إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أطولكن يدًا

          1420- وبالسَّند(1) قال: (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ) المنقريُّ قال: (حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ) الوضَّاح ابن عبد الله، اليشكريُّ (عَنْ فِرَاسٍ) بكسر الفاء وتخفيف الرَّاء، آخره سينٌ مُهمَلةٌ، ابن يحيى الخارفيِّ _بالخاء المعجمة والرَّاء والفاء_ المُكتِب (عَنِ الشَّعْبِيِّ) عامر بن شراحيل (عَنْ مَسْرُوقٍ) هو ابن الأجدع (عَنْ عَائِشَةَ ♦ : أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلعم قُلْنَ) الضَّمير للبعض الغير المُعيَّنٍ(2)، لكن عند ابن حبَّان من طريق يحيى بن حمَّاد عن أبي عَوانة بهذا الإسناد عن عائشة قالت: فقلت (لِلنَّبِيِّ صلعم : أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقًا؟) نُصِب على التَّمييز، أي: يدركك بالموت، و«أيُّنا» بضمِّ التَّحتيَّة المُشدَّدة بغير علامة التَّأنيث؛ لقول سيبويه فيما نقله عنه الزَّمخشريُّ في سورة «لقمان»: أنَّها مثل «كلٍّ» في أنَّ إلحاق(3) التَّاء لها غير فصيحٍ، وجملة: «أيُّنا أسرع» مبتدأٌ وخبرٌ (قَالَ) ╕ : (أَطْوَلُكُنَّ) بالرَّفع خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ دلَّ عليه السُّؤال، أي: أسرعُكنَّ لحوقًا بي أطولُكنَّ (يَدًا) نُصِبَ على التَّمييز، وكان القياس أن يقول: طُولاكنَّ بوزن «فُعْلَى»‼ لأنَّ في مثله يجوز الإفراد، والمطابقة لمن «أفعل» التَّفضيل له (فَأَخَذُوا قَصَبَةً يَذْرَعُونَهَا) بالذَّال المعجمة، أي(4): يقدِّرونها بذراع كلِّ واحدةٍ؛ كي يعلمن أيُّهن أطول جارحةً، والضَّمير في قوله: «فأخذوا ويذرعون» راجعٌ لمعنى الجمع لا لفظ جماعة النِّساء، وإلَّا لقال: فأخذن قصبةً يذرعْنَها، أو عدل إليه تعظيمًا لشأنهنَّ؛ كقوله: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}[التحريم:12] وكقوله:
.......................                     وإن شئت حرَّمتُ النِّساء سِواكمُ
(فَكَانَتْ سَوْدَةُ) بفتح السِّين، بنت زمعة؛ كما زاده ابن سعدٍ: (أَطْوَلَهُنَّ يَدًا) من طريق المساحة (فَعَلِمْنَا بَعْدُ) أي: بعدَ أن تقرَّر كونُ سودةَ أطولهنَّ يدًا بالمساحة (أَنَّمَا) بفتح الهمزة؛ لكونه في موضع المفعول لـ «عَلِمْنا» (كَانَتْ طُولَ يَدِهَا الصَّدَقَةُ) اسم «كان»، و«طولَ يدِها» خبرٌ مُقدَّمٌ، أي: علمنا أنَّه صلعم لم يُرِدْ باليدِ العضوَ، وبالطُّول طولَها، بل أراد: العطاء وكثرته، فاليد هنا استعارةٌ للصَّدقة، والطُّول ترشيحٌ لها؛ لأنَّه ملائمٌ للمُستعار منه (وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقًا بِهِ) ╕ (وَكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ) واستُشكِل هذا بما ثبت مِنْ تقدُّم موت(5) زينب تأخُّر سَوْدة بعدها، وأجاب ابن رُشَيدٍ بأنَّ عائشة لا تعني سَوْدَةَ بقولها: «فعلمنا بعدُ» أي: بعد أن أخبرت عن سَوْدة بالطُّول