عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب من قال: إن الإيمان هو العمل
  
              

          ░18▒ (ص) بابُ مَنْ قالَ: إنَّ الإيمانَ هُوَ العَمَلُ؛ لقَوْلِ اللهِ تَعالَى: {وَتِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الزخرف:72].
          (ش) الكلامُ فيه على أنواعٍ:
          الأوَّل: أنَّ لفظَة (باب) مُضافٌ إلى ما بعدَهُ، ولا يجوزُ غَيرُهُ قَطعًا، وارتفاعه على أنَّهُ خَبَرُ مُبتدأٍ محذوفٍ؛ أي: هذا بابُ مَن قالَ... إلخ، وأصلُ الكلام: هذا بابٌ في بيانِ قَولِ مَن قال: [إنَّ الإيمانَ هُو العَمَلُ.
          الثاني: وَجهُ المناسَبَةِ بينَ البابَين من حيثُ إنَّهُ عَقَدَ الباب الأوَّل؛ للتنبيهِ على]
أنَّ الأعمالَ من الإيمانِ؛ ردًّا على المُرْجِئَةِ، وهذا البابُ أيضًا معقودٌ لبيانِ أنَّ الإيمانَ هو العَمل؛ ردًَّا علَيْهِم، وقال الشيخ قُطب الدين في «شَرْحِهِ» في هذا الباب: إنَّما أرادَ البُخاريُّ الرَدَّ على المُرْجِئَةِ في قولهم: إنَّ الإيمانَ قَولٌ بلا عَملٍ، وقالَ: قال القاضي عياضٌ عن غُلاتِهم: إنَّهم يقولونَ: إنَّ مُظهِرَ الشهادَتين يدخلُ الجَنَّةَ وإنْ لَمْ يَعتقِدْهُ بِقَلْبِهِ.
          الثالثُ: وجهُ مُطابَقَة الآيةِ للتَّرجَمَةِ: هو أنَّ الإيمانَ لمَّا كان هو السَّببَ لدخولِ العَبْدِ الجَنَّةَ، والله ╡ أخْبَرَ بأنَّ الجَنَّةَ هِيَ التي أُورِثُوها بأعمالِهم؛ حيثُ قال: {بِما كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}؛ دلَّ ذلكَ على أنَّ الإيمانَ هو العَمَل، [وفي الآيةِ الأُخْرى أَطلق على قَولِ: (لا إله إلا الله) بالعَمل، فدَلَّ على أنَّ الإيمانَ هُو العَمَل]، فعلى هذا معنى قولِهِ: {بِما كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الزخرف:72]: بما كُنْتُم تؤمنونَ، على ما زَعَمَهُ البُخاريُّ، وعلى ما نُقِلَ عن جماعةٍ من المفسِّرين، ولكنَّ اللَّفْظَ عامٌّ، ودعوى التخصيصِ بلا برهانٍ لا تُقْبَل؛ ولهذا قال النَّوويُّ: هو تخصيصٌ بلا دليلٍ.
          وههنا مناقَشَةٌ أُخْرى؛ وهي أنَّ إطلاقَ العَمَلِ على الإيمانِ صَحيحٌ من حيثُ إنَّ الإيمانَ هو عَمَلُ القَلْبِ، ولكن لا يَلْزَمُ من [ذلك أنْ يكونَ العَمَلُ من نفسِ الإيمانِ؛ وقَصْدُ البُخاريِّ من هذا البابِ وغيرِهِ إثباتُهُ أنَّ العَملَ من] أجزاءِ الإيمانِ؛ ردًّا على مَن يقول: إنَّ العمَلَ لا دَخْلَ له في ماهيَّةِ الإيمانِ، فحينئذٍ لا يَتُمُّ مَقصدُهُ، على ما لا يَخْفَى، وإنْ كانَ مُرادُهُ جوازَ إطلاق العَمَل على الإيمانِ؛ فهذا لا نِزاعَ فيه لأحَدٍ؛ لأنَّ الإيمانَ عَملُ القلبِ؛ وهو التَّصديقُ.
          الرابعُ: قوله: ({وتَلِكَ}) إشارَةٌ إلى الجَنَّةِ المذكورةِ في قولِهِ: {ادْخُلُوا الجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ}[الزخرف:70]، وهِيَ مُبتدأٌ، و{الجنَّةُ} خَبرُهُ، وقولُهُ: {الَّتِي أُورِثْتُمُوها} صِفَةُ {الجَنَّةُ}، وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: أو {الجَنَّةُ} صِفَةٌ للمبتدأِ الذي هو اسمُ الإشارةِ، و{الَّتِي أُورِثْتُمُوها} خَبَرُ المبتدأِ، أو {الَّتِي أُورِثْتُمُوها} صِفَةٌ، و{بِما كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} الخَبَرُ، والباءُ تتعلَّقُ بمحذوفٍ؛ كما في الظُّروفِ التي تَقَعُ أخبارًا، / وفي الوجهِ الأوَّل تتعلَّقُ بـ{أورثتموها}، وقُرِئ: ▬وَرِثْتُمُوها↨.
