عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى
  
              

          ░41▒ (ص) بَابُ ما جاءَ أنَّ الأعْمَالَ بالنِّيَّةِ والحِسْبَةِ، ولِكُلِّ امرِئ ما نَوَى.
          (ش) الكلامُ فيهِ على وجوهٍ:
          الأوَّل: أنَّ التقديرَ: هذا بابُ بيانِ ما جاءَ، وارتفاعُ (الباب) على أنَّهُ خَبَرُ مُبتدأٍ مَحذوفٍ؛ وهو مضافٌ إلى كَلِمَة: (ما) التي هِيَ مَوصولَةٌ، و(أنْ) مَفتوحَةٌ في محلِّ الرَّفْعِ على أنَّها فاعل (جَاءَ)، والمعنى: ما وردَ في الحديث: «إنَّ الأعمالَ بالنيَّةِ»، أخرجه البُخَاريُّ ههنا بهذا اللَّفظ، على ما يأتِي الآن، وكذلكَ أخرجَهُ بهذا اللَّفظ في (باب هجرة النَّبِيِّ صلعم )، وقد ذكرنا في أوَّلِ الكتابِ أنَّهُ أخرج هذا الحديثَ في سَبعَةِ مَواضِعَ عن سَبعَةِ شُيوخٍ.
          وقوله: (وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) مِن بعض هذا الحديثِ.
          وقولُهُ: (وَالحِسْبَةِ) ليسَ مِن لفظِ الحديثِ أصلًا، لا مِن هذا الحديثِ ولا من غيرِهِ، وإنَّما أخذَهُ مِن لفظَةِ: (يَحْتَسِبها) التي في حديثِ أبي مسعود ☺ ، الذي ذكَرهُ في هذا الباب.
          فإنْ قلتَ: (والحِسْبَةُ) عطفٌ على قولِهِ: (بالنِّيَّةِ) وداخلٌ في حُكْمِهِ، وقوله: (ما جاءَ) يشملُ كِلَيْهِما، وكلٌّ منهما يُؤذِنُ بأنَّهُ مِن لفظِ الحديث، وليسَ كذلك.
          قلتُ: لا نُسلِّمُ، أمَّا المعطوفُ؛ فلا يلزَمُ أنْ يكونَ مشاركًا للمعطوفِ عليه في جميعِ الأحكامِ، وأمَّا شُمول قولِهِ: (ما جاءَ) كلا اللَّفظين؛ فإنَّهُ أَعمُّ مِن أَنْ يكونَ باللَّفْظِ المرويِّ بِعَيْنِهِ، أو بلفظٍ يدلُّ عليه مأخوذٍ منه، وقولُهُ: («الحِسْبَة» اسمٌ من قولِهِ: «يَحْتَسِبُها» الذي وردَ في حديثِ أبي مسعودٍ ☺ )، فحينئذٍ دخَلَت هذه اللَّفْظَةُ تحتَ قوله: (ما جاءَ).
          فإنْ قُلتَ: سَلَّمْنا ذلك، ولكنَّ قولَهُ: (وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوى) مِن تتمَّةِ قولِهِ: (الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ)، وقولُهُ: (وَالحِسْبَةُ) ليسَ منه ولا مِن غيرِهِ بهذا اللَّفْظ، كانَ ينبغي أنْ يقولَ: بابُ ما جاءَ أنَّ الأعمالَ بالنيَّةِ، ولكلِّ امرئٍ ما نوى والحسبَةُ.
          قلتُ: نعم؛ كان هذا مُقتضى الظاهرِ، ولكنْ لمَّا كانَ لفظُ (الحِسْبَة) مِنَ الاحتسابِ؛ وهو الإخلاصُ؛ كان ذكرُهُ عَقيبَ النِّيَّةِ أمسَّ مِن ذِكْرِه عَقِيبَ قوله: (وَلِكُلِّ / امْرِئٍ مَا نَوَى) ؛ لأنَّ النيَّةَ إنَّما تُعتبَر إذا كانت بالإخلاصِ، قال الله: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[الأعراف:29]، وجوابٌ آخرُ؛ وهو أنَّهُ عَقَدَ هذا البابَ على ثلاثِ تراجِمَ؛ الأُولى: هِي أنَّ الأعمالَ بالنِّيَّةِ، والثانية: هي (الحِسْبَةُ)، والثالثَةُ: هي قوله: (وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) ؛ ولهذا أخرَجَ في هذا الباب ثلاثَةَ أحاديثَ، لكلِّ تَرْجَمَةٍ حديثٌ؛ فحديثُ عُمَرَ ☺ ؛ لقولِهِ: (الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ)، وحديثُ [أبي مسعود ☺ ؛ لقولِهِ: (وَالحِسْبَةُ)، وحديثُ] سَعد بن أبي وقَّاصٍ ☺ : (وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)، فلو أَخَّر لفظ (الحِسْبَة) إلى آخرِ الكلام، وذكرَهُ عَقيبَ قولِهِ: (وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) ؛ كانَ يفوتُ قَصدُهُ التَّنبيهَ على ثلاثِ تراجمَ، وإنَّما كان يُفْهَم منه ترجمتان؛ الأولى: مِنْ قَولِهِ: (الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)، والثانيَةُ: من قولِهِ: (وَالحِسْبَةُ) ؛ فانظرْ إلى هذِهِ النُّكاتِ، هل تَرى شارحًا ذَكَرَها أو حامَ حولها؟ وكلُّ ذلك بالفيض الإلهيِّ والعناية الرحمانيَّة.
