مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب قول الله تعالى {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأً}

          ░11▒ باب قول الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا} [النساء:92]
          هذه الآية أصل في الديات فذكر فيها ديتين وثلاث كفارات، ذكر الدية والكفارة بقتل المؤمن في دار الإسلام، وذكر الكفارة دون الدية بقتل المؤمن في دار الحرب في صف المشركين إذا حضر معهم الصف فقتله مسلم، فقال: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء:92] وإن كان كناية عن المؤمن السالف.
          قوله: {مِن قَوْمٍ} معناه عند الشافعي: في قوم فعبر بـ(من) عن (في) إبدالا لحروف الجر بعضها من بعض، ثم ذكر الدية والكفارة بقتل الذمي في دار الإسلام فقال: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} فدلت الآية على ما قلناه، ففي الخطأ الدية بإجماع.
          قوله: {إِلاَّ خَطَئًا} ظاهره ليس مراداً، فإنه لا يسوغ له قتله خطأ ولا عمداً، لكن تقديره: إن قتله خطأه، ولا يصح أن يكون (إلا) بمعنى الواو؛ لأنه لا يعرف (إلا) بمعنى حرف العطف؛ ولأن الخطأ لا يحذر؛ لأنه ليس بشيء يقصد.
          وحكى سيبويه أن (إلا) تأتي بمعنى (لكن) كثيراً.
          وقال الأصمعي وأبو عبيد: المعنى إلا أن يقتله مخطئاً، وكذا قال الزجاج: أن معنى أن يقتل مؤمناً البتة إلا خطأ، وهو استثناء منقطع.
          ومعنى: {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} أي: إلا أن يتصدق أهل القتيل على من لزمته دية القتيل فيعفو عنه ويتجاوز عن ديته فتسقط عنه.
          قال مجاهد وعكرمة: وهذه الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي، قتل رجلاً مسلماً ولم يعلم بإسلامه، وكان ذلك يعذبه بمكة مع أبي جهل، ثم أسلم وخرج مهاجراً إلى رسول الله فلقيه عياش في الطريق فقتله وهو يحسبه كافراً، ثم جاء إلى رسول الله فأخبره بذلك / فأمره أن يعتق رقبة ونزلت الآية، حكاه الطبري عنهما.
          وقال السدي: قتله يوم الفتح وقد خرج من مكة، ولا يعلم بإسلامه، وقيل: نزلت في أبي عامر والد أبي الدرداء، خرج إلى سرية فعدل إلى شعب فوجد رجلاً في غنم فقتله، وأخذها وكان يقول: لا إله إلا الله، فوجد في نفسه من ذلك فذكره لرسول الله فأنكر عليه قتله إذ قال: لا إله إلا الله، فنزلت.
          وقيل: نزلت في والد حذيفة بن اليمان، قتل خطأ يوم أحد كما سلف.
          قوله: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ} فإن كان هذا القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم ناصبوكم الحرب على الإسلام فقتله مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ولا دية تؤدى إلى قومه؛ لئلا يتقووا بها عليكم {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} أي: عهد وذمة وليسوا أهل حرب لكم {فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} يعني: على عاقلته وتحرير رقبة مؤمنة كفارة قتله.
          ثم اختلف في صفة هذا القتيل الذي هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق، هل هو مؤمن أو كافر؟ على قولين:
          أحدهما: أنه كافر لا أنه لزمت قاتليه ديته؛ لأن له ولقومه عهداً فوجب أداء ديته إلى قومه للعهد الذي بينهم وبين المؤمنين، وأنها مال من أموالهم فلا يحل للمؤمنين أموالهم بغير طيب أنفسهم، قاله ابن عباس والنخعي والزهري، قالوا: ودية الذمي كدية المسلم.
          ثانيهما: أنه مؤمن، قاله النخعي وجابر بن زيد والحسن البصري.
          ومذهب مالك أن المسلم إذا قتل في دار الحرب خطأ أن فيه الدية، وإن قتل عمداً قتل به قاتله، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا قود فيه.
          والمعنى في إيجاب الكفارة في {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} لأجل إيمانه، والدية دفعت من أجل الميثاق والميراث للمسلمين.
          والحاصل ثلاثة أقوال: الدية مطلقاً سواء قتل ببلاد الحرب أو ببلاد الإسلام لا مطلقاً التفضيل بينهما.
          قوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} يعني: عن الرقبة خاصة، قاله مجاهد، وقال مسروق: عن الرقبة والدية، والأول أولى، كما قال الطبري؛ لأن دية الخطأ على عاقلة القاتل، والكفارة على القاتل بالإجماع، فلا يقضي صوم صائم عما لزم الآخر في ماله.
          قوله: {تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ} يعني: رحمة من الله لكم إلى الستر عليكم بتخفيفـ[ـه] عنكم بتحرير الرقبة المؤمنة إذا أيسرتم بها {وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا} أي: لم يلزم(1) عليما بماً يصلح عباده فيما يكلفهم من فرائضه، حكيماً بما يقضي فيه ويأمر.


[1] في هامش المخطوط: في (ط): لم يزل.