مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب الاعتراف بالزنا

          ░30▒ باب الاعتراف بالزنا
          فيه حديث علي بن عبد الله.. إلى آخره في قصة العسيف.
          ثم ساق حديث ابن عباس قال: قال عمر: لقد خشيت أن يطول بالناس زمان.. الحديث.
          فيه أحكام:
          1- الترافع إلى السلطان الأعلى فيما قضى فيه غيره ممن هو دونه إذا لم يوافق الحق.
          2- فسخ كل صلح، ورد كل حكم وقع على خلاف السنة.
          3- أن ما قبضه الذي قضى له بالباطل لا يصلح له ملكه.
          4- أن العالم قد يفتي في مصرٍ فيه من هو أعلم منه، ألا ترى أنه سأل والشارع بين أظهرهم، وكذلك كان الصحابة يفتون في زمنه.
          5- في سؤاله أهل العلم، ورجوعه إلى الشارع دليل على أنه يجوز للرجل أن لا يقتصر على قول واحد من العلماء.
          6- جواز قول الخصم للإمام العدل: اقض بيننا بالحق. حيث قال: اقض بيننا بكتاب الله. وقد علم أنه لا يقضي إلا بما أمره الله، ولم ينكر ذلك عليه، وقال الملكان لداود ◙: {فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [ص:22] وذلك إذا لم يرد السائل التعريض.
          قوله: (وكان أفقههما) يعني: والله أعلم لاستئذانه ◙ في الكلام وترك صاحبيه لذلك تأكيداً.
          واختلف العلماء في تأويل ذلك، فقال بعضهم: الرجم الرجم في قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} الآية [النور:8]، فالعذاب الذي تدرؤه الزوجة عن نفسها باللعان هو الذي يجب عليها بالبينة أو بالإقرار أو بالنكول عن اللعان، وقد بين الشارع آية الرجم في الثيب برجم ماعز وغيره.
          وقال آخرون: الرجم مما نسخ من القرآن خطه وثبت حكمه.
          وقال آخرون: معنى قوله: ((لأقضين بينكما بكتاب الله)) أي: بحكم الله وبفرضه، وهذا سائغ في اللغة، قال تعالى: {كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء:24] أي: حكمه فيكم وقضاؤه عليكم، ومنه قوله تعالى: {أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [الطور:41] أي: يقضون، وكذلك قوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] وكل ما قضى به الشارع فهو حكم الله.
          وفيه: أنه ◙ لم يجعلهما قاذفين حين أخبراه، وليس في الحديث أنه سأل ابن الرجل هل زنى وهل صدقا عليه أم لا؟ ولكن من مفهوم الحديث أنه أقر؛ لأنه لا يجوز أن يقام الحد إلا بالإقرار أو بالبينة، ولم يكن عليهما بينة لقوله: ((فإن / اعترفت فارجمها)).
          وفيه: النفي والتغريب للبكر الزاني، خلافاً لأبي حنيفة في إسقاط النفي عنه، وسيأتي أقوالهم فيه في موضعه.
          وفيه: رجم الثيب بلا جلد على ما ذهب إليه أئمة الفتوى في الأمصار، وسلف.
          وفيه: استماع الحاكم بينة أحد الخصمين وصاحبه غائب، وفتياه له دون خصمه، ألا ترى أنه ◙ قد أفتاهما والمرأة غائبة وكانت إحدى الخصمين.
          وفيه: تأخير الحدود عند ضيق الوقت؛ لأنه ◙ أمره بالغدو إلى المرأة، فإن اعترفت رجمها، ويحتمل أنه كان غدوه بلا تأخير.
          وفيه: إرسال الواحد في تنفيذ الحكم.
          وفيه: إقامة الحد على من أقر على نفسه مرة واحدة؛ لأنه ◙ لم يقل لأنيس فإن اعترفت أربعاً. وسلف قريباً ما فيه.
          وفيه: دليل على صحة قول مالك وجمهور الفقهاء أن الإمام لا يقوم بحد من قذف بين يديه حتى يطلب المقذوف؛ لأن له أن يعفو عن قاذفه أو يريد ستراً.
          ألا ترى أنه قال بين يدي رسول الله: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته فقذفها، فلم يقم عليه الحد؛ لأنها لما اعترفت بالزنا سقط حكم قذفها.
          ومثله حديث العجلاني حين رمى امرأته برجل فلاعن بينه وبين امرأته؛ لأنه لم يطلبه بحده، ولو طلبه به حد، إلا أن يقيم البينة على ما قال، والمخالف في هذه المسألة ابن أبي ليلى، فإنه يقول: إن الإمام يحد القاذف وإن لم يطلبه المقذوف.
