عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب أمور الإيمان
  
              

          ░3▒ (ص) باب أُمُورِ الإِيمانِ وَقَوْلِ اللهِ ╡ : {لَّيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ واليَوْم الآخِرِ} إلى قوله: {وأُولَئكَ هُمُ المتَّقُونَ}، {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ} الآيَةَ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ أمورِ الإيمان، فيكونُ ارتفاع (باب) على أنَّهُ خَبَرُ مبتدأٍ محذوفٍ، والمراد بـ(الأمور) : هي الإيمانُ؛ لأنَّ الأعمال عنده هي الإيمان، فعَلَى هذا الإضافَةُ فيه بيانيَّةٌ، ويجوزُ أنْ يكونَ التقدير: بابُ الأمورِ التي هي للإيمان في تحقيقِ حقيقتِهِ وتكميل ذاته، فعلى هذا الإضافَةُ بمعنى اللام، وفي رواية الكُشْميهَنيِّ: <بابُ أمرِ الإيمانِ> بالإفرادِ على إرادة الجنسِ؛ وقال ابن بَطَّالٍ: التصديقُ أوَّلُ منازِلِ الإيمانِ، والاستكمالُ إنَّما هو بهذِهِ الأمور، وأرادَ البُخاريُّ الاستكمالَ؛ ولهذا بَوَّبَ أبوابَهُ عليه، فقال: (بابُ أمورِ الإيمان)، و(بابُ الجهادِ من الإيمانِ)، و(باب الصلاة من الإيمانِ)، و(باب الزَّكاةِ من الإيمان). وأرادَ / بهذه الأبواب كلِّها الرَّدَّ على المُرجِئَةِ القائلين بأنَّ الإيمانَ قَولٌ بلا عَملٍ، وتبيينَ غَلَطِهم ومخالفتِهم الكتابَ والسُّنَّةَ.
          وقال المازِريُّ: اخْتَلف النَّاسُ فيمَن عصى الله من أهلِ الشهادتين؟ فقالت المرجئَةُ: لا تَضرُّ المعصيَةُ مع الإيمان، وقالت الخوارج: تضرُّهُ ويكفر بها، وقالتِ المعتزلة: يَخلد بها فاعل الكبيرةِ، ولا يوصَف بأنَّهُ مُؤمِنٌ ولا كافر، لكن يوصَف بأنَّهُ فاسق، وقالت الأشعريَّة: بل هو مؤمِنٌ وإنْ عُذِّبَ، ولا بُدَّ مِن دخولِهِ الجنَّةَ.
          قوله: (وَقَوْلِ اللهِ ╡ ) بالجرِّ عطفٌ على (الأمور).
          فإنْ قلتَ: ما المناسبةُ بين هذه الآية والتبويب؟
          قلتُ: لأنَّ الآيَةَ حَصَرت المتَّقين على أصحاب هذه الصفات والأعمال، فعُلِمَ منها أنَّ الإيمانَ الذي به الفلاح والنجاة الإيمانُ الذي فيه هذه الأعمال المذكورة، وكذلك الآية الأخرى، وهي قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ. والَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. والَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ. والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَت أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَراءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العادُونَ}[المؤمنون:1-7] وذَكرَ الآجُرِّيُّ في كتابِه «الشريعة» من حديث المسعوديِّ عن القاسِمِ، عن أبي ذرٍّ ☺ : أنَّ رجلًا سأله عن الإيمانِ، فقرأ عليه: {لَّيْسَ البِرَّ} الآية، فَقالَ الرَّجُلُ: ليسَ عن البرِّ سألتُكَ، فقالَ أبو ذَرٍّ: جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ صلعم فَسأَلَهُ كما سَأَلتَنِي، فَقَرَأَ عليه كَما قَرَأتُ عَلَيكَ، فَأَبَى أن يَرْضَى؛ كما أَبَيتَ أنْ تَرضَى، فقال: «اُدْنُ منِّي»، فَدَنا منه، فقال: «المؤمنُ الذِي يَعمَلُ حَسَنَةً فَتَسُرُّهُ ويرجو ثوابَها، وإن عَمِلَ سيِّئَةً؛ تسوْءُهُ ويَخافُ عاقبتها».
