عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الدين يسر
  
              

          ░29▒ (ص) بابٌ الدِّينُ يُسْرٌ.
          (ش) الكلامُ فيه مِن وجوهٍ:
          الأوَّل: أنَّ لفظةَ (بَابٌ) خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ مضافٍ إلى الجملة؛ أعني قولَه: (الدِّينُ يُسْرٌ) فإنَّ قولَه: (الدِّينُ) مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه (يُسْرٌ).
          الثاني: وجهُ المناسبةِ بين البابين مِن حيثُ وجودُ معنى اليُسرِ في صومِ رمضان؛ وذلك أنَّ صومَ رمضانَ يجوزُ تأخيرُه عن وقتِه للمسافرِ والمريضِ، بخلاف الصلاة، [ويجوزُ ترْكُه بالكُلِّيَة في حقِّ الشيخ الفاني مع إعطاءِ الفِدية، بخلافِ الصَّلاة]، وهذا عينُ اليُسْر، وأيضًا فإنَّه شهرٌ واحدٌ في كلِّ اثني عشر شهرًا، والصلاةُ في كلِّ يومٍ وليلة خمس مرَّات، وهذا أيضًا عينُ اليُسْر.
          الثالث: قوله: (يُسْرٌ) أي: ذو يُسْر؛ وذلك لأنَّ الالتئامَ بين الموضوع والمحمولِ شَرْطٌ، وفي مثل هذا لا يكونُ إلَّا بالتأويل، أو (الدِّين يُسْرٌ) أي: عَينُهُ، على سَبِيل المبالغة، فكأنَّه لشدَّةِ اليُسْر وكثرَتِه نفسُ اليُسْرِ؛ كما يُقال: «أبو حنيفة فِقْهٌ»؛ لكثرةِ فِقْهِهِ؛ كأنَّه صار عَيْنَ الفِقْهِ، ومنه: (رَجْلٌ عَدْل)، و(اليُسُْر) بِضَمِّ السين وسُكِونها: نقيضُ العُسْرِ، ومعناه: التخفيفُ.
          ثمَّ كَونُ هذا الدينِ يُسْرًا يجوزُ أنْ يكون بالنسبة إلى ذاتِه، ويجوزُ أن يكون بالنسبةِ إلى سائر الأديان، وهو الظاهرُ؛ لأنَّ الله تعالى رَفَعَ عن هذهِ الأمَّةِ الإصرَ الذي كان على مَن قبلَهم؛ كعدمِ جوازِ الصلاةِ إلَّا في المسجد، وعدمِ الطهارةِ بالترابِ، وقطْعِ الثَّوب الذي تُصيبه النجاسةُ، وقبولُ التوبة بقتْلِ أنفسِهم، ونحو ذلك؛ فإنَّ اللهَ تعالى مِن لطفهِ وكرمهِ رفعَ هذا عن هذه الأمَّةِ؛ رحمةً لهم، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78].
          فإنْ قُلتَ: ما الألفُ واللَّام في (الدِّين) ؟ قلتُ: للْعَهْدِ، وهو دينُ الإسلام، وقال ابن بَطَّالٍ: المرادُ أنَّ اسمَ «الدِّين» واقعٌ على الأعمالِ؛ لقوله: «الدِّينُ يُسْرٌ»، ثمَّ بَيَّنَ جهةَ اليُسْر في الحديثِ بقوله: «سَدِّدُوا»، وكلُّها أعمالٌ، و«اليُسْر»: اللِّين والانقياد، فالدينُ يُوصَف باليُسْر، والشِّدَّة إنَّما هي في الأعمال.
          (ص) وقَولِ النَّبِيِّ صلعم : «أَحَبُّ الدِّينِ إلى اللهِ الحَنِيفيَّةُ السَّمْحَةُ».
          (ش) (وَقَوْلِ) مجرورٌ؛ لأنَّه معطوفٌ على الذي أضيفَ إليه (البابُ)، فالمضافُ إليه مجرورٌ، والمعطوفُ عليه كذلك، والتقديرُ: بابُ قولِ النَّبِيِّ صلعم ، وإنَّما استَعْمَلَ هذا في الترجمة لوجهين؛ أحدهما: لكونه مُتَقَاصِرًا عن شرْطه، أخرجه ههنا مُعلَّقًا ولم يُسنِدْهُ في هذا الكتاب، وإنَّما أخرجَهُ مَوصولًا في كتاب «الأدب المفرد»، والآخرُ: لدلالة معناه على معنى الترجمةِ.
