عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر
  
              

          ░36▒ (ص) بَابُ خَوْفِ المُؤمِنِ مِنْ أنْ يَحْبَطَ عَملُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ.
          (ش) الكلامُ فيهِ على أنواعٍ:
          الأوَّل: أنَّ قولَهُ: (بَابٌ) مَرفوعٌ مُضافٌ إلى ما بَعدَهُ؛ تقديرُهُ: هذا بابٌ في بيانِ خَوفِ المؤمِنِ مِن أنْ يحبَطَ عَملُهُ، وكَلِمَةُ (أنْ) مَصدريَّةٌ؛ تقديره: مِن حَبْطِ عمله، وليسَ في بعضِ النُّسَخِ كَلِمة <مِن>، وَهِي وإنْ لَم تكنْ مَوجودَةً؛ لكنَّها مُقدَّرةٌ؛ إذ المعنى عَلَيْها.
          قولُهُ: (يَحْبَطَ) على صيغَةِ المعلومِ، من حَبِطَ عَملُهُ يَحبَطُ حبْطًا وحُبُوطًا، من (باب: عَلِمَ يَعْلَم)، وقال أبو زَيدٍ: حَبَطَ بالفَتح، وقُرِئ: {فَقَدْ حَبَطَ عَمَلُهُ}[المائدة:5]؛ بِفَتح الباءِ، وهو البُطلان، قال الكَرْمانيُّ: فإنْ قُلتَ: القولُ بإحباطِ المَعاصِي للطاعاتِ مِن قواعِدِ الاعتزالِ، فما وَجهُ قول البُخَاريِّ هذاكَ؟ قلتُ: هذا الإحباطُ ليس بذاك؛ إذ المرادُ به الإحباطُ بالكُفْرِ، أو بِعَدَمِ الإخلاصِ ونحوِه.
          وقال النَّوويُّ: المرادُ بـ«الحَبْطِ» نُقصانُ الإيمانِ، وإبطالُ بعضِ العباداتِ، لا الكُفْرُ، فإنَّ الإنسانَ لا يَكْفُر إلَّا بما يَعتَقِدهُ أو يفعلُ عالِمًا بأنَّهُ يوجبُ الكفرَ.
          قلتُ: فيه نَظرٌ؛ لأنَّ الجمهورَ على أنَّ الإنسانَ يَكفُر بكلمَةِ الكُفر، وبالفعلِ الموجِبِ للكُفْر وإنْ لم يَعلَم أنَّهُ كُفرٌ.
          قولُهُ: (يَحْبَطَ عَمَلُهُ) المرادُ: ثوابُ عَملِهِ، فالمضافُ فيه مَحذوفٌ.
          قوله: (وَهُوَ لَا يَشْعُرُ) جملةٌ اسميَّةٌ وقعتْ حالًا، من: شَعَرَ يَشعُرُ، من (باب: نَصَرَ يَنْصُر)، وفي «العُباب» شَعَرْتُ بالشَّيء _بالفَتْح أشعُرُ بهِ بالضَّمِّ شِعْرًا وشِعْرة وشِعْرى_ بالكَسْرِ فِيهنَّ وشَعرةٌ بالفتح، وشُعُورًا ومَشْعُورًا ومَشْعُورةً: عَلِمتُ بِهِ وفطِنْتُ لَهُ، ومنه قولهم: «ليتَ شِعْرِي».
          الثاني: وجهُ المناسبَةِ بين البابين من حيثُ إنَّ المذكورَ في البابِ الأوَّل هو أنَّ حُصول الثوابِ بالقيراطين أو بقيراطٍ الذي هو مِثل جَبلِ أُحُد إنَّما يحصلُ إذا كانَ عَملُهُ احتسابًا خالصًا لله تعالى، وفي هذا الباب ما يُشيرُ إلى أنَّهُ قد يَعرِض للعاملِ ما يُحبِط عملَه، فيُحْرَمُ بسببهِ الثوابَ الموعودَ وهو لا يَشْعُر، وفي نفسِ الأمرِ ذِكْرُ هذا الباب استطرادِيٌّ لأجلِ التنبيهِ على ما ذكرنا، وإلَّا؛ كانَ المناسبُ أنْ يذكرَ عَقيبَ الباب السابق: (باب: أداء الخُمس من الإيمانِ) ؛ لأنَّ الأبوابَ المعقودَةَ ههنا في بيانِ شُعَبِ الإيمان.
