إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إذا رأيتم الليل أقبل من ها هنا فقد أفطر الصائم

          1941- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ) المدينيُّ قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) بن عيينة (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) سليمان بن أبي سليمان فيروزَ (الشَّيْبَانِيِّ) أنَّه (سَمِعَ ابْنَ أَبِي أَوْفَى) عبد الله ( ☺ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ) ولابن عساكر: ”مع النَّبيِّ“ ( صلعم ) أي: وهو صائمٌ (فِي سَفَرٍ) في شهر رمضان كما في «مسلمٍ» في غزوة الفتح لا في بدرٍ لأنَّ ابن أبي أوفى لم يشهدها (فَقَالَ لِرَجُلٍ) هو بلالٌ كما في رواية أبي داود وابن بشكُوال، ولـ «مسلمٍ»: «فلمَّا غابت الشَّمس»، ولـ «البخاريِّ» [خ¦1955]: «فلمَّا غربت الشَّمس، قال:» (انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي) بهمزة وصلٍ بعد الفاء وسكون الجيم وفتح الدَّال وبعدها حاءٌ مهملتين أمرٌ من الجدح؛ وهو الخلط، أي: اخلط السَّويق بالماء أو اللَّبن بالماء وحرِّكه لأفطر عليه، وقول الدَّاوديِّ: _إنَّ معناه: احلب_ ردَّه عياضٌ (قَالَ) بلالٌ: (يَا رَسُولَ اللهِ الشَّمْسَُ؟) باقيةٌ، أي: نورها، أو «الشَّمس»: رفع خبر مبتدأٍ محذوفٍ، أي: هذه الشَّمس، ولغير أبي ذرٍّ: ”الشَّمسَ“ بالنَّصب(1) أي: انظر الشَّمس، ظنَّ أنَّ بقاء النُّور وإن غاب القرص مانعٌ من الإفطار (قَالَ) ╕ : (انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي) لأفطر (قال) بلالٌ: (يَا رَسُولَ اللهِ الشَّمْسَُ) بالرَّفع والنَّصب (قَالَ) ╕ : (انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي، فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ) ╕ (فَشَرِبَ) وكرَّر: «انزل فاجدح لي» ثلاث مرَّاتٍ، وتكرير المراجعة من بلالٍ للرَّسول صلعم لغلبة اعتقاده أنَّ ذلك نهارٌ(2) يحرم فيه الأكل، مع تجويزه أنَّ النَّبيَّ صلعم لم ينظر إلى ذلك الضَّوء نظرًا تامًّا، فقصد زيادة الإعلام، فأجابه ╕ بأنَّ ذلك لا(3) يضرُّ، وأعرض عن الضَّوء واعتبر غيبوبة الجِرم، ثمَّ بيَّن ما يعتبره من لم يتمكَّن من رؤية جرم الشَّمس؛ كما حكاه الرَّاوي عنه بقوله: (ثُمَّ رَمَى) أي: أشار ╕ (بِيَدِهِ هَهُنا) أي: إلى المشرق(4)، وإنَّما أشار إليه لأنَّ أوَّل الظُّلمة لا تُقبِل منه إلَّا وقد سقط القرص (ثُمَّ قَالَ) ╕ : (إِذَا رَأَيْتُمُ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَهُنَا) أي: من جهة المشرق (فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ) أي: دخل وقت إفطاره.
          واستُنبِط من هذا الحديث أنَّ صوم رمضان في السَّفر أفضل من الإفطار لأنَّه صلعم كان صائمًا في شهر رمضان في السَّفر، ولقوله تعالى: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:184]‼، ولبراءة الذِّمَّة وفضيلة الوقت، وفارق ذلك أفضليَّة القصر في السَّفر بأنَّ في القصر براءةَ الذِّمَّة ومحافظةً على فضيلة(5) الوقت بخلاف الفطر، وبأنَّ فيه خروجًا من الخلاف، وليس هنا خلافٌ يُعتَدُّ به في إيجاب الفطر، فكان الصَّوم أفضل، نعم إن خاف من الصَّوم ضررًا في الحال أو الاستقبال فالفطر أفضل، وعليه يُحمَل الحديث الآتي قريبًا _إن شاء الله تعالى_ بعد بابٍ بلفظ: كان رسول الله صلعم في سفرٍ فرأى زِحامًا ورجلًا قد ظُلِّل عليه، فقال: «ما هذا؟» فقالوا: صائمٌ، فقال: «ليس من البرِّ الصَّومُ(6) في السَّفر» [خ¦1946]، وقال المالكيَّة: يجوز الفطر في سفر القصر إذا شرع في السَّفر قبل الفجر ولم ينو الصِّيام في السَّفر، وقد خرج بقولهم: «شرع فيه قبل الفجر» ما إذا سافر بعده، فإنَّ فطره(7) ذلك اليوم لا يجوز عندهم إذا نوى الصَّوم قبل خروجه، وبقولهم: «ولم ينو الصِّيام في السَّفر» ما إذا نوى الصَّوم في السَّفر، فإنَّ فطره لا يجوز، فإن خالف في الوجهين فأفطر لزمه القضاء، ولو كان صومه تطوُّعًا، ولا كفَّارة عليه في المسألة الأولى بخلاف الثَّانية، وقال الحنابلة: يُستحَبُّ له الفطر، قال المرداويُّ: وهذا هو(8) المذهب، وعليه الأصحاب ونصَّ عليه، وهو من / المفردات، وسواءٌ وجد مشقَّةً أم لا، وفي وجهٍ: إنَّ الصَّوم أفضل.
          وهذا الحديث من الرُّباعيَّات، وأخرجه أيضًا في «الصَّوم» [خ¦1955] و«الطَّلاق» [خ¦5297]، ومسلمٌ في «الصَّوم»، وكذا أبو داود والنَّسائيُّ.
          (تَابَعَهُ) أي: تابع سفيان بن عيينة في أصل الحديث (جَرِيرٌ) بفتح الجيم ابن عبد الحميد، ممَّا وصله في «الطَّلاق» [خ¦5297] (وَ) تابعه أيضًا (أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ) بالشِّين المعجمة ابن سالمٍ الأسديُّ الكوفيُّ المقرىء، ممَّا وصله في «تعجيل الإفطار»، كلاهما (عَنِ الشَّيْبَانِيِّ) أي(9): أبي إسحاق المذكور (عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلعم فِي سَفَرٍ).


[1] «بالنَّصب»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[2] في (د) و(ص): «نهارًا».
[3] في (ب): «لم».
[4] في (م): «الشَّرق».
[5] في (ب) و(د): «أفضليَّة».
[6] في (د): «الصِّيام».
[7] في (د): «فطر».
[8] «هو»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[9] في (م): «عن»، وليس بصحيحٍ.