          أقول:
          ذكر أن [ابن] أبي ليلى حد امرأة في قذف فقال أبو حنيفة أخطأ من عشرة أوجه ذكر في مناقبه.
          أبو عبد الرحمن المؤدب قال: كانت امرأة مجنونة لها لقب وكانت إذا دعيت بذلك اللقب شتمت فدعاها رجل بذلك اللقب فقذفت أبواه وهما في الأحياء فرفعت إلى ابن أبي ليلى فأقام عليها حدين في مجلس واحد وضربها في المسجد وأقام عليها الحد وهي قائمة، بلغ ذلك أبا حنيفة فقال: أخطأ في مواضع أقام عليها حدين لأبويه وهما في الأحياء وهما الخصم وأقام حدين في مكان ولا يجمع حدان حتى يخف أحدهما وأقام حدين، والقاذف لو قذف قوماً كثيراً فعليه حد واحد وأقام عليها الحد قائمة ولا يقام على المرأة الحد قائمة وحدها وهي مجنونة ولا تحد المجنونة، وحدها والمرأة لا تحد، وضربها في المسجد ولا تقام الحدود في المساجد.
          أقول: أما الاعتراض الأول فساقط عنه لأنه مذهبه.
          واختلف فيمن أقر بالزنا بامرأة وجحدت امرأة، فقال مالك: يقام عليه حد الزنا، وإن طلبت حد القذف أقيم عليه أيضاً، وكذلك لو أقرت هي وأنكر هو.
          وقال أشهب: يحد للزنا دون القذف؛ لأنه لا يخلو أن يكون صادقاً أو كاذباً فالأول لا يحد لقذفه، وإلا حد للقذف دون الزنا، فعلى أي وجه كان يجمع عليه الحدان.
          وقال الأبهري: بل ثم قسم ثالث، وهو أن يكون مكرهاً لها على الزنا فيكون صادقاً في إقراره على نفسه كاذباً في قذفه، فيجتمع الحدان.
          وقال أبو حنيفة والأوزاعي: عليه حد القذف، ولا حد عليه للزنا.
          وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي: من أقر منهما فإنما عليه حد الزنا فقط.
          والعسيف: الأجير، كما قاله مالك.
          قال ابن عبد البر: وقد يكون العبد ويكون السائل.
          وزاد في ((المحكم)) في العسيف: الأجير المستهان به. قال: وقيل: هو المملوك المستهان، وقيل: كل خادم عسيف، والجمع عسفاء على القياس، وعسيفة على غير قياس.
          وفي ((شرح الموطأ)) لعبد الملك بن حبيب السلمي: العسيف: الغلام الذي لم يبلغ الحلم.
          قال والدي ⌂:
          (باب من أصاب ذنباً دون الحد) أي: ذنباً لا حد له نحو القبلة والغمزة.
          وفيه إشعار أن ما له حد بخلاف ذلك، وغرضه أن الصغيرة بالتوبة تسقط عنه بالتعزير وليس للإمام الاعتراض عليه بل يؤيده بخلاف الكبيرة. وقال ابن المنذر: قال الشافعي: إذا تاب قبل أن يقام عليه الحد سقط عنه.
          و(مستفتيا) في بعضها: مستعتباً من الاستعتاب، وهو طلب الرضا وطلب إزالة العتب.
          قوله: (لم يعاقبه) أي: من أصاب ذنباً لا حد عليه وتاب وقيل: يعني المحترف المجامع في نهار رمضان، و(ابن جريج) بضم الجيم الأولى عبد الملك / .
          قوله: (عمر) وذلك أن قبيصة بن جابر الأسدي كان محرماً واصطاد ظبياً فأمره عمر بالجزاء ولم يعاقبه عليه رواه البيهقي، و(أبو عثمان) هو عبد الرحمن النهدي بفتح النون وحديثه مر في مواقيت الصلاة، وهو أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأخبر النبي صلعم فنزل: {أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} الآية [هود:114].
          و(عمرو) ابن الحارث المصري، و(عبد الرحمن) ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، و(محمد بن جعفر) ابن الزبير بن العوام سمع ابن عمه عباداً بفتح المهملة وشدة الموحدة ابن عبد الله بن الزبير.
          قوله: (تصدق) فيه اختصار، إذ الكفارة مرتبة وهو بعد الإعتاق والصيام ومر مراراً.
          قوله: (عبد القدوس) ابن محمد البصري العطار لم يتقدم ذكره، و(عمر بن عاصم الكلابي) بكسر الكاف جمع: كلب، و(أصبت حدا) أي: فعلت فعلاً يوجب الحد، و(أو قال حدك) شك من الراوي وقالها بعد الصلاة لا قبلها؛ لأن الصلاة مكفرة للخطايا {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} [هود:114] وإنما ستر لأن الكشف ضرب من التجسس وهو حرام.