          الوجهُ الثانِي: وجهُ المناسبَةِ بين البابَين مِن حيثُ إنَّ المذكورَ في البابِ الأوَّل هو الأعمالُ التي يُدخَلُ بها العبدُ الجنَّةَ، ولا يكونُ العملُ عملًا إلَّا بالنيَّةِ والإخلاصِ؛ فلذلكَ ذكر هذا الباب عَقيبَ البابِ المذكورِ، وأيضًا فالبُخَاريُّ أدخلَ الإيمانَ في جُملَةِ الأعمالِ، فيشترطُ فيها النيَّةُ؛ وهو اعتقادُ القلبِ بقولِهِ عليه الصلاة والسَّلامُ: (الأَعْمَالُ بالنِّيَّةِ)، وقال ابن بَطَّالٍ: أرادَ البُخَاريُّ الردَّ على المُرجئة: أنَّ الإيمانَ قولٌ باللِّسان دون عَقد القلبِ، ألا ترى إلى تأكيدِهِ بقوله: (فَمَنْ كانتْ هجرته إلى الله ورَسولِهِ...) إلى آخر الحديث.
          الوجه الثالث: أنَّ (الحِسْبَةَ) بكسر الحاء وسكون السين المُهْمَلة: اسمٌ مِنَ الاحتساب، والجمعُ: الحِسَب، يُقال: احتسبْتُ بكذا أجرًا عندَ الله؛ أي: اعتَددتُهُ أنوي بهِ وجهَ الله تعالى، ومنه قوله عليه الصلاة السَّلامُ: «مَن صامَ رَمضانَ إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِن ذنبه»، وفي حديث عُمر ☺ : «يا أيُّها النَّاس؛ احتسبوا أعمالَكم؛ فإنَّ مَنِ احتسبَ عَملَهُ؛ كَتَبَ اللهُ له أجرَ عملِهِ وأجرَ حِسْبَتِهِ»، وقال الجَوْهَريُّ: يُقال: احتسبتُ بكذا أجرًا عند الله، والاسمُ: الحِسْبَةُ بالكسرِ؛ وهي الأجرُ، وكذا قال في «العُباب»: «الحِسْبَةُ» بالكسرِ: الأجرُ، ويقالُ: إنَّهُ لحَسَنُ الحِسْبَةَ في الأمر؛ إذا كانَ حسنَ التدبيرِ له، والحِسْبَةُ أيضًا: مِنَ الحِسابِ، مثال: القِعْدَةُ والرِّكْبَةُ، وقال ابن دُرَيد: احتسبتُ عليه كذا؛ أي: أنكرتُهُ عليه، ومنه: مُحتَسب البلدِ، واحتسبَ فلانٌ ابنًا أو بنتًا؛ إذا ماتَ وهو كبيرٌ، فإنْ ماتَ صغيرًا؛ قيل: افْتَرَطَهُ، وقال ابن السِّكِّيتِ: احتسبتُ فلانًا: اختبرتُ ما عندَهُ، والنِّساءُ يَحتسبنَ ما عند الرجالِ لهنَّ؛ أي: يَخْتَبِرْنَ، وقال بعضُهُم: المرادُ بـ«الحسبَةِ» طلبُ الثوابِ.
          قلتُ: لم يَقُلْ أحدٌ مِن أهل اللُّغَةِ: إنَّ الحسبَةَ طَلَبُ الثوابِ، بل معناها ما ذكرناهُ عن أصحابِ اللُّغاتِ، وليسَ في اللَّفظِ أيضًا ما يُشْعِرُ بمعنى الطَّلبِ، وإنَّما (الحِسْبَةُ) هو الثَّوابُ، على ما فسَّرَهُ الجَوْهَريُّ، والثوابُ: هو الأجرُ، على أنَّهُ لا يُفسَّر بهِ في كلِّ مَوضعٍ، ألا ترى إلى حَديثِ عُمر ☺ : (فإنَّ فيه أجرَ حِسْبَتِهِ)، ولو فُسِّرَتِ الحِسبَةَ بالأجرِ في كلِّ المواضِعِ؛ يَصيرُ المعنى فيهِ: كُتِبَ له أجرُ عَملهِ وأجرُ أَجْرِهِ، وهذا لا معنى لهُ، وإنَّما المعنى هنا: له أجرُ عَملِهِ وأجرُ احتسابِ عَملِهِ؛ وهو إخلاصه فيه، أو المعنى: مَنِ اعتدَّ عَملَهُ ناويًا به؛ كُتِبَ له أجرُ عَملِهِ وأجر نِيَّتِهِ.
          (ص) فَدَخَلَ فيهِ: الإيمانُ والوضُوءُ والصَّلاةُ والزَّكاةُ والحَجُّ والصَّوْمُ والأحْكامُ.
          (ش) هذا مِن مَقولِ البُخَاريِّ، لا مِن تتمَّةِ ما جاءَ، والدليلُ عليه ما صَرَّحَ به في روايَةِ ابن عساكرَ، فقال: <قال أبو عبدِ الله: فدخَلَ فيه الإيمان....> إلى آخره، والمرادُ بـ(أَبِي عَبْدِ اللهِ) هو البُخَاريُّ نفسُه.
