من المشايخ الكِبار: «إنَّ هذه روايَةٌ» مِمَّن يُعْتمَد على كلامِهم، على أنَّ الرواية إذا خالَفَتِ الدِّرايَة لا تُقْبَل، اللَّهمَّ؛ إلَّا إذا وقَعَ نحو هذا في الألفاظ النبويَّةِ؛ فحينئذٍ يَجِبُ تأويلها على وفق الدِّرايَةِ، وقد قلنا: إنَّ هذا بمفردِهِ لا يستحقُّ الإعراب إلَّا إذا قَدَّرْنا نحو: هذا بابٌ؛ بالتنوينِ، أو بالإعرابِ بلا تنوينٍ؛ بتقديرِ الإضافَةِ إلى الجملَةِ التي بعدَهُ.
          الثاني: أنَّ تقديرَهُ بقولِهِ: (بابٌ في تفسيرِ قوله تعالى) ليسَ بصحيحٍ؛ لأنَّ البُخاريَّ ما وضَعَ هذا الباب في تفسيرِ هذه الآية؛ لأنَّهُ ليسَ في صَدَدِ التفسيرِ في هذه الأبواب، وإنَّما هو في صَددِ بيانِ أمورِ الإيمان، وبيان أنَّ الأعمالَ من الإيمانِ على ما يراهُ، واستدلَّ على ذلك في هذا الباب بالآيةِ المذكورَةِ وبالحديثِ المذكورِ، أمَّا الآية؛ فلأنَّ المذكورَ فيها التَّوبة التي هي الرجوعُ من الكفرِ إلى التوحيدِ، وإقامُ الصلاةِ، وإيتاءُ الزَّكاة، وكذلك في الحديثِ المذكورُ فيه هذه الأشياء الثلاثة، فكما ذُكِرَ في الآية أنَّ مَن أتى بهذه الأشياءِ الثلاثِة؛ فإنَّهُ يُخَلَّى؛ فكذلِكَ ذُكِرَ في الحديث أنَّ مَن أَتَى بهذه الأشياء الثلاثة؛ فإنَّهُ قَدْ يَعْصِمُ دَمَهُ ومالَهُ إلَّا بحقٍّ، ومعنى التخلِيَة والعِصْمَة واحدٌ ههنا، وهذا هو وجهُ المناسبَةِ بين الآية المذكورةِ والحديثِ المذكور.
          النَّظَرُ الثالثُ: أنَّ قولَهُ: (فَفَسَّرَهُ قوله عليه الصلاة والسلام: «حَتَّى يَشهدوا أنْ لا إلا الله وأنَّ مُحَمَّدًا رسول الله») ليسَ كذلِكَ؛ لأنَّهُ ما أخرَجَ الحديثَ ههنا تفسيرًا للآية، وإنَّما أخرجَهُ ههنا لأجلِ الردِّ على المُرجِئَةِ في قولِهم: إنَّ الإيمانَ غَيرُ مُفتقرٍ إلى الأعمالِ، على أنَّهُ قَد رُوِيَ عن أنسٍ ☺ أنَّ هذه الآيةَ آخِرُ ما نَزَلَ مِن القرآنِ، ولا شكَّ أنَّ الحديثَ المذكور مُتقدِّمٌ عَليها؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلعم إنَّما أُمِرَ بقتالِ النَاسِ حتى يَشهدوا أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ مُحَمَّدًا رسول الله / في ابتداء البِعْثَةِ، والمُتقدِّم لا يكونُ مُفسِّرًا للمُتأخِّر.