          قولُهُ تعالى: ({لَّيْسَ البِرَّ}) أي: ليس البرَّ كلَّه أن تُصَلُّوا ولا تعملوا غير ذلكَ، {وَلَكِنَّ البِرَّ} برُّ {مَنْ آمَنَ بِاللهِ} الآية، كذا قَدَّرَهُ سِيبَويه، وقال الزَّجَّاج: ولكنَّ ذا البرِّ، فحُذِفَ المضافُ؛ كقوله: {هُمْ دَرَجاتٌ عِندَ اللهِ}[آل عمران:163]؛ أي: ذوو درجاتٍ، وما قدَّرهُ سِيبويهِ أَوْلى؛ لأنَّ المنفيَّ هو البِرُّ، فيكونُ هو المستدرك من جِنْسِهِ، وقال الزَّمَخْشَرِيُّ ☼ : {البِرُّ}: اسمٌ للخيرِ ولكلِّ فعلٍ مَرضيٍّ، وفي «الغريبين» {البِرُّ}: الاتِّساعُ في الإحسانِ والزيادة منه، وقال السُّدِّيُّ: {لَن تَنالُوا البِرَّ}[آل عمران:92] يعني: الجنَّة، و{البِرُّ} أيضًا: الصِّلة، وهو اسمٌ جامعٌ للخيرِ كُلِّه، وفي «الجامع» و«الجمهرة»: البِرُّ: ضدُّ العُقوقِ، وفي «مثلَّث ابن السِّيْد»: الإكرامُ، كذا نَقلَهُ عنه في «الواعي»، وذكرَ ابن عُدَيس عنه: البِرَّ؛ بالكسر: الخير.
          وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: الخطابُ لأهل الكتابِ؛ لأنَّ اليهود تُصلِّي قِبَلَ المغرب إلى بيتِ المقدس، والنصارى قِبَلَ المشرقِ؛ وذلك أنَّهم أكثروا الخوضَ في أمرِ القبلة حين حُوِّلَ رسول الله صلعم إلى الكَعْبَةِ، وزَعَمَ كلُّ واحدٍ من الفريقين أنَّ البِرَّ التوجُّه إلى قبلته، فرُدَّ عليهم، وقُرِئ: {لَّيْسَ البِرَّ} بالنَّصْبِ على أنَّهُ خَبر مقدَّم، وقرأَ عبد الله: ▬بأَنْ تُوَلُّوا↨ على إدخالِ الباء على الخَبر؛ للتأكيدِ، وعن المَبرِّد: لو كنتُ مِمَّن يقرأ القرآن؛ لقرأت: {وَلَكِنَّ البَرَّ} بفتحِ الباءِ، وقُرئ: {ولَكِنَّ البارَّ}، وقَرأ ابن عامر ونافع: {وَلَكِنِ البِرُّ}؛ بالتخفيف.
          ({والكِتابِ}) جنسُ كتاب الله تعالى، أو القرآن.
          ({عَلَى حُبِّهِ}) مع حُبِّ المالِ والشحِّ به، وقيل: على حُبِّ الله، وقيل: على حُبِّ الإيتاء.
          وقُدِّمَ {ذَوِي القُرْبى}؛ لأنَّهُم أَحقُّ، والمرادُ: الفقراء مِنهم؛ لعدم الإلباس.
          و(المِسْكِين) الدَّائم السُّكون إلى النَّاسِ؛ لأنَّهُ لا شيءَ له؛ كـ(المِسْكِيرِ) لدائِمِ السُّكر.
          ({وابْنَ السَّبِيلِ}) المسافِرُ المُنقطع، وجعل ابنًا للسبيل؛ لملازمَتِهِ له، كما يُقال للِّصِّ القاطع: ابنُ الطريق، وقيل: هو الضيفُ؛ لأنَّ السبيلَ ترعُفُ به.
          ({والسَّائِلِينَ}) : المستطعمين، ({وَفِي الرِّقابِ}) وفي معاونَةِ المكاتَبِين حتى تفكُّوا رقابهم، وقيل: في ابتياع الرقابِ وإعتاقها، وقيل: في فَكِّ الأسارى.
          ({والمُوفُونَ}) عطفٌ على ({مَن آمَنَ})، وأخرجَ ({الصَّابِرِينَ}) مَنصوبًا على الاختصاصِ والمَدح؛ إظهارًا لفضلِ الصَّبرِ في الشدائد ومواطنِ القتالِ على سائرِ الأعمالِ، وقُرِئ: ▬والصَّابرونَ↨، وقُرِئ: ▬والموفِين↨ {والصابرين}.
          و({البَأْساء}) الفقر والشِّدَّة، و({الضَّرَّاء}) المرض والزمانَة.
          قولُهُ: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ} الآية[المؤمنون:1]: هذهِ آيَةٌ أُخرى، ذَكَرَ الآيتين؛ لاشتمالِهما على أمورِ الإيمانِ، والبابُ / مُبوَّبٌ عليها، وإنَّما لَمْ يَقُل: وقول الله ╡ : {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ} كَما قالَ فِي أوَّل الآية الأولى: وقول الله ╡ : {لَّيْسَ البِرَّ}...؛ إلى آخره؛ لعَدم الالتباسِ في ذلك، واكتفى أيضًا بذكرِهِ في الأُولى، وقال بعضُهم: ذكرهُ بلا أداةِ عَطفٍ، والحذفُ جائِزٌ، والتقديرُ: وقول الله: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ}.
          قلتُ: الحَذفُ غير جائزٍ، ولئن سَلَّمنا؛ فذاكَ في باب الشِّعر.
          وقال هذا القائل أيضًا: ويحتمل أنْ يكونَ تفسيرًا لقولِهِ: {المُتَّقُونَ} أي: المتقون هم الموصوفونَ بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ} إلى آخِرِها.
          قلتُ: لا يَصحُّ هذا أيضًا؛ لأنَّ الله تعالى ذَكَرَ في هذه الآية مَن وُصِفوا بالأوصاف المذكورة فيها، ثُمَّ أشار إليهم بقولِهِ: {وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} بَيَّنَ أنَّ هؤلاء الموصوفينَ هم المُتَّقون، فأيُّ شيء يَحتاج بعد ذلك إلى تفسيرِ المتَّقين في هذه الآية حتى يفسِّرهم بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ} إلى آخره؟ وربَّما كانَ يُمكنُ صِحَّة هذه الدعوى لو كانَت الآيتان متواليتين، فبينهما آياتٌ عديدةٌ، بل سُورٌ كثيرةٌ، فكيف يكون هذا من باب التفسير؟! وهذا كلام مستبعد جدًّا.
          قوله: (الآَيَةَ) يجوزُ فيها النَّصب على معنى: اقرأ الآية، والرَّفعُ على معنى: الآيةُ بتمامها، على أنَّهُ مبتدأٌ محذوف الخبرِ.
          قوله: {أَفْلَحَ} أي: دخلَ في الفلاحِ، وهو فِعلٌ لازمٌ، و(الفلاح) : الظفر بالمراد، وقيل: البقاءُ في الخَير، وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقال: أفلحَهُ: أصارَهُ إلى الفلاحِ، وعليه قراءةُ طلحة بن مُصَرِّف: ▬أُفْلِحَ↨ للبِناء للمفعولِ، وعنه:▬ أفلحوا↨ على (أكلونِي البَراغيث)، أو على الإبهام والتفسير.
          والخُشُوعُ في الصلاةِ: خَشية القلبِ.
          و({اللَّغْو}) : ما لا يعْنِيكَ من قولٍ أو فعلٍ؛ كاللَّعب والهزل، وما توجِبُ المروءةُ إلغاءه واطِّراحه.
          قوله: ({فاعِلُونَ}) أي: مُؤدُّون.
          وقال الزَّمَخْشَري: فإنْ قُلتَ: هلَّا قِيل: مَن مَلَكَتْ؟ قلتُ: لأنَّهُ أُريدَ مِن جنس العقلاءِ ما يجرى مَجرى غير العقلاء؛ وهم الإناث.