          فإنْ قُلتَ: الإيراثُ: إبقاءُ المالِ بعدَ الموتِ لِمَنْ يَستحقُّهُ، وحقيقته مُمْتنعَةٌ على الحال، فما مَعنى الإيراثِ هنا؟
          قلتُ: هَذا مِن بابِ التَّشبيهِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شُبِّهَتْ في بقائِها على أهلِها بالميراثِ الباقي على الوَرَثَةِ، ويُقال: المُورِثُ هنا الكافِرُ، وكانَ له نصيبٌ منها، ولكنَّ كُفْرَهُ منعَهُ، فانْتُقِل منهُ إلى المؤمن، وهذا هو مَعْنَى الإيراثِ، ويُقال: المُورِثُ هو اللهُ ╡ ، ولكنَّهُ مَجازٌ عن الإعطاءِ، على سَبيل التَّشبيهِ لهذا الإعطاءِ بالإيراثِ.
          [فإنْ قُلتَ: كَلِمَةُ (ما) فِي قولِهِ: {بِما كُنتُمْ} ما هِيَ؟ قلتُ: يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريَّةً، فالمعنى: بكونِكُم عامِلينَ، ويجوزُ أنْ تكونَ مَوصولَةً، فالمعنى: بالَّذِي كُنْتُم تعملونه].
          فإنْ قلتَ: كيفَ الجمعُ بين هذه الآية وقولِهِ صلعم : «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمُ الجَنَّةِ بِعَمَلِهِ»؟
          قلتُ: الباءُ في قولِهِ: {بِما كُنْتُمْ} لَيْسَتْ للسببيَّةِ، بَل للملابَسَةِ؛ أي: أُوْرِثْتُموها ملابسَةً لأعمالِكم؛ أي: لثوابِ أعمالِكُم، أو للمقابَلَةِ؛ نحو: (أعطيتُ الشاةَ بالدِّرْهَم)، وقال الشيخ جمال الدين: والمَعْنَى الثامِن للباءِ: المقابلةُ؛ وهي الداخلَةُ على الأعواضِ؛ كـ«اشتريتُهُ بألفِ دِرْهَم»، وقولهم: «هذا بذاكَ»، ومنهُ قولُهُ ╡ : {ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِما كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، وإنَّما لَمْ نُقدِّرها باءَ السببيَّةِ كما قالَتِ المعتزلَةُ، وكما قالَ الجميعُ في: «لَنْ يَدخُلَ أَحدُكُم الجَنَّةَ بعمَلِهِ»؛ لأنَّ المُعْطَى بعوضٍ قد يُعطَى مجَّانًا، وأمَّا المسبَّبُ؛ فلا يوجَدُ بدون السَّبَبِ، وقد تَبيَّنَ أنَّهُ لا تَعارُضَ بينَ الحديثِ والآيةِ؛ لاختلافِ مَحلَّي الباءَين؛ جَمعًا بين الأدلَّة.
          وقال الكَرْمانِيُّ: أَو أنَّ الجَنَّةَ في {تلك الجَنَّة} جنَّةٌ خاصَّةٌ؛ أي: تلكَ الخاصَّةُ الرَّفيعةُ العاليَةُ بسببِ الأعمالِ، وأمَّا أصلُ الدخولِ؛ فبِرَحْمَةِ الله ╡ .
          قلتُ: أُشِيرَ بهذه الجنَّةِ إلى الجنَّةِ المذكورَةِ فيما قَبْلَها، وهِيَ الجنَّةَ المعهودَةُ، والإشارةُ تَمْنَعُ ما ذَكَرَهُ.
          وقال النَّوويُّ في الجوابِ: إنَّ دخولَ الجنَّةِ بسبب العمل، والعمل برحمة الله تعالى.
          قلتُ: المقدِّمَةُ الأُولى مَمنوعَةٌ؛ لأنَّها تخالفُ صَريحَ الحديثِ، فلا يُلْتَفَتُ إليها.
          (ص) وقال عِدَّةٌ مِنْ أهْلِ العِلْمِ فِي قَوْله تَعالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ}[الحجر:92]: عَنْ قولِ: لا إلَهَ إلَّا اللهُ.