          الثالث: ذكرَ النَّوويُّ: مُراد البُخَاريِّ بهذا الباب الرَّدُّ على المُرجِئَةِ في قولهم: إنَّ الله لا يُعذِّبُ على شيءٍ مِنَ المعاصِي مَن قالَ: لا إلهَ إلَّا الله، ولا يُحبَطُ شيءٌ مِن أعمالِهِ بشيءٍ من الذنوبِ، وإنَّ إيمانَ المطيعِ والعاصي سواءٌ، فذكر في صدر الباب أقوالَ أئمَّةِ التابعين وما نقلوهُ عن الصحابة ♥ ، وهو كالمشيرُ إلى أنَّهُ لا خلافَ بينهم فيه، وأنَّهم مع اجتهادِهِم المعروف خافوا ألَّا ينجوا مِن عذابِ الله تعالى، وقال القاضي / عياضٌ: المُرجِئَةُ أضدادُ الخوارج والمعتزلَة، الخَوارجُ تكفِّرُ بالذنوبِ، والمعتزلَةُ يُفسِّقون بِها، وكُلُّهم يوجبُ الخلودَ في النَّارِ، والمُرْجِئَة تقولُ: لا تَضرُّ الذنوبُ مع الإيمانِ، وغُلاتُهم تقولُ: يَكفي التَّصديقُ بالقَلبِ [وَحدَهُ، ولا يَضرُّ عدُم غيرِهِ، ومنهم مَن يقولُ: يكفي التصديقُ بالقلبِ] والإقرارُ باللِّسانِ، وقالَ غيرُهُ: إنَّ مِن المُرجِئَةِ مَن وافَقَ القَدريَّة؛ كالصالحيِّ والخالديِّ، ومنهم مَن قال بالإرجاءِ دون القَدَرِ، وهم خَمسُ فرقٍ، كَفَّر بعضُهم بعضًا، و(المرجِئَةُ) بِضَمِّ الميمِ، وكسرِ الجيم، وهمزَةٍ، مُشتقٌ مِنَ الإرجاء؛ وهو التأخيرُ، وقولُهُ تعالى: {أَرْجِئْهُ وَأَخَاهُ}[الأعراف:111] أي: أخِّره، والمُرجِئُ مَن يُؤخِّر العَملَ عن الإيمانِ والنيَّةِ والقصدِ، وقِيل: من الرَّجاءِ؛ لأنَّهم يقولونَ: لا تَضرُّ مع الإيمانِ مَعصيَةٌ، كما لا تَنْفع مع الكُفر طاعَةٌ، وقيل: مأخوذٌ مِنَ الإرجاءِ، بمعنى: تأخير حُكم الكبيرَةِ، فلا يُقضى لها بحُكمٍ في الدنيا.
          (ص) وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذَّبًا.
          (ش) الكلامُ فيه على وجوهٍ:
          الأوَّل: أنَّ (إِبْرَاهِيمَ) هو ابنُ يزيدَ بن شريكٍ، التَّيميُّ؛ تيم الرِّباب، أبو أسماء، الكُوفِيُّ، قيل: قتَلَهُ الحَجَّاج بن يوسُف، وقيل: ماتَ في سِجنهِ لمَّا طلبَ الإمامَ ابراهيمَ النَّخعيَّ، فوقعَ الرسولُ بإبراهيمَ التَّيميِّ، فأخذَهُ وحَبَسَهُ، فقيل له: ليسَ إيَّاك أرادَ، فقال: أكرَهُ أن أدْفَع عن نفسي، وأكونَ سَبَبًا لحبسِ رجلٍ مُسلمٍ بريءِ الساحَة، فصبَرَ في السِّجنِ حتَّى ماتَ، قال يَحيى: هو ثِقَةٌ مُرْجِئٌ، ومِن غرائِبهِ ما رُوِي عنِ الأعمشِ عن إبراهيمَ التَّيميِّ، قال: إنِّي لأمكثُ ثلاثين يومًا لا آكُلُ، وماتَ سنة اثنتين وتسعين، روى له الجماعَةُ، و(تيم الرِّباب) بكسر الراء: قال الحازميُّ: «تيم الرِّباب» هو تَيم بن عبد مناةَ بن ودِّ بنِ طابخةَ، وقال مَعْمَر بن المثنَّى: «تيم الرِّباب» ثورٌ وعَديٌّ وعكلٌ ومزينَة بنو عبد مناةَ وضبَّة بن ودٍّ، قيل: سَمُّوا به؛ لأنَّهم غَمسوا أيديَهم في رُبٍّ، وتحالفوا عليه، هذا قول ابن الكَلْبِيِّ، وقال غيرُهُ: سُمُّوا بهِ؛ لأنَّهم تَربَّبوا؛ أي: تحالَفوا على بني سعد بن زيد مناةَ.