          فإنْ قُلتَ: ما الفاءُ في قوله: (فدَخَلَ) ؟
          قلتُ: فاءُ جوابِ شَرطٍ مَحذوفٍ؛ تقديره: إذا كانَ الأعمالُ بالنيَّةِ؛ فدخلَ فيه الإيمان... إلى آخره، والضميرُ في (فِيهِ) يرجعُ إلى ما تقدَّمَ مِن قولِهِ: (بابُ ما جاءَ أنَّ الأعمالَ بالنيَّةِ...) إلى آخره، والتذكيرُ باعتبارِ المذكورِ.
          ثُمَّ اعلم أنَّهُ ذُكِرَ هنا سبعةُ أشياءَ:
          الأوَّل: الإيمانُ، فدخوله في ذلك على ما ذهبَ إليه البُخَاريُّ مِن أنَّ الإيمانَ عَملٌ، وقد عُلِمَ أنَّ معنى (الإيمانِ) إمَّا التصديقُ، أو مَعْرِفَةُ الله تعالى بأنَّهُ واحدٌ / لا شريكَ لَهُ، وكلُّ ما جاءَ من عندِهِ حَقٌّ، فإنْ كانَ المرادُ الأوَّلَ؛ فلا دخلَ للنِّيَّةِ فيهِ؛ لأنَّ الشارِعَ قال: «الأعمالُ بالنِّيَّةِ»، والأعمالُ حركاتُ البدَنِ، ولا دخلَ للقلبِ فيه، وإنْ كانَ المراد الثاني؛ فدخولُ النِّيَّةِ فيه محالٌ؛ لأنَّ مَعرفَةَ الله تعالى لو توقَّفت على النيَّةِ، مع أنَّ النيَّةَ قصدُ المنويِّ بالقلبِ؛ لزِمَ أنْ يكونَ عارفًا بالله قبل مَعْرِفَته، وهو محالٌ، ولأنَّ المعرفَةَ _وكذا الخوفُ والرجاءُ_ مُتميِّزةٌ لله تعالى بصورتِها، وكذا التسبيحُ وسائرُ الأذكارِ والتلاوةِ لا يحتاجُ شيء منها إلى نيَّةِ التَّقرُّبِ به.
          الثاني: الوضوءُ، فدخولُهُ في ذاك على مَذهبِهِ؛ وهو مذهبُ مالكٍ والشافعيِ وأحمدَ وعامَّةِ أصحاب الحديث، وعندَ أبي حَنيفَةَ وسُفيانَ الثَّوْريِّ والأوزاعيِّ والحسنِ بنِ حَيٍّ: لا يَدخُلُ، وقالوا: ليسَ الوضوءُ عِبادَةً مُستقلَّةً، وإنَّما هُو وسيلةٌ إلى الصلاة، وقال الخَصْمُ: ونُوقِضوا بالتيمُّم؛ فإنَّهُ وَسيلَةٌ، وقد اشترطَ الحنفيَّةُ النيَّةَ فيه.
          قلتُ: هذا التعليلُ يُنْتَقَضُ بتطهيرِ الثوبِ والبدن عن الخَبَثِ، فإنَّهُ طهارَةٌ، ولم يُشْتَرطْ فيها النِّيَّةُ، فإنْ قالوا: «الوضوءُ» تطهيرٌ حُكْمِيٌّ ثبتَ شَرعًا غيرُ معقولٍ؛ لأنَّه لا يُعقَلُ في المحلِّ نَجاسَةٌ تزولُ بالغَسْلِ؛ إذِ الأعضاء طاهرةٌ حقيقةً وحُكمًا؛ أمَّا حقيقةً؛ فظاهرٌ، وأمَّا حُكمًا؛ فلأنَّهُ لو صلَّى إنسانٌ وهو حاملُ مُحدِثٍ؛ جازَتِ الصلاةُ، وإذا ثبَتَ أنَّهُ تَعبُّديٌّ، وحَكَمَ الشَّرع بالنَّجاسَةِ في حقِّ الصلاةِ فجعلَها كالحقيقَةِ؛ كان مثلَ التيمُّم؛ حيثُ جَعلَ الشارِعُ ما ليسَ بمُطهِّرٍ حقيقةً مُطهِّرًا حُكمًا، فيُشتَرطُ فيه النّيَّةُ؛ كالتيمُّم؛ تحقيقًا لمعنى التعبُّدِ؛ إذِ العبادَةُ لا تتأدَّى بدون النِّيَّةِ، بخلافِ غَسْلِ الخَبَثِ؛ فإنَّهُ معقولٌ؛ لما فيه من إزالَةِ عَين النجاسَةِ عن البَدَنِ أو الثوبِ، فلا يتوقَّفُ على النيَّةِ.
