مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب: لا يرجم المجنون والمجنونة

          ░22▒ باب لا يرجم المجنون ولا المجنونة
          وقال علي لعمر أما علمت.. إلى آخره.
          فيه حديث أبي هريرة في قصة ماعز.
          وموضع الحاجة: فقال: ((أبك جنون؟)).
          وأثر علي أخرجه (ن) مرفوعاً من حديث جرير بن حازم، بسنده عن ابن عباس قال: مر علي بن أبي طالب بمجنونة بني فلان قد زنت، فأمر عمر برجمها فردها علي، وقال لعمر: أما تذكر أن رسول الله قال: ((رفع القلم عن ثلاثة: المجنون المغلوب على عقله، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم)) قال: صدقت فخلى عنها.
          وقام الإجماع على أن المجنون إذا أصاب الحد في جنونه أنه لا حد عليه، وإن أفاق من جنونه بعد ذلك لرفع القلم عنه إذ ذاك، والخطاب غير متوجه إليه حينئذ.
          ألا ترى قوله ◙ للذي شهد أربع شهادات: ((أبك جنون؟)) فدل قوله هذا أنه لو اعترف بالجنون لدرأ الحد عنه، وإلا فلا فائدة لسؤاله هل بك جنون أم لا؟ وقام الإجماع أيضاً على أنه إذا أصاب رجل حدًّا وهو صحيح ثم جن بعد، أنه لا يؤخذ منه الحد حتى يفيق، وعلى أن من وجب عليه حد غير الرجم وهو مريض يرجى برؤه أنه ينتظرنه حتى يبرأ فيقام عليه، فأما الرجم فلا ينتظر فيه؛ لأنه إنما يراد به التلف فلا وجه للاستثناء.
          وفي ((الإشراف)) عن أحمد: لا يؤخر، رجي برؤه أم لم يرج.
          قوله: (فلما أذلقته الحجارة هرب) هو ظاهر في تركه إذ ذاك، وهو مذهبنا كما ستعلمه ومذهب أحمد، وخالفا الكوفيون فقالوا: إن هرب وطلبه الشرط واتبعه في فوره ذلك أقيم عليه بقية الحد، وإن أخذوه بعد أيام لم يقم عليه بقيته.
          دليلنا قوله ◙: ((هلا تركتموه)) أخرجه (د) من حديث يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه في القصة المذكورة، وأخرجه الحاكم في ((مستدركه)) وقال: صحيح الإسناد. وأخرجه (ت) من حديث أبي هريرة، وقال: حسن والحاكم وقال: صحيح على شرط (م).
          وقال ابن المنذر: يقام عليه الحد بعد يوم وبعد أيام وسنين؛ لأن ما وجب عليه لا يجوز إسقاطه بمرور الأيام والليالي، ولا حجة مع من أسقط ما أوجبه الله من الحدود.
          واختلف فيما إذا أقر بالزنا ثم رجع عن إقراره، فقالت طائفة: يترك ولا يحد، هذا قول عطاء والزهري والثوري والكوفيين والشافعي وأحمد وإسحاق، واختلف عن مالك في ذلك واحتج الشافعي بالحديث السالف: ((هلا تركتموه)) فكل حديثه فهو كذا، وبقوله له: ((لعلك قبلت أو غمزت))، فالشارع كان يلقنه ويعرض عليه بعد اعتراف / قد سبق منه، فلو أنه قال: نعم قبلت أو غمزت لسقط عنه الرجم، وإلا لم يكن لتعريضه لذلك معنى، فعلم أنه إنما لقنه لفائدة وهي الرجوع.
          وحجة الآخرين أن الحد لازم بالبينة أو بالإقرار، وقد تقرر أنه لو لزم الحد بالبينة لم يقبل رجوعه، فكذا الإقرار.
          لا يخفى أن هذا الرجل هو ماعز بن مالك الأسلمي كان يتيماً عند هزال، فأمره هزال أن يأتي رسول الله فيخبره فوقع ما وقع.
          فيه الرجم من غير جلد، وخالف فيه مسروق وأهل الظاهر في الجمع.
          ومعنى (أذلقته الحجارة): أحرقته، كما جاء في رواية: وأوجعته، قاله الداودي، وقال ابن فارس: الإذلاق: سرعة الرمي، وعبارة غيره: بلغت منه الجهد حتى ذلق، وهو بالذال المعجمة والقاف.
          قال ابن الأعرابي: أذلقه الصوم: أضعفه.
          ويروى أن أيوب ◙ قال في مناجاته: أذلقني البلاء، فتكلمت؛ أي: جهدني، وكل ما آذاك فقد أذلقك.
          وفي ((الصحاح)): الذلق بالتحريك: القلق، وقد ذلق بالكسر، وأذلقته، وأنا ذالق بالتسكين من كل شيء: حده وقال بعضهم: هو بدال مهملة، ومعناه: خروج الشيء من موضعه بسرعة، يقال: دلق السيف من غمده: إذا خرج بسرعة ولم يسله، فكأن الحجارة أتت عليه من كل جانب كالسيل إذا ظهر على الوادي فلا يدري من أين جاء.
          حديث الباب: أخرجه (خ) من طريق ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، وفي آخره: قال ابن شهاب: فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: فكنت فيمن رجمه.. الحديث.