          قلتُ: (الرُّبُّ) بِضَمِّ الراء وتشديد الباء المُوَحَّدة: هو الطلاءُ الخاثِر.
          الثاني: أنَّ قولَ إبراهيمَ هذا رواهُ أبو قاسمٍ اللَّالكائيُّ في «سُنَنِهِ» بسنَدٍ جيِّدٍ عن القاسِم بن جعفرٍ: أنبأنا مُحَمَّد بن أحمدَ بن حَمَّادٍ: حدَّثنا العَبَّاس بن عبد الله: حَدَّثنا مُحَمَّد بن يوسُف عن سُفيان، عن أبي حيَّانَ، [عن إبراهيمَ بهِ، ورواهُ البُخَاريُّ في «تاريخهِ» عن أبي نُعَيمٍ، وأحْمَدُ ابن حَنْبَل في «الزُّهد» عن ابن مهديٍّ؛ كلاهما عن سُفيانَ الثَّوْريِّ، عن أبي حَيَّان] التَّيميِّ، عن إبراهيمَ التَّيميِّ بِهِ.
          الثالثُ: مطابَقَةُ هذا للتَّرجمة مِن حيثُ إنَّهُ كانَ يخافُ أنْ يكونَ مُكذَّبًا في قولِهِ: (إنَّهُ مُؤمِنٌ) لتقصيرِهِ في العَمَلِ، فيُحرَم بذلك الثَّوابَ وهو لا يَشْعُرُ.
          الرَّابِعُ: معناهُ:
          قوله: (مُكَذَّبًا) رُوِي بفتح الذالِ؛ يعني: خَشيتُ أنْ يُكذِّبَنِي مَن رأى عَملي مخالفًا لقولِي، فيَقول: لو كنتَ صادقًا؛ ما فعلتَ خلافَ ما تقولُ، وإنَّما قال ذلك؛ لأنَّهُ كانَ يعظُ النَّاسَ، ورُوِي بكسرِ الذَّالِ، وهي روايةُ الأكثرين، ومعناه: أنَّهُ لَمْ يَبلغْ غايةَ العملِ، وقد ذمَّ الله تعالى مَن أمرَ بالمعروفِ ونهى عن المُنكر وقَصَّرَ في العملِ، فقال: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}[الصف:3]، فخَشِيَ أنْ يكون مُكذِّبًا؛ أي: مُشابِهًا للمكذِّبين.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلعم ؛ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ ♂ .
          (ش) الكلامُ فيه أيضًا على وجوهٍ:
          الأوَّل: أنَّ (ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) هو عبدُ الله بن عُبيد الله، بتكبيرِ (الابن) وتَصغيرُ (الأبِ)، واسمُ أَبِي مُلَكيةَ _بِضَمِّ الميم_ زُهيرُ بن عبد الله بن جُدعانَ بنِ عَمْرو بن كعبِ بن تيم بن مُرَّةَ، القُرَشِيُّ التَّيميُّ المَكِّيُّ الأحول، كان قاضيًا لابنِ الزُّبَير ومُؤذِّنًا، اتُّفقَ على جلالَتِهِ، سَمِعَ العبادلةَ الأربعةَ وعائشةَ وأختَها أسماءَ وأمَّ سَلَمَةَ وأبا هُرَيرةَ وعُقبةَ بنَ الحارث والمِسْوَرَ بنَ مَخْرمَةَ، وأدْرَك بالسِّنِّ جَماعَةً، ولم يسمع مِنهم؛ كعَلِيِّ بن أبي طالبٍ وسَعد بن أبي وقَّاصٍ رضي / الله عنهما، ماتَ سنةَ سبعَ عشرةَ ومئةٍ، روى له الجماعَة.