          قوله: (يعلى) بوزن يرضى من العلو بالمهملة ابن حكيم بفتح المهملة وبالكاف، و(عكرمة) بكسر المهملة والراء، و(ماعز) بكسر المهملة وبالزاي، و(لا يكنى) أي: صرح رسول الله صلعم بلفظ النيك لأن الحدود لا تثبت بالكنايات.
          وفيه جواز تلقين المقر في الحدود إذ لفظ الزنا يقع على نظر العين ونحوه.
          قوله: (سعيد بن عفير) مصغر بالمهملة والفاء والراء.
          فإن قلت: ما فائدة من الناس؟ قلت: بيان أنه ما كان من الأكابر والمشهورين وأما فائدة يريد نفسه فلعلها لبيان أنه لم يكن مستفتياً من جهة الغير مسنداً إلى نفسه على جهة الفرض كما هو عادة المستفتي للغير.
          و(تنحى) أي: بعد الرجل للجانب الذي أعرض عنه مقابلاً له، و(قبله) بكسر القاف؛ أي: مقابله ومعايناً له، و(من سمع) قيل: أنه أبو سلمة، و(جمز) بالجيم والزاي عدا وأسرع.
          قوله: (عبيد الله) هو ابن عبد الله بن عتبة بسكون الفوقانية، و(زيد بن خالد الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء وبالنون، و(أنشدك) بضم الشين (إلا قضيت) بلفظ الاستثناء؛ أي: ما أطلب منك إلا القضاء بحكم الله. قال سيبويه: معنى أنشدك إلا فعلت أي ما أطلب منك إلا فعلك، و(ائذن لي) أي في التكلم وهذا من جملة كلام الرجل لا الخصم، و(العسيف) بفتح المهملة الأولى الأجير.
          فإن قلت: تقدم في الصلح بدل خادم وليدة؟ قلت: الخادم يطلق على الذكر والأنثى.
          و(المائة شاة) هو على مذهب الكوفيين.
          فإن قلت: إقرار الأب عليه لا يقبل؟ قلت: هو إفتاء جواب لاستفتائه أي: إن كان ابنك زنى وهو بكر فعليه كذا.
          و(أنيس) مصغر الأنس بالنون والمهملة، وهو ابن الضحاك الأسلمي على الأصح، و(أشك فيها) أي: في سماعها من الزهري فتارة أذكرها وتارة أسكت عنها.
          وفيه فسخ كل صلح وقع على خلاف السنة، وأن الذي يؤخذ بالباطل لا يصير ملكاً.
          وفيه أن العالم يفتي في مصر فيه أعلم منه؛ لأن الصحابة أفتوا في زمنه صلعم وجواز قول الخصم للقاضي اقض بيننا بالحق واستماع الواقعة وأحد الخصمين غائب وتأخير الحدود عند ضيق الوقت؛ لأنه أمره بالغدو إلى المرأة وإرسال فرد واحد في تنفيذ الحكم وإقامة الحد على من اعترف مرة وتغريب عام خلافاً للحنفية.
          فإن قلت: حد الزنا لا يحتاط بالتجسس والاستكشاف / عنه فما وجه إرسال أنيس إلى المرأة؟ قلت: المقصود منه إعلامها بأن هذا الرجل قذفها ولها عليه حد القذف فإما أن تطالبه أو تعفو عنه أو تعترف بالزنا.
          قوله: (يضلوا) من الضلال، و(أنزلها الله) أي: باعتبار ما كان ((الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما)) من القرآن فنسخ تلاوته أو باعتبار أنه ما ينطق عن الهوى.
          قوله: (أو كان الحبل) أي: يثبت الحبل، قال الشافعي وأبو حنيفة: لا حد عليها بمجرد الحمل لأن الحدود تسقط بالشبهات.
          الزركشي:
          قوله: (ولم يبين إلى آخره) فيه حديث أنس، وفيه دليل إذا لم يصرح بما يوجب الحد وكنى أنه لا يستفسر بل يعرض عنه ويستر عليه.
          أو يقول: لعل ببعض الكناية كما قال في الخبر الآخر: ((لعلك لمست)) أو أنها تدرأ ما وجد السبيل، وهذا الرجل لم يفصح بما يوجب الحد ولعله كان بعض الصغائر فظن أنه يوجب الحد فلم يكشف عنه النبي صلعم ورأى التعرض منه لإقامة الحد عليه توبة منه.
          وفيه ما يضاهي قوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} [هود:114] وفي قوله: ((ألست قد صليت بمعناه)).
          (أو كان الحمل): ويروى ((الحبل)) بالباء، قال ابن جرير: يعني: حبل المحصنة التي لا زوج لها، ولا يذكر الزاني أنه من زنا.