          قلنا: الماءُ مُطهِّرٌ بطبعِهِ؛ [لأنَّهُ خُلِقَ مُطهِّرًا، قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً طَهُورًا}[الفرقان:48]، كما أنَّهُ مزيلٌ للنجاسَةِ ومطهِّرٌ بِطَبْعِهِ]، وإذا كانَ كذلك؛ تحصلُ الطهارَةُ باستعمالِهِ، سواءٌ نوى أو لم يَنوِ؛ كالنَّارِ يحصلُ به الإحراقُ وإنْ لم يَقْصِد، والحَدَثُ يَعمُّ البَدَنَ؛ لأنَّهُ غَير مُتجزِّئ، فيَسْرِي إلى الجميعِ؛ ولهذا يُوصَفُ به كلِّه، فيُقال: فلانٌ مُحدِثٌ؛ لسائِرِ الصفاتِ؛ إذ ليسَ بعضُ الأعضاء أَوْلَى بالسرايَةِ مِنَ البعضِ؛ إذ لو خصَّ بعضَ الأعضاءِ بالحدَثِ؛ لخُصَّ موضعُ خروجِ النَّجاسَةِ بذلك؛ لأنَّهُ أولى المواضِع به؛ لخروجِ النجاسَةِ منه، لكنَّهُ لم يُخَصَّ؛ فإنَّهُ لا يُقال: مَخْرَجُهُ مُحدِثٌ، فإذا لم يُخَصَّ المَخرَجُ بذلك؛ فغيرهُ أَوْلَى، وإذا ثبتَ أنَّ البدنَ كُلَّهُ مَوصوفٌ بالحَدَثِ؛ كانَ القياسُ غَسْلَ كُلِّهِ، إلَّا أنَّ الشرعَ اقتصرَ على غسلِ الأعضاءِ الأربعَةِ التي هي الأمَّهاتُ للأعضاءِ؛ تَيسيرًا، وأسقطَ غَسل الباقِي فيما يَكثُر وقوعهُ، كالحَدَثِ الأصغَرِ؛ دفعًا للحَرَجِ، وفيما عَداهُ _وهو الذي لا يَكثُر وُجودُه؛ كالحدَثِ الأكبرِ؛ مثل: الجنابَةِ والحيضِ والنفاسِ_ أُقِرَّ على الأصلِ؛ حيث أوجَبَ غَسْلَ البَدَنِ فيها، فثبَتَ بما ذكرنا أنَّ ما لا يُعقَلُ معناهُ وصفُ كلِّ البدنِ بالنَّجاسَةِ، مع كونهِ طاهرًا حقيقةً وحُكْمًا، دونَ تخصيصِ المَخْرَج، وكذا الاقتصارُ على غَسْلِ بعضِ البدنِ _وهو الأعضاءُ الأربعَةُ_ بعد سِرايَةِ الحَدثِ إلى جميعِ البدنِ؛ غيرُ معقولٍ، وكونُهما مِمَّا لا يُعقَلُ لا يوجِب تغييرَ صِفَةِ المُطهِّر، فبقيَ الماءُ مُطهِّرًا كما كانَ، فيُطهِّرُ مُطلقًا، والنِّيَّةُ لو اشْتُرِطت إنَّما تُشترَطُ للفعلِ القائمِ بالماءِ؛ وهو التطهيرُ، لا الوصف القائِم بالمحلِّ؛ وهو الحَدث؛ لأنَّه ثابتٌ بدونِ النِّيَّةِ، وقد بيَّنَّا أنَّ الماءَ فيما يقومُ به من صِفَةِ التطهيرِ لا يحتاجُ إلى النيَّةِ؛ لأنَّهُ مُطهِّرٌ طَبعًا، [فيكونُ التطهيرُ به مَعْقولًا، فلا يُحتاج إلى النِّيَّةِ، كما لا يُحتاجُ في غَسل الخَبَثِ، بخلافِ التُّراب؛ فإنَّهُ غَيرُ مُطهِّرٍ بطبعِهِ]؛ لكونِهِ مُلوَِّثًا بالطبعِ، وإنَّما صارَ مُطهِّرًا شَرعًا حالَ إرادةِ الصَّلاةِ؛ بشرطِ فقدِ الماء، فإذا وُجِدَت نيَّةُ إرادة الصلاةِ؛ صار مُطهِّرًا، وبعد إرادَةِ الصَّلاةِ وصيرورته مطهِّرًا شرعًا مُستغنًى عن النيَّةِ، كما استغنى الماءُ عنها، بلا فرقٍ بينهما.
          الثالثُ: الصلاةُ، ولا خلافَ أنَّها لا تجوزُ إلَّا بالنيَّةِ.
          الرابع: الزَّكاةُ، ففيها تفصيلٌ؛ وهو أنَّ صاحبَ النِّصاب الحوليِّ إذا دفَعَ زكاته إلى مُستَحِقِّها؛ لا يجوزُ لَهُ ذلكَ إلَّا بنيَّةٍ مقارِنةٍ للأداءِ، أو عند عَزل ما وجبَ منها؛ تيسيرًا له، وأمَّا إذا كانَ له دينٌ على فقيرٍ، فأبرأَهُ / عنهُ؛ سقطَ زكاتهُ عنه، نوى به الزَّكاةَ أو لا، ولو وهبَ دَينهُ مِن فَقيرٍ، ونوى عن زكاة دينٍ آخر على رجلٍ آخر، أو نوىَ زكاةَ عينٍ له؛ لا يصحُّ، ولو غلب الخوارجُ على بلدةٍ، فأخذوا الزكاةَ؛ سقطَت عن أربابِ الأموالِ بخلافِ العُشْرِ؛ فإنَّ للإمام أنْ يأخذَه ثانيًا؛ لأنَّ التقصير ههنا مِن جهةِ صاحب المال؛ حيثُ مَرَّ بِهم، وهناك التقصيرُ من الإمام؛ حيث قَصَّرَ فيهم، وقالت الشافعيَّةُ: السلطانُ إذا أخَذَ الزكاةَ؛ فإنَّها تَسقطُ ولو لم ينوِ صاحبُ المال؛ لأنَّ السلطانَ قائمٌ مقامَهُ.
          قلتُ: كان ينبغي على أصلهم ألَّا تَسقُطَ إلَّا بالنيَّةِ منه؛ لأنَّ السلطانَ قائمٌ مقامَهُ في دفعها إلى المستحقِّينَ، لا في النيَّةِ، ولا حَرَجَ في اشتراطِ النيَّةِ عند أخذ السُّلطان.
          الخامس: الحجُّ، ولا خلافَ فيه أنَّهُ لا يجوزُ إلَّا بالنيَّةِ؛ لأنَّهُ داخلٌ في عموم الحديثِ.
          فإنْ قُلتَ: قال الشافعيُّ: إذا نَوى الحجَّ عن غيرِهِ؛ ينصرفُ إلى حَجِّ نَفسِهِ، ويُجزئهِ عن فَرضِهِ، وقد تركَ العملَ بعمومِ الحديثِ.
          قلتُ: قال الشافعيَّةُ: أخرجَهُ الشافعيُّ مِن عمومِ الحديثِ بحديثِ شُبْرُمَة، والعملُ بالخاصِّ مُقدَّمٌ؛ لأنَّهُ جمعَ بين الدليلين، وحديثُ شُبْرُمَةَ رواه أبو داود عن إسحاقَ بن إسماعيلَ [وهنَّاد بن السَّرِيِّ، [و]المعنى واحدٌ، قال إسحاق: أنبأنا عَبدَةُ بن سُليمان عنِ ابنِ أبي عَروْبَةَ، عن قَتادَةَ، عن عَزْرةَ، عن سعيد بن جُبَير، عنِ ابنِ عَبَّاس: أنَّ النَّبِيَّ صلعم سَمِعَ رجلًا يقول: لبَّيك عن شُبْرُمَة، قال: «مَن شُبْرُمَةُ؟»، قال: أخٌ له، أو قريبٌ له، قال: «حججتَ عن نفسِك؟» قال: لا، قال: «حُجَّ عن نفسِكِ، ثمَّ حُجَّ عن شُبْرُمَةَ»، رواتُهُ كلُّهم رجالُ «مسلمٍ» إلَّا إسحاقَ بن إسماعيل] شيخَ أبي داود، وقد وثَّقَهُ بعضُهم، وقال البيهقيُّ: هذا إسنادٌ صحيحٌ، ليسَ في هذا الباب أصحُّ منه، وقد أخرجَهُ ابن ماجَه أيضًا في «سُنَنِهِ»، وجاءَ في روايَة البيهقيِّ: «فاجْعَل هذه عن نفسِكَ، ثمَّ حُجَّ عن شُبْرُمَة»، وفي روايَةٍ له أيضًا: «هَذِهْ عَنْكَ، وحُجَّ عَنْ شُبْرُمَة»، وقالوا: فُهِمَ مِن هذا الحديثِ: أنَّهُ لا بُدَّ مِن تقديمِ فَرض نفسِه، [وهو قولُ ابن عَبَّاسٍ والأوزاعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ، واحتجَّتِ الحنفيَّةُ] بما رواه البُخَاريُّ ومسلمٌ: أنَّ امرأةً من خَثْعَم قالتْ: يا رسول الله؛ إنَّ أبي أدركتْهُ فريضةُ الحجِّ، وإنَّهُ شَيخٌ كبيرٌ لا يستَمسكُ على الراحلَةِ، أفأحجُّ عنه؟ قال: «نعم؛ حُجِّي عن أبيكِ»، من غيرِ استفسارٍ: هل حَججتِ أم لا؟ وهذا أصحُّ مِن حديثِ شُبْرُمَة، على أنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ قالَ: الصحيحُ مِنَ الرواية: «اجعلْها عن نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عن شُبْرُمَة»، قالوا: كيفَ يأمره بذلك والإحرامُ وقعَ عنِ الأوَّل؟
          قلنا: يَحْتَمِلُ أنَّهُ كانَ في ابتداءِ الإسلامِ حينَ لَمْ يَكُنِ الإحرامُ لازمًا، على ما رُوِيَ عن بعضِ الصحابَةِ: أنَّهُ تحلَّلَ في حَجَّةَ الوداعِ عن الحَجِّ بأفعالِ العُمْرَةِ، فكانَ يُمْكنُهُ فسخُ الأوَّل، وتقديمُ حَجِّ نَفْسِهِ، والرواياتُ التي رواها البيهَقِيُّ لم تَثْبُت.
          السادسُ: الصَّومُ، ففيهِ خِلافٌ؛ فمَذْهَبُ عطاءٍ ومجاهدٍ وزُفَرَ أنَّ الصحيحَ المقيمَ في رمضانَ لا يَحتاج إلى نِيَّةٍ؛ لأنَّهُ لا يصحُّ في رمضانَ النَّفلُ، فلا مَعْنَى للنيَّةِ؟ وعندَ الأئمَّةِ الأربعة: لا بُدَّ من النيَّةِ، غيرَ أنَّ تعيينَ الرمضانيَّةِ ليسَ بشرطٍ عند الحنفيَّةِ، حتَّى لو صام رمضانَ بنيَّة قَضاءٍ أو نَذرٍ عليه أو تطوُّعٍ؛ أنَّهُ يُجزِئ عن فرضِ رمضانَ.