          الثاني: أنَّ قَولَهُ هذا أخرجَهُ ابن أبي خَيْثَمَة في «تاريخه» موصولًا مِن غَير بَيان العَدَدِ، وأخرجَهُ مُحَمَّد بن نصرٍ المَرْوَزِيُّ في «كتاب الإيمان» له مُطوَّلًا.
          الثالثُ: في معناهُ:
          فقَولُهُ: (كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ) أي: حُصول النِّفاق في الخاتِمَةِ على نَفْسِهِ؛ إذ الخوفُ إنَّما يكونُ عن أمرٍ في الاستقبالِ، وما منهم أحدٌ يجزمُ بعدَمِ عُروض النِّفاقِ، كما هو جازمٌ في إيمانِ جِبريلَ ◙ بأنَّهُ لا يعرضه النِّفاقُ، هكذا فسَّرَهُ الكرمانيُّ، وتبعهُ بَعضُهم على هذا المَعنى، وليسَ المَعنَى هكذا، وإنَّما المعنى: أنَّهم كُلَّهم كانوا على حذرٍ وخوفٍ مِن أنْ يُخالِط إيمانَهم النِّفاقُ، ومع هذا لم يكنْ منهم أحدٌ يقول: إنَّ إيمانَه كإيمان جبريلَ ◙ ؛ لأنَّ جبريلَ معصومٌ، لا يطرأُ عليه الخوفُ مِنَ النِّفاق، بخلافِ هؤلاء، فإنَّهم غيرُ معصومينَ.
          فإنْ قُلتَ: رُوِيَ عن عَليٍّ ☺ مرفوعًا: «مِن شَهِدَ أنْ لا إله إلَّا الله وأنِّي رسولُ الله؛ كان مُؤمنًا كإيمانِ جبريلَ ◙ ».
          قُلتُ: ذكرَهُ أبو سَعيدٍ النَّقاشُ في «الموضوعات»، وقال ابن بَطَّالٍ: لَمَّا طالَتْ أعمارُهم حتَّى رأَوا ما لم يَقدروا على إنكارِهِ؛ خَشِيُوا على أَنْفُسهم أنْ يكونوا في حيِّزِ مَن نافَقَ أو داهَنَ، ويُقال عن عائِشَةَ ♦: إنَّها سألَتِ النَّبِيَّ صلعم عن قولِهِ تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}[المؤمنون:60] فقالَ: هم الذينَ يصلُّون ويصومونَ، ويتصدَّقون ويَفْرُقونَ ألَّا يتقبَّل منهم، وقال بعضُ السَّلَفِ في قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}[الزمر:47]: أعمالٌ كانوا يحتسبونَها حسناتٍ بدَلَ سيئاتٍ، وقال الكرمانِيُّ: ويحْتَمِل أنْ يكونَ قولُه: «وما مِنْهم» إشارَةً إلى مسألةٍ زائِدَةٍ استفادَها مِن أحوالِهم أيضًا؛ وهي أنَّهم كانوا قائلينَ بزيادَة الإيمان ونقصانِهِ.
          قلتُ: لا يُفْهَم ذلك مِن حالِهم، وإنَّما الذي يُفهَم مِن حالِهم أنَّهم كانوا خائِفينَ سُوءَ الخاتِمَةِ؛ لعَدَمِ العِصْمَةِ، ويؤيّدُ ذلك ما رُوِيَ عن عائشةَ وبعضِ السَّلَفِ.
          (ص) وَيُذْكَرُ عَنِ الحَسَنِ: مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ.
          (ش) (الحَسَنُ) هو البصريُّ ☼ ؛ أي: ما خاف اللهَ تعالى إلَّا مؤمنٌ، ولا أمِنَ اللهَ إلَّا مُنافِقٌ، وكلُّ واحدٍ مِن (خافَ) و(أَمِنَ) يَتعدَّى بِنَفْسِهِ، قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ}[آل عمران:175]، وقالَ الجَوْهَريُّ: أمنتُهُ على كذا وائتَمنْتُه بمعنًى، وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن:46]، وقال: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلَّا القَوْمُ الخَاسِرُونَ}[الأعراف:99]، وقال الكرمانِيُّ: «ما خافَهُ»؛ أي: ما خافَ مِنَ الله تعالى، فحَذَفَ الجَارَّ، وأوصلَ الفِعلَ إليه، وكذا في «أَمِنَهُ»؛ إذ معناه: أَمِنَ مِنهُ، و«أَمِنَهُ» بفتحِ الهمزَةِ وكسر الميمِ.
