مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص}

          ░3▒ باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178]
          قال قتادة: كان أهل الجاهلية.. إلى آخره، فيهم بغي وطاعة للشيطان فكان الحي إذا كان فيهم عزة ومنعة فقتل لهم عبد قتله عبد قوم آخرين قالوا: لا نقبل به إلا حرًّا، وإذا كان فيهم امرأة قتلتها امرأة قالوا لا نقتل بها إلا رجلاً فنهاهم الله عن البغي وأخبر أن الحر بالحر.
          وعن ابن عباس: كانوا / لا يقتلون الرجل بالمرأة ولكن الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، فأنزل الله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] فجعل تعالى الأحرار في القصاص سواء في النفس وما دونها، وجعل العبيد متساوين فيما بينهم في العمد في النفس وفيما دونها، رجالهم ونساءهم.
          قال أبو عبيد: فذهب ابن عباس فيما يرى إلى أن هذه الآية التي في المائدة: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ليست بناسخة للتي في البقرة: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ولا هي خلافها، ولكنهما جميعاً محكمتان، إلا أنه رأى أن آية المائدة مفسرة للتي في البقرة، وتأول قوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إنما هو على أن نفس الأحرار متساوية فيما بينهم دون العبيد ذكوراً كانوا أو إناثاً، وأن أنفس المماليك متساوية بينهم، وأنه لا قصاص للمماليك على الأحرار.
          وذهب أهل العراق إلى أن قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} نسخت {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وقالوا: [ليس] بين الأحرار والعبيد قصاص في النفس خاصة، ولا يرون فيما دون ذلك بينهم قصاصاً، واضطرب قولهم؛ لأن التنزيل إنما هو على نسق واحد، فأخذوا بأول الآية.
          وذكر عن الشعبي {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} نزلت في جنس من قبائل العرب كان بينهم قتال، كان لأحدهما فضل على الآخر، فقالوا: نقتل بالعبد منا الحر منكم، وبالمرأة الرجل. فنزلت، ثم أنزلت بعد في المائدة: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} فبهذا يحتجون، قالوا: وليس في قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} نفي لغيره.
          وقال إسماعيل بن إسحاق: قد قال قوم: يقتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي، هذا قول الثوري والكوفيين، قال أبو حنيفة: يقاد المسلم بالذمي في العمد وعليه في قتله خطأ الدية والكفارة، ولا يقتل بالمعاهد وإن تعمد قتله.
          وقال مالك والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لا يقتل حر بعبد، هذا مذهب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت.
          وفي الدارقطني من حديث جويبر عن الضحاك، عن ابن عباس يرفعه: ((لا يقتل حر بعبد)) ومن حديث جابر عن ابن عباس قال علي: من السنة أن لا يقتل مسلم بكافر، ولا حر بعبد.
          قال إسماعيل: وغلط الكوفيون في التأويل؛ لأن معنى الآية إنما هي النفس المكافئة للأخرى في حرمتها وحدودها؛ لأن القتل حد من الحدود، ولو قذف حر عبداً لما كان عليه حد القذف، وكذا الذمي، والحدود في الحر يقتل باليهودي والنصراني، وروي عن الشعبي مثله، وهو قول ابن أبي ليلى وعثمان البتي والحسن بن حي.
          وروى ابن أبي شيبة، عن أبي أسامة، عن هشام قال: قرأت كتاب عمر بن عبد العزيز: أن دية اليهودي والنصراني على الثلث من دية المسلم.
          واحتجوا على الشافعي بقولهم: إن قتل ذمي ذميًّا ثم أسلم فإنه يقتل به عندكم، ولا فرق بين قتلكم مسلماً بكافر وبين قتلكم كافراً بمسلم(1).
          ونقل ابن عبد البر قول أبي حنيفة عن جماعة من الصحابة والتابعين.
          وفي حديث أخرجه البزار في ((مسنده)) من حديث أبي بكرة: ((من قتل نفساً معاهدة لم يرح رائحة الجنة))، وفي لفظ: ((من قتل معاهداً بغير حقه حرم الله عليه الجنة، وأن يشم ريحها)).
          قال المهلب: وفيه دلالة أن المسلم لا يقتل بالذمي؛ لأن الشارع إنما رتب الوعيد للمسلم وعظم الإثم فيه في الآخرة، ولم يذكر فيهما قصاصاً في الدنيا.
          وروى في ((السنن)) الدارقطني حديث مالك بن محمد بن عبد الرحمن، عن عمرة، عن عائشة قالت: وجد في قائم سيف رسول الله: ((المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين)).
          وأما احتجاجهم إذا قتل ذمي ذميًّا ثم أسلم القاتل فالقود عليه باق فقد أخطأ هذا القائل، بل قد سقط عنه القود والقصاص؛ لأنه قتل مؤمن بكافر، وقد حرم الله على لسان رسوله ذلك.
          واعلم أن (خ) ترجم بعد: باب لا يقتل مسلم بكافر، وذكر هناك / حديث علي، وكان من حقنا أن نذكره هناك؛ لكنا تعجلناه استباقاً للخيرات.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: الفرق ظاهر وذلك أن تغير حالة القتل والكفاءة حينئذ حاصلة، بخلاف حالة المسلم والذمي، فإنهما مختلفتان فلا تكافأ بينهما، وهذا ظاهر ولكن الإسلام يجب ما قبله فلا يقتل المسلم الكافر)).