          فإنْ قُلتَ: لِمَ قَدَّمَ الحجَّ على الصومِ؟
          قلتُ: بناءً على ما ورَدَ عندَهُ في حديث: «بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ»، وقد تقدَّمَ.
          السابع: الأحكامُ، قال الكرمانيُّ: قولُهُ: «الأحكامُ»؛ أي: بتمامِها، فيدخلُ فيه تمامُ المعاملاتِ والمناكحاتِ والجراحاتِ؛ إذ يُشْتَرط في كُلِّها القصدُ إليه؛ ولهذا لو سبقَ لسانُه مِن غيرِ قَصدٍ إلى «بِعْتُ ورهنْتُ وطلَّقْتُ ونكحْتُ»؛ لم يصحَّ شيءٌ منها.
          قلتُ: كيفَ يَصحُّ أنْ يُقال: (الأحكامُ بتمامها) وكثيرٌ منها لا يحتاج إلى نيَّةٍ، بلا خلافٍ بين العلماء؟ فإنْ قالَ: هذا بناء على مذهبِهِ؛ فمذهبه ليسَ كذلك، فإنَّ القاضيَ أبا الطيِّبِ نَقَل عن البُوَيْطِيِّ عن الشافعيِّ: أنَّ مَن صَرَّحَ بالطلاقِ والظِّهارِ والعِتْقِ، ولم يكن له نِيَّةٌ؛ يلزمُهُ في الحُكمِ، وكذلك أداءُ الدَّين، وردُّ الودائع، والأذان، والتلاوةُ، والأذكارُ، والهدايةُ إلى الطريقِ، وإماطةُ الأذى؛ عباداتٌ، كلُّها تصحُّ بلا نيَّةٍ إجماعًا، وقال بعضُهُم: / والأحكامُ؛ أي: المعاملاتُ التي يدخل فيها الاحتياجُ إلى المحاكماتِ، فيشمل البيوعَ والأنكحةَ والأقاريرَ وغيرَها.
          قلتُ: هذا أيضًا مثلُ ذاك؛ فإنَّ رَدَّ الودائِع ممَّا يَقَعُ فيه المحاكمَة، مع أنَّ النيَّةَ لَيْسَتْ بشرطٍ فيه إجماعًا، وكذلِكَ أداءُ الدَّيْنِ.
          فإنْ قَال: مؤدِّي الدينِ أو رادُّ الوديعة يَقصُدُ براءةَ الذمَّة، وذَلِكَ عِبادَةٌ.
          قلْنا: نحنُ لا نَدَّعِي أنَّ النيَّةَ لا تُوجَدُ في مِثل هذه الأشياء، وإنَّما نَدَّعِي عَدمَ اشتراطها، ومُؤدِّي الدَّين إذا قصَدَ براءَةَ الذمَّةِ؛ بَرئَتْ ذِمَّتُهُ [وحصلَ له الثَّوابُ، وليسَ لنا فيه نزاعٌ، وإذا أدَّى مِن غَير قصدِ براءة الذمَّةِ]؛ هل يقولُ أحدٌ: إنَّ ذمَّتَهُ لم تَبْرَأْ، وقال ابن المُنَيِّرِ: كلُّ عمَلٍ لا يَظهرُ له فائدةٌ عاجلًا، بل المقصودُ به طلبُ الثوابِ؛ فالنيَّةُ شَرطٌ فيهِ، وكلُّ عَملٍ ظهرَتْ فائدتُهُ ناجزةً، وتقاضتْهُ الطبيعةُ؛ فلا يُشترط فيه النيَّةُ، إلَّا لِمَن قَصدَ بفعلِهِ معنًى آخَرَ يترتَّبُ عليه الثَّواب.
          قالَ: وإنَّما اختلفَ العُلماءُ فِي بعض الصُّورِ؛ لتحقُّق مناطِ التَّفرِقَة، قال: وأمَّا ما كانَ من المعانِي المختصَّة؛ كالخوفِ والرَّجاءِ؛ فهذا لا يُقال فيه باشتراطِ النيَّةِ؛ لأنَّهُ لا يُمْكِنُ إلَّا مَنويًّا، ومتى فُرِضَتِ النيَّةُ مَفقودةً فيه؛ استحالتْ حقيقتُهُ، فالنيَّةُ فيها شرطٌ عَقْلِيٌّ، وكَذلِكَ لا يُشْتَرطُ النيَّة للنيَّةِ؛ فرارًا مِنَ التَّسلسُل.
          قلتُ: فيه نَظرٌ مِن وجوهٍ؛ الأوَّل: في قولِهِ: (كلُّ عَملٍ لا يَظْهَرُ له فائدةٌ؛ فإنَّهُ منقوضٌ بتلاوَةِ القرآنِ والأذانِ وسائر الأذكار؛ فإنَّها أعمالٌ لا تظهَرُ لها فائِدَةٌ عاجلًا، بل المقصودُ منها طلبُ الثوابِ، مع أنَّ النيَّةَ ليستْ بشرطٍ فيها بلا خلافٍ، الثاني: في قولِهِ: (وَكُلُّ عَمَلٍ ظَهَرَتْ...) إلى آخره، فإنَّهُ مَنقوضٌ أيضًا بالبيعِ والرَّهْنِ والطلاقِ والنِّكاح بسبقِ اللِّسانِ من غيرِ قَصدٍ، فإنَّهُ لَمْ يَصحَّ شيءٌ منها على أصلهم؛ لعدم النيَّةِ، الثالثُ: في قولِهِ: (وأمَّا ما كانَ من المعاني المختصَّة...) إلى آخرِهِ؛ فإنَّهُ جَعل النيَّةَ فيه حقيقةَ تلك المعانِي، ثُمَّ قال: فالنيَّةُ فيها شرطٌ عَقْلِيٌّ، وبين الكلامين تناقضٌ، الرابعُ: في قوله: (وكذلكَ لا يُشتَرَطُ النيَّةُ للنيَّةِ؛ [فرارًا من التسلسلِ) ؛ فإنَّهُ بَنَى عَدمَ اشتراطِ النيَّةِ للنيَّةِ] على الفرارِ مِنَ التسلسلِ، وليس كذلك؛ لأنَّ الشارعَ شَرطَ النيَّةَ للأعمالِ؛ وهي حركاتُ البدنِ، والنيَّةُ خَطْرة القلب، وليستْ من الأعمالِ، ويدلُّ عليه أيضًا قوله عَلَيْهِ الصلاة والسَّلام: «نِيَّةُ المؤمنِ خَيرٌ من عملِهِ»، فإذا كانَتِ النيَّةُ عملًا؛ يكون المعنى: عَمَلُ المؤمنِ خَيرٌ من عملِهِ، وهذا لا معنى له.
          (ص) وَقَدْ قالَ تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}[الإسراء:84]: على نيَّتِهِ.
          (ش) قال الكرمانيُّ: (الظاهِرُ أنَّهُ جُملَةٌ حاليَّةٌ، لا عطفٌ)، وحكاهُ بعضُهم _هذا_ عنه، ثُمَّ قال: أي: مع أنَّ الله قال.
          قلتُ: ليتَ شِعري! ما هذه الحالُ؟ وأين ذو الحالِ؟ وهل هِي مَبيِّنةٌ لهيئَةِ الفاعلِ أو لهيئَةِ المفعول؟ على أنَّ القواعِد النحويَّةَ تقتضي أنَّ الفعلَ الماضيَ المثْبَتَ إنَّما يقعُ حالًا إذا كان فيه (قَد) ؛ لأنَّ الماضيَ مِن حيثُ إنَّهُ مُنقَطِعُ الوجودِ عن زمانِ الحالِ مُنافٍ له، فلا بُدَّ من (قَد) ؛ ليقرِّبَه مِنَ الحالِ؛ فإنَّ القريبَ مِنَ الشيء في حُكْمِهِ.
          فإنْ قُلتَ: لا يلزَمُ أنْ تكونَ (قد) ظاهرةً، بل يجوزُ أنْ تكونَ مضمرةً؛ كما في قوله تعالى: {أَوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ}[النساء:90] أي: قد حَصِرَت صدورهم.
          قلتُ: أنكرَ الكوفيُّونَ إضمار (قَد)، وقالوا: هو خلافُ الأصل، وأوَّلوا الآية بـ: أَوْ جاؤوكم حاصِرَةً صدورهم، نعم؛ يمكنُ أنْ تُجعَلَ الواوُ هنا للحالِ، لكن بتقديرٍ محذوفٍ، وتقديرُ هذه الجملَةِ اسميَّةٌ؛ وهو أنْ يُقال: تقديرُه كيفَ لا يدخلُ الإيمانُ وأخواته التي ذَكَرَها في قولِهِ: (الأعمال بالنيَّةِ)، والحالُ أنَّ الله تعالى قال: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}[الإسراء:84
          وقولُهُ: (لا عَطْفٌ) ليسَ بسديدٍ؛ لأنَّهُ يجوزُ أَنْ تكونَ للعطْفِ على محذوفٍ؛ تقديرُهُ: فدخَلُ فيه الإيمان... إلى آخره؛ لأنَّهُ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلام قالَ: «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ»، وقال تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}،[الإسراء:84] وتفسيرُ بعضِهم بقولِهِ: «أي: مع أنَّ اللهَ تعالى» يُشعِرُ بأنَّ الواو هنا للمصاحبَةِ، وقد تَبِعَ الكَرْمانِيَّ بأنَّها للحالِ، وبينهما تنافٍ، على أنَّ الواو بمعنى: (معَ) لا تخلو إمَّا أنْ تكونَ مِن بابِ المفعولِ معه، أو هي الواوُ الداخلَةُ على المضارعِ المنصوبِ؛ لعطفهِ على اسمٍ صريحٍ أو مؤوَّلٍ؛ كقولِه:
ولُبْسُ عَباءَةٍ وتَقرَّ عَيْنِي                     ...............
          والثاني: شَرْطُهُ أنْ يتقدَّمَ الواوَ نفيٌ أو طلبٌ، ويُسمِّي الكوفيُّون هذه واوَ / الصَّرفِ، وليسَ النَّصب بها، خلافًا لهم، ومثالها: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران:142] وقول الشاعرِ:
لا تنهَ عن خُلُقٍ وَتَأتيَ مثلَهُ                     ...............
          والواوُ هنا ليستْ مِنَ القَبيلَين المذكورَين، ويجوزُ أَنْ تكونَ الواوُ ههنا بمعنى لامِ التَّعليل، على ما نُقِل عن الخارزنجيِّ: أنَّها تجيءُ بمعنى لام التَّعليل.
          فالمعنى على هذا: فدخلَ فيه الإيمان وأخواته؛ لقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}، قال اللَّيثُ: الشاكِلَةُ من الأمورِ: ما وافق فاعله، والمعنى: أنَّ كلَّ أحدٍ يَعمَلُ على طريقَتِهِ التي تشاكل أخلاقَه؛ فالكافرُ يَعمل ما يُشبه طريقتَه؛ مِنَ الإعراضِ عند النِّعمة، واليأس عندَ الشدَّةِ، والمؤمنُ يَفعل ما يُشبه طريقه؛ مِنَ الشكرِ عند الرخاء، والصبرِ عند البلاء، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا}[الإسراء:83] وقالَ الزَّجَّاجُ: {على شاكلَتِهِ} على طريقَتِهِ ومذهبِهِ، ونُقِلَ ذلك عن مجاهدٍ أيضًا، ومِن هذا أخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وقال: أي: على مَذهَبِهِ وطريقَتِهِ التي تشاكلُ حالَه في الهدى والضلالة، مِن قولهم: طَريقٌ ذو شَواكلَ؛ وهي الطَّريق التي تتشعَّبُ منه، والدَّليلُ عليه قوله: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا}[الإسراء:84] أي: أسدُّ مذهبًا وطريقَةً.
          قوله: (عَلَى نِيَّتِهِ) تفسيرٌ لقولِهِ: {على شاكِلتِهِ}، وحُذِفَ منه حرفُ التَّفسير، وهذا التَّفسيرُ رُوِيَ عن الحَسن البصريِّ ومعاويةَ بن قُرَّةَ المُزنِيِّ وقَتادَة، أخرجَهُ عبد بن حُميدٍ والطبريُّ عنهم، وفي «العُباب»: وقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}[الإسراء:84] أي: على ناحيَتِهِ وطريقَتِهِ، وقال قَتادَةُ: أي على جانِبِهِ وعلى ما يَنْوِي، وقال ابن عَرفةَ: أي: على خليقَتِهِ ومذهبِهِ، ثُمَّ قال في آخرِ البابِ: والتركيبُ يدلُّ مُعظَمُهُ على المماثَلَةِ.
          (ص) وَقال النَّبِيُّ صلعم : «ولَكِنْ جهِادٌ ونِيَّةٌ».
          (ش) هو قِطعَةٌ مِن حديثٍ لابن عَبَّاس ☻؛ أوَّله: «لا هِجْرَةَ بعد الفتحِ، ولكن جهادٌ ونِيَّةٌ، وإذا استُنْفِرْتُم؛ فانفروا»، أخرجَهُ ههنا مُعلَّقًا.
          وأخرجَهُ مُسْنَدًا في (الحجِّ) و(الجهادِ) و(الجزيَةِ) ؛ أمَّا في (الحجِّ) ؛ فعَن عثمان ابن أبي شيبَةَ، وفيه وفي (الجِزْيَةِ) عن عليِّ بن عبد الله؛ كلاهما عن جَريرٍ، وأمَّا في (الجهادِ) ؛ فعَنْ آدمَ عن شَيبانَ، وعن عَلِيِّ بن عبد الله وعَمْرو بن عَلِيٍّ؛ كلاهما عن يحيى بن سعيدٍ عن سُفيانَ.
          وأخرجَهُ مُسلمٌ في (الجهادِ) عن يحيى بن يَحيى، وفيه وفي (الحجِّ) عن إسحاقَ بن إبراهيم؛ كلاهُما عن جَريرٍ، وفيهما أيضًا عن مُحَمَّد بن رافع عن يَحيى بن آدم، وفي نُسخَةٍ: (عن مُحَمَّد بن رافع وإسحاقَ عن يحيى بن آدم عن مُفضَّل بن مُهلهل، وفي (الجهادِ) أيضًا عن أبي بكرٍ وأبي كُرَيبٍ؛ كلاهما عن وكيعٍ عن سُفيان، وعن عبد بن حميد عن عبد الله بن موسى عن إسرائيلَ، وفي نُسخَةٍ: (عن شَيبان) بدلَ (إسرائيل) ؛ خمستُهُم عن منصورٍ عنه بهِ.
          وأخرجَهُ أبو داود في (الجهادِ) و(الحجِّ) عن عثمانَ به مُقطَّعًا، وأخرجَهُ التِّرْمِذيُّ في (السِّيَرِ) عن أحمدَ بن عَبْدَة الضَّبِّيِّ عن زيادِ بن عبد الله البكَّائيِّ عن مَنصورٍ به، وقال: حَسَنٌ صحيحٌ.
          وأخرجَهُ النَّسائيُّ فيه وفي (البيعَةِ) عن إسحاقَ بن مَنصور عن يَحيى بن سَعيدٍ به، وفي (الحجِّ) عن مُحَمَّد بن قُدامَةَ عن جَرير، وعن مُحَمَّد بن رافع به مُخْتَصَرًا.
          والمعنى: أنَّ تحصيلَ الخَيرِ بسبب الهجرةِ قد انقطعَ بفتح مكَّةَ [شرَّفها الله، ولكن حَصِّلوه في جهادٍ ونيَّةٍ صالِحةٍ، وفيه الحثُّ على نيَّةِ الخيرِ مطلقًا، وأنَّه يُثاب على النيَّةِ.
          قولُهُ: (جِهَادٌ) مرفوعٌ على]
أنَّهُ خَبَرُ مبتدأٍ محذوفٍ؛ أي: ولكن طلب الخَيرِ جِهادٌ ونِيَّةٌ.