          قلتُ: إذا كانَ الفعلُ مُتعدِّيًا بِنَفْسِهِ؛ فلا يحتاج إلى تقديرِ حرفٍ يُوصَل به الفعلُ إلَّا في موضعٍ يَحتاج فيه إلى تضمينِ معنى فعلٍ بمعنى فعلٍ آخرَ، وههنا ليسَ كذلك، وقال بَعضُهم عَقِيبَ كلام الكرمانيِّ بعد نقله: هذا كلامٌ وإنْ كانَ صحيحًا، لكنَّهُ خِلافُ مرادِ المصنِّفِ ومَن نقلَ عنه.
          وأَثَر الحَسَن هذا أخرجه الفِريابيُّ عن قُتَيبَةَ: حدَّثنا جعفرُ بن سليمانَ عن المُعلَّى بنِ زياد: سَمِعْتُ الحسنَ يحلفُ في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلَّا هو؛ ما مَضَى مؤمنٌ قَطُّ ولا بَقِيَ إلَّا وهو من النِّفاقِ مُشفِقٌ، ولا مضى منافقٌ قَطُّ ولا بقي إلَّا وهوَ مِنَ النِّفاقِ آمِنٌ، وكان يقولُ: مَن لم يَخَفِ النِّفاقَ؛ فهو منافقٌ، قال: وحدَّثنا أبو قُدامَةَ عُبيد الله بن سَعيدٍ: حَدَّثنا مُؤمَّلُ بن إسماعيلَ عن حَمَّاد بن زَيد، عن أيُّوبَ، عن الحَسَنِ: والله ما أَصْبَحَ ولا أَمْسَى مؤمِنٌ إلَّا وهو يَخافُ النِّفاقَ على نَفسِهِ، وحدَّثنا عبدُ الأعلى بن حَمَّاد: حَدَّثنا حَمَّادُ بن سَلَمَةَ عن حَبيب بن الشَّهيدِ: أنَّ الحَسَنَ كانَ يقول: إنَّ القومَ لَمَّا رأَوا هذا النِّفاقَ يغولُ الإنسانَ لم يكن لَهُم هَمٌّ غيرُ النِّفاقِ، وحدَّثنا هشامُ بن عمَّار: حدَّثنا أسدُ بن موسى [عن أبي الأشهبِ عن الحَسَنِ لَمَّا ذكرَ أنَّ النِّفاقَ يَغولُ الإيمان: لم يَكُن شَيءٌ أخوفَ عندهم منه، وحدَّثنا هشامٌ: حدَّثنا أسدُ بن موسى]: حدَّثنا مُحَمَّد بن سُليمان قال: سألَ أبَانُ الحَسَنَ، فقال: تخافُ النِّفاقَ؟ قال: وما يُؤمنِنَي وقد خافَهُ عمر بن الخطَّاب ☺ ؟! وحدَّثنا شَيبان قال: حَدَّثنا ابن الأشْهَبِ عن طَريفٍ قال: قلتُ للحَسَن ☺ : إنَّ ناسًا يزعمونَ / أنْ لا نِفاقَ، أو لا يخافونَ _شَكَّ أبو الأشْهَب_ فقال: والله لَأنْ أكونَ أعلمُ أنِّي بَريءٌ مِنَ النِّفاقِ أحبُّ إِلَيَّ مِن طلاع الأرضِ ذَهبًا، وقال أحْمَد ابن حَنْبَل في (كتاب الإيمانِ) : حدَّثنا رَوحُ بن عبادَةَ: حدَّثنا هشامٌ: سمعت الحسنَ يقول: والله ما مَضى مؤمنٌ ولا بَقِيَ إلَّا وهو يَخافُ النِّفاق، وما أَمِنَهُ إلَّا منافقُ.