          الظاهر أن المحدث لابن شهاب أبو سلمة، كما أخرجه بعد في باب الرجم بالمصلى، حيث ساقه من حديث معمر عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر، وفي آخره: فقال له ◙: ((خيراً)) وصلى عليه. ولم يقل يونس وابن جريج عن الزهري: فصلى عليه، يصح.
          ومتابعة ابن جريج أخرجها مسلم، ثنا إسحاق، بسنده عن أبي سلمة فذكره.
          وقال البيهقي قوله: (فصلى عليه) خطأ لإجماع أصحاب عبد الرزاق على خلافه، ثم إجماع أصحاب الزهري على خلافه.
          وأخرجه (م) من حديث بريدة مطولاً، وفيه طلب الاستغفار له، وفي آخره: ((لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم)).
          وفيه: أنه حفر له حفرة، في رواية له في قصة الغامدية: ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها ثم أمر الناس فرجموها.
          وفي رواية من حديث نعيم بن هزال أن المزنِيَّ بها كانت جارية له ترعى يقال لها فاطمة.
          وفي ((السنن)) لأبي قرة: قال ابن جريج: اختلفوا علي، فقائل يقول: ربط ماعز إلى الشجرة، وفيها: أنه طول في الأوليين من الظهر حتى كاد الناس يعجزون عنها من طول الصلاة. وفيها: رماه ابن الخطاب بلحي بعير فأصاب رأسه فقتله. وفيها: فقيل يا رسول الله أنصلي عليه؟ قال: ((لا)) وفي الغد طول أيضاً، وقال: صلوا على صاحبكم، فصلى عليه رسول الله والناس.
          قال ابن عبد البر: روى قصة ماعز في قصة اعترافه بالزنا ورجمه عن رسول الله ابن عباس وجابر بن عبد الله وابن سمرة وسهل بن سعد ونعيم بن هزال وأبو سعيد الخدري، وفي أكثرها أنه اعترف أربع مرات، وفي بعضها: مرتين، وفي بعضها: ثلاثاً.
          قلت: ورواها أيضاً الصديق أخرجها (ت) في ((علله المفردة))، وأبو برزة أخرجها ابن أبي شيبة في ((مصنفه))، وعلي وأبو ذر أخرجه ابن وهب واللجلاج وأبو الفيل.
          وتكراره ◙ ماعزاً ليعرض له بالرجوع، وقال البيهقي: لم يكن لاشتراط التكرار في الاعتراف، ولكنه كان يستنكر عقله، فلما عرف صحته استفسر منه الزنا، فلما فسره أمر برجمه، ولهذا قال في حديث ابن عباس في (خ) كما سيأتي: ((أنكتها؟)) لا يكني.
          ونقل ابن حزم عن طائفة الاكتفاء بمرة في الحدود، وأنه قول الحسن بن حي وحماد بن أبي سليمان وعثمان البتي ومالك والشافعي / وأبي ثور وأبي سليمان وجميع أصحابهم.
          وعن طائفة أخرى: لا يقام على أحد حد الزنا بإقراره حتى يقر أربع مرات، ولا يقام عليه حد القطع والسرقة حتى يقر به مرتين، وحد الخمر كذلك، وفي القذف واحدة، وأنه مروي عن أبي يوسف.
          وقد جاء عن أبي هريرة خبر صحيح ببيان بطلان ظنهم ثم ساقه من حديث عبد الرحمن بن الصامت عن أبي هريرة أنه سمعه يقول: جاء الأسلمي إلى رسول الله فشهد على نفسه أربع مرات بالزنا يقول أتيت امرأة حراماً كل ذلك يعرض عنه رسول الله فأقبل في الخامسة فقال: أنكحتها؟ قال: نعم، قال: فهل تدري ما الزنا؟ قال: نعم أتيت منها جرأة فأتاني الرجل من أهله حلالاً قال وما تريد بهذا القول قال أريد منك أن تطهرني فأمر به فرجم فهذا خبر صحيح.
          وفيه أن الشارع لم يكتف بتقريره أربعاً حتى أقر في الخامسة، ثم لم يكتف بذلك حتى سأله السادسة هل يعرف ما الزنا؟ فلما عرف أنه يعرفه فلم يكتف بذلك حتى سأله السابعة ما ير[يد] بهذا ليختبر عقله فلما عرف عقله أقام عليه الحد.
          اختلف في الحفر للمرجوم، قال أبو عمر: روي عن عمر أنه حفر لشراحة إلى السرة، وأن الناس أحدقوا لرجمها، فقال: ليس هكذا الرجم إني أخاف أن يصيب بعضكم بعضا، ولكن صفوا كما تصفون في الصلاة، ثم قال: والرجم رجمان، رجم سر، ورجم علانية، فما كان منه بإقرار، فأول من يرجم الإمام ثم الناس وما كان منه ببينة، فأول من يرجم البينة، ثم الإمام، ثم الناس.
          وقد أسلفنا الحفر له وللغامدية، وقال مالك: لا يحفر للمرجوم، وإن حفر للمرجومة فحسن.
          وقال الشافعي وابن وهب: إن شاء حفر، وإن شاء لم يحفر.
          وحكي في ((الإشراف)) عن أبي حنيفة أن الإمام مخير في ذلك، وعن الشافعي: يحفر لها إن ثبت زناها بالبينة دون الإقرار. وبه قال الفرضي من المالكية.