          الوجه الثاني في الكلامِ في الآية المذكورة، وهو على أنواعٍ:
          الأوَّل: أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ في (سُورةِ بَراءَة)، وأوَّلُها قوله ╡ : {فَإِذا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحْصُرُوهُمْ واقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تابُواْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[التّوبة:5] نَزَلَتْ فِي مشركي مكَّة وغيرِهم من العرب؛ وذلك أنَّهم عاهدوا المسلمين، ثمَّ نكثوا إلَّا ناسًا منهم؛ وهم بنو ضُمْرَة وبنو كنانَةَ، فنُبِذَ العَهْدُ إلى النَّاكثينَ، وأُمِروا أنْ يسيحوا في الأرض أربعةَ أشهرٍ آمنين إنْ شاؤوا لا يُتعرَّضَ لَهُم، وهي الأشهرُ الحُرُم؛ وذلك لصيانَةِ الأشهرِ الحُرُم من القَتْل والقتال فيها، فإذا انسلَخَتْ؛ يقاتِلونَهُم، وهو معنى قوله: {فَإِذا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ} الآية.
          النَّوعُ الثاني: في لغاتِ الآيَةِ:
          فقولُهُ: ({انْسَلَخَ}) معناه: خرَجَ، يُقال: انسلخَ الشهرُ من سَنَتِهِ، والرَّجلُ من ثيابه، والحَبَّة مِن قشرها، والنهار من الليلِ المقبلِ؛ لأنَّ النهارَ مكوَّرٌ على اللَّيلِ، فإذا انسلخَ ضوءُهُ؛ بَقِيَ الليلُ غاسقًا قد غَشِيَ الناس، وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: انسلخَ الشهرُ كقولِهم: انجردَ الشَّهرُ، وسَنةٌ جرداء، والأشهرُ الحرُمُ ثلاثٌ متواليات: ذو القَعدة، وذو الِحجَّةِ، والمُحرَّم، ورجبُ مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان.
          قوله: ({فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ}) يعني: الذين نَقضوكم وظاهروا عليكم.
          قوله: ({حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ}) يَعني من حلٍّ أو حرمٍ.
          قوله ({وَخُذُوهُمْ}) يعني: ائسُروهُم، والأخيذُ: الأسيرُ.
          قوله: ({واحْصُرُوهُمْ}) يعني: قَيِّدوهُم وامنعوهم من التصرُّفِ في البلاد، وعن ابن عَبَّاس ☻: حَصرهم أن يُحالَ بينهم وبين المسجد الحرام.
          قولهم: ({كُلَّ مَرْصَدٍ}) يَعني: كلَّ مَمرٍّ ومجتازٍ تَرصدونَهُم به.
          قوله: ({فَإِن تابُواْ}) أي: عن الشِّرْكِ، ({وَأَقامُوا الصَّلاةَ}) أي: أَدَّوها في أوقاتِها، ({وَآتَوُا الزَّكاةَ}) أي: أعطَوها.
          قوله: ({فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ}) يَعني: أطلقوا عنهم بعد الأسر والحَصْرِ، أو معناه: كُفُّوا عنهم، ولا تتعرَّضوا لهم؛ لأنَّهم عصموا دماءهم وأموالَهم بالرُّجوعِ عن الكُفْرِ إلى الإسلامِ وشرائِعِهِ، وعن ابن عَبَّاس: دعوهم وإتيانَ المسجدِ الحرام.
          ({إنَّ الله غفورٌ}) يغفِرُ لهم ما سلفَ مِن الكُفْرِ والغَدْرِ، ({رَحِيمٌ}) بالعفوِ عنهم.
          النوع الثَّالث: قولُه: ({فإذِا انْسلَخَ}) جُملَةٌ متضمِّنَةٌ معنى الشَّرطِ، وقوله: ({فاقْتُلْوا}) جوابه.
          قوله: ({كلَّ مَرْصَدٍ}) نصبٌ على الظَّرف؛ كقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ المُسْتَقِيمَ}[الأعراف:16].
          قوله: ({فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ}) جوابُ الشَّرطِ؛ أَعْنِي: قوله: ({فإنْ تابوا}).
          الوجهُ الثالث: ذَكَرَ الآيةَ والتبويب عليها للردِّ على المُرْجِئَة، كما ذكرنا، وللتنبيهِ على أنَّ الأعمالَ من الإيمانِ، وأنَّهُ قَولٌ وعَمَلٌ، كما هو مَذهبه ومذهبُ جماعة مِن السَّلَفِ.