          وأخرجه أحْمَد ابن حَنْبَل وغيرُه موصولًا مِن طريق مُحَمَّد بن إسحاقَ، عن داود بن الحُصَين، عن عِكْرِمة، عنِ ابنِ عَبَّاس ☻، وإسنادُهُ حَسَنٌ، وأخرجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِن حديث عثمان بن أبي العَاتِكَةِ عن عليِّ بن يزيدَ، عن القاسم، عن أبي أُمَامة بنحوه، ومن حديث عُفَيْر بن مَعْدَان عن سُلَيمِ بن عامرٍ عنه، وكذا أخرجه ابنُ أبي شَيْبَة في «مسندِهِ»، وطرقُ هذا عن سبعةٍ مِنَ الصحابة ♥ .
          قوله: (أَحَبُّ الدِّينِ) كلامٌ إضافيٌّ مبتدأٌ بمعنى: المَحْبُوب، لا بمعنى: المُحَبِّ، وخبرُه قولُه: (الحَنِيفِيَّةُ) والمرادُ: المِلَّةُ الحَنِيفِيَّة.
          فإن قيل: التطابقُ بين المبتدأِ والخبرِ شَرْطٌ، والمبتدأُ ههنا مذكَّرٌ والخبرُ مؤنَّثٌ؟
          قلتُ: كأنَّ (الحَنِيفيَّةَ) غلبَ عليها الاسميَّة حتَّى صارت عَلَمًا، أو أن (أَفْعَلَ) التَّفضيلِ المضافَ لقصدِ الزيادة على مَن أُضيفَ إليه يجوزُ فيه الإفرادُ والمطابقةُ لِمَن هو له.
          فإن قلتَ: فيلزمُ أن تكون الملَّةُ دِينًا، وأن تكونَ سائرُ الأديان أيضًا مَحبوبًا إلى الله تعالى، وهما باطلان؛ إذِ المفهومُ مِن (المِلَّةِ) غيرُ المفهوم من (الدِّين) ؛ إذ سائرُ الأديان منسوخةٌ.
          قلتُ: قال الكَرْمَانِيُّ: اللَّازمُ الأوَّلُ قد يُلْتَزَمُ، وأمَّا الثاني؛ فموقوفٌ على تفسير المَحَبَّة، أو المرادُ بـ«الدِّين» الطاعةُ؛ أي: أَحَبُّ الطَّاعاتِ هي السَّمْحَة.
          قلتُ: لا يخلو الألفُ واللَّامُ في (الدِّين) أن يكون للجنسِ أو للعَهْدِ، فإنْ كان للجنسِ؛ فالمعنى: أحبُّ الأديانِ إلى الله الحَنِيفِيُّة، والمرادُ بـ(الأديان) الشرائعُ الماضية قبلَ أنْ تُبدَّلَ وتُنسخَ، وإن كان للعهدِ؛ فالمعنى: أحبُّ الدِّين المعهودُ؛ وهو دين الإسلام، ولكنَّ التقدير: أَحَبُّ خِصال الدِّين، وخِصالُ الدِّين كُلُّها محبوبةٌ، ولكن ما كان / منها سَمْحًا سهلًا؛ فهو أَحبُّ إلى الله تعالى، ويدلُّ عليه ما رواه أحمد في «مسنده» بسندٍ صحيحٍ مِن حديث أعرابيٍّ لَمْ يُسَمِّه: أنَّه سمعَ رسولَ الله صلعم يقول: «خيرُ دِينِكم أَيسَرُه».
          والمرادُ بـ(الملَّةِ الحَنِيفيَّة) : المِلَّةُ الإبراهيميَّة ◙ ، مُقتَبَسًا مِن قوله تعالى: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}[البقرة:135]، والحنيفُ عند العربِ: مَن كان على مِلَّة إبراهيمَ ◙ ، ثمَّ سَمَّوا مَنِ اختَتَن وحجَّ البيتَ حنيفًا، و(الحنيفُ) : المائلُ عن الباطل إلى الحقِّ، وسُمِّيَ إبراهيمُ ◙ حنيفًا؛ لأنَّه مالَ عن عبادة الأوثان.
          قوله: (السَّمْحَةُ) بالرَّفع صفةُ (الحنيفيَّة)، ومعناها: السَّهْلة، [و(المسامحةُ) هي المُساهَلة، و(المِلَّة السَّمْحة) التي لا حرجَ فيها ولا تضييقَ فيها على النَّاس، وهي ملَّةُ الإسلام].