          فإنْ قُلتَ: هذهِ الآثار الثلاثَةُ صَحيحَةٌ عند البُخَاريِّ، فَلِم ذكرَ الأوَّلَين بلفظ (قالَ) التي هي صِيَغَة الجَزمِ بالصحَّةِ، وذَكَرَ الثالثَ بلفظة (يُذْكَر) على صيغةِ المجهولِ التي هي صِيغَةُ التمريضِ؟
          قلتُ: لمَّا نقلَ الأثرين الأوَّلين بمثلِ ما نقل عن إبراهيمَ التَّيميِّ وابن أَبِي مُليكَةَ مِن غير تغييرٍ؛ ذكرهما بصيغَةِ الجزْمِ بالصحَّةِ، ونقل أثرَ الحسن بالمعنى على وجهِ الاختصارِ، فلذلك ذكرَهُ بصيغَةِ التَّمريضِ، وصيغة التمريضِ لا تختصُّ عنده بضعفِ الإسنادِ وحدَه، بل إذا وقعَ التغيير من حيث النَّقلُ بالمعنى، أو من حيث الاختصارُ يَذْكُره بصيغَةِ التمريضِ، وهذا هو التحقيقُ في مثلِ هذا الموضعِ، وليسَ مثل ما ذكره الكرمانيُّ بقولِهِ: قلتُ: ليُشعِرَ بأنَّ قولَهما ثابتٌ عندَهُ صحيحُ الإسنادِ؛ لأنَّ «قالَ» هو صَيغة الجَزم، وصَريحُ الحُكم بأنَّهُ صَدر منهُ، ومثله يسمَّى تعليقًا بصيغة التصحيحِ، بخلاف «يذكر»؛ فإنَّهُ لا جَزَمَ فيه، فيُعلَم أنَّ فيه ضَعْفًا، ومثلَهُ تعليقٌ بصيغَةِ التمريضِ.
          (ص) وَمَا يُحَذَّرُ مِنَ الإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
          (ش) هذا عطفٌ على قولِهِ: (خَوف المؤمِنِ)، والتقديرُ: بابُ خوفِ المؤمِنِ أنْ يحبَط عملُهُ، وخوفِ التحذيرِ مِنَ الإصرارِ على النِّفاقِ، وكلمةُ (ما) مصدريّةٌ، و(يُحَذَّرُ) على صِيغَةِ المجهولِ بتخفيفِ الذالِ وتشديدها، والجملَةُ مَحلُّها مِنَ الإعرابِ الجرُّ؛ لأنَّها عطفٌ على المجرورِ، كما قُلْنا، وآثارُ إبراهيمَ التَّيميِّ وابنُ أبي مُلَيْكَةَ والحسنِ البصريِّ مُعترضَةٌ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه.
          فإنْ قُلتَ: فَلِمَ أوقعَها معترضَةً؟ قلتُ: لأنَّهُ عَقَد البابَ على ترجمتين؛ الأولى: الخوفُ مِن حبطِ العَمَلِ، والثانية: الحَذر من الإصرارِ على النِّفاقِ، وذكر فيه ثلاثةً مِنَ الآثارِ، وآيةً مِنَ القُرآنِ، وحَديثين مُرْفُوعَين، ولَمَّا كانَتِ الآثارُ الثلاثَةُ متعلِّقَةً بالترجَمَةِ الأولى؛ ذَكَرها عَقِيبَها، والآيةُ وأَحَدُ الحديثينِ _وهو حَديث عبد الله_ متعلِّقانِ بالتَّرجَمَةِ الثانِيَة؛ ذَكَرَهُما عَقِيبَها، وأمَّا الحديثُ الآخر _وهو حديثُ عُبادَةَ_ فإنَّهُ يتعلَّقُ بالترجمة الأولى أيضًا، على ما نَذْكُرُه، وهذا فيه صِيغة اللَّفِّ والنَّشرِ غيرَ مرتَّب، والترجُمَةُ الثانِية في الردِّ على المرجِئَةِ؛ لأنَّهم قالوا: لا حَذَرَ من المعاصِي مع حُصول الإيمانِ.
