عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب أحب الدين إلى الله أدومه
  
              

          ░32▒ (ص) بابُ أحَبُّ الدِّينِ إلَى اللهِ أدْوَمُهُ.
          (ش) الكلامُ فيه من وجوهٍ:
          الأوَّل: قولُه: (بابُ) خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، غيرُ منوَّن إنِ اعتبرتَ إضافتَه إلى الجُملة، وقوله: (أَحَبُّ الدِّينِ) كلامٌ إضافيٌّ مبتدأ، وخبرُه قوله: (أَدْوَمُهُ).
          الثاني: وجهُ المناسبة بين البابينِ: أنَّ المذكورَ في الباب الأوَّل (حُسْنُ إسلام المَرْءِ) وهو الامتثالُ بالأوامرِ، والانتهاءُ عنِ النواهي، والشفقةُ على خَلْقِ الله تعالى، والمطلوب في هذا المداومةُ والمُواظبة، وكلَّما واظَبَ العبدُ عليه وداومَ؛ زادَ مِنَ الله مَحبَّةً؛ لأنَّ الله تعالى يُحِبُّ مُداومَةَ العبدِ على العمل الصالح، وقال الكَرْمَانِيُّ: «أحبُّ الدِّين» أي: أحبُّ العملِ؛ إذ الدِّينُ هو الطاعة، ومناسبتُه لـ«كتاب الإيمان» من جِهَة أنَّ الدِّين والإيمانَ والإسلامَ واحدٌ.
          قلتُ: العَجَبُ منه! كيف رضيَ بهذا الكلام؟! فالمناسبةُ لا تُطْلَبُ إلَّا بين البابينِ المُتواليينِ، ولا تُطْلَبُ بين بابين أو بين كتابٍ وبابٍ بينهما أبوابٌ عديدةٌ، وكذلك دعواهُ باتِّحاد الدِّين والإيمان والإسلام، والفرقُ بينها ظاهرٌ، وقد حَقَّقْنَاه فيما مضى.
          وقال بعضُهم: مُرادُ المصنِّفِ الاستدلالُ على أنَّ «الإيمانَ» يُطلَقُ على الأعمالِ؛ لأن المرادَ بـ«الدِّين» هنا العمل، والدِّين الحقيقيُّ هو الإسلام، والإسلامُ الحقيقيُّ مُرادِفٌ للإيمان، فيصحُّ بهذا مقصودُه، ومناسبتُهُ لِمَا قبلَه مِن قوله: «عليكُم بما تُطيقُون»؛ لأنَّه لَمَّا قدَّمَ أنَّ الإسلامَ يحسُنُ بالأعمال الصالحة؛ أرادَ أنْ يُنَبِّهَ على أنَّ إجهادَ النفس في ذلك إلى حدِّ المُغالَبة غيرُ مَطْلوب.
          قلتُ: فيه نَظَرٌ من وجوه:
          الأوَّل: أنَّ قولَه: (مرادُ المصنِّفِ الاستدلالُ على أنَّ الإيمان يطلقُ على الأعمالُ) غيرُ صحيح؛ لأنَّ الحديثَ ليس فيه ما يدلُّ على هذا، والاستدلالُ بالترجمةِ ليس باستدلالٍ يقومُ به المُدَّعَى.
          فإن قلتَ: في الحديث ما يدلُّ عليه؛ وهو قوله: (أَحَبُّ الدِّين إليه)، فإنَّ المرادَ هَهُنا مِنَ (الدِّين) العملُ، وقد أُطْلِقَ عليه (الدِّين).
          قلتُ: هذا إنَّما يمشي إذا أُطْلِقَ (الدِّين) المعهود المصطلحُ على (العملِ)، وليس كذلك؛ فإنَّ المرادَ بـ(الدِّين) ههنا الطاعةُ بالوضعِ الأصليِّ، فإنَّ لفْظَ (الدِّين) مشترَكٌ بين معانٍ كثيرةٍ مختلفةٍ؛ (الدِّين) بمعنى العادة، وبمعنى الجزاء، وبمعنى الطاعة، وبمعنى الحِساب، وبمعنى السُّلطان، وبمعنى المِلَّة، وبمعنى الوَرَع، وبمعنى القَهْر، وبمعنى الحَال، وبمعنى ما يَتديَّنُ به الرجلُ، وبمعنى العُبودية، وبمعنى الإسلام، وفي «المحكَم»: الدِّين: الإسلام.
          الثَّاني: أنَّه / قال: (الإسلامُ الحقيقي مرادِفٌ للإيمان) يعني: كِلاهما واحدٌ، وقال: (إنَّ «الإيمان» يُطْلَقُ على الأعمال) يشيرُ به إلى أنَّ الأعمال [مِنَ الإيمان، ثمَّ قال: (إنَّ الإسلامَ يَحْسُنُ بالأعمال الصالحة)، فكلامُه هذا يُشيرُ إلى أنَّ الأعمالَ] ليست مِنَ الإيمان؛ لأنَّ الحُسْنَ مِنَ الأوصاف الزائدة على الذَّات، وهي غيرُ الذات، فينتجُ مِن كلامِه أنَّ الإسلامَ يَحْسُنُ بالإسلامِ، وهذا فاسدٌ.
          الثالث: قوله: (فيصحُّ بهذا مقصودُه، ومناسَبَتُه لِمَا قبلَهُ) غيرُ مستقيمٍ؛ لأنَّه لا يظهرُ وجهُ المناسبةِ لِمَا قَبْلَهُ مِمَّا قَالَهُ أَصْلًا، وكيف يؤخَذُ وَجهُ المناسبةِ مِن قولِه: «عليكُم بما تُطيقون» والترجمةُ ليست عليه؟! وإنَّمَا وجهُ المناسبة لِمَا قَبْلَهُ ما ذكرتُه لك آنفًا؛ فافْهَمْ.
          الوَجْهُ الثالثُ: قولُه: (أَحَبُّ الدِّينِ) (أَحَبُّ) هنا (أَفْعَل) التفضيلِ المفعولِ، ومحبةُ الله تعالى للدِّين: إرادةُ إيصال الثوابِ عليه.
          قوله: (أَدْوَمُهُ) هو (أَفْعلُ) مِنَ الدوام؛ وهو شُمول جميعِ الأزمنةِ؛ أي: التَّأبيد.
          فإنْ قيلَ: شُمولُ الأزمنةِ لا يَقْبَلُ التفضيلَ، فما معنى (الأَدْوَم) ؟ أُجيب: بأنَّ المرادَ بـ(الدوامِ) هو الدَّوامُ العُرْفِيُّ، وذلك قابلٌ للكثرة والقِلَّة؛ فافهم.