          وذكر البُخَاريُّ الآيةَ رَدًّا عليهم؛ لأنَّها في مَدح مَنِ استغفرَ لذنبهِ، ولم يصرَّ عليه، فمَفهومه ذمُّ مَن لم يَفعلْ ذلك، وكأنَّهُ لَمَحَ في ذلك حديثَ عبد الله بن عَمْرٍو مَرفوعًا، أخرجه أحمد في «مُسنَدِهِ» بإسنادٍ حَسَنٍ، قال: «ويلٌ للمُصرِّينَ الذين يَصرُّون على ما فعلوا وهم يعلمونَ»؛ أي: يعلمونَ أنَّ مَن تابَ؛ تابَ اللهُ عليه، ثُمَّ لا يَسْتَغْفِرون، قالَهُ مُجاهدٌ وغيرُهُ، وحديث أبي بكر الصَّديقِ ☺ مَرْفُوعًا، أخرجَهُ التِّرْمِذيُّ بإسنادٍ حَسَنٍ: «ما أصرَّ مَنِ استغفَرَ وإنْ عادَ في اليَوم سَبعينَ مَرَّةً»، والآية المذكورةُ في (سورة آل عِمران) ؛ وهي {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران:135]، يُفهم مِنَ الآيةِ: أنَّهم إذا لم يَسْتَغفروا _أي: لم يَتُوبوا_ وأصرُّوا على ذنوبهم؛ يكونُ محلَّ الحَذَرِ والخوفِ، وقال الواحديُّ: قال ابنُ عَبَّاس ☻ في رواية عطاءٍ: نزلَتْ هذه الآية في نَبهانَ التَّمَّار، أتتْهُ امرأةٌ حسناءُ تبتاع منه تَمرًا، فضَمَّها إلى نَفْسِهِ وقبَّلها، ثُمَّ نَدِم على ذَلِك، فأتَى النَّبِيَّ صلعم ، وذكرَ له ذلك؛ فنزلَتْ هذه الآية.
          وفي رواية الكَلْبيِّ: أنَّ رَجُلينِ أنصاريًّا وثقفيًّا آخى رسولُ الله صلعم بينهما، فكانا لا يَفترقان، قال: فخَرَجَ رسول الله صلعم في بعضِ مغازيهِ، وخرَجَ معه / الثَّقَفيُّ، وخَلَّف الأنصاريَّ في أهلِهِ وحاجَتِهِ، وكانَ يتعاهد أهلَ الثَّقَفيِّ، فأقبلَ ذاتَ يومٍ، فأبْصَرَ امرأتَهُ ضاحيةً قد اغْتَسَلَتْ، وهي ناشرةٌ شَعرَها، فوقعت في نَفْسِهِ، فدخلَ ولم يستأذِنْ حتَّى انتهى إليها، فذهبَ ليلثِمَها، فوضعت كفَّها على وجهها، فقبَّلَ ظاهرَ كَفِّها، ثُم نَدِمَ واستحيا، وأَدْبَر راجعًا، فقالت: سُبحان الله! خُنْتَ أمانَتَكَ، وعصيتَ رَبَّكَ، ولم تُصِبْ حاجَتَكَ، قال: فَنَدِمَ على صُنْعِهِ، فخَرَجَ يسيحُ في الجبالِ، ويتوبُ إلى الله تعالى من ذنْبِهِ، حتَّى وافَى الثَّقَفيُّ، فأخبرتهُ امرأته بِفِعْلِهِ، فخَرجَ يطلبُهُ حتَّى دُلَّ عليه، فوافقه ساجدًا لله ╡ وهو يقولُ: ربِّ؛ ذَنْبِي ذنبي، قد خُنْتُ أَخِي، فقال له: يا فلانُ؛ قُمْ فانطلق إلى رسولِ الله صلعم ، فاسألْهُ عن ذنبِكَ، لعلَّ اللهَ ╡ أنْ يَجعلَ لك فرجًا وتوبَةً، فأقْبَل معه حتَّى رَجَعَ إلى المدينَةِ، وكانَ ذاتَ يومٍ عند صلاة العصرِ نزل جبريلُ ◙ بِتَوبَتِهِ، فتلاها على رسولِ الله صلعم : {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً}[آل عمران:135] إلى قوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ}[آل عمران:136] فقالَ عليٌّ ☺ : يا رسولَ الله؛ أخاصٌّ هذا لهذا الرجل أم للنَّاس عامَّةً؟ قال: بل للنَّاس عامَّةً في التَّوبة، قال: الحمدُ لله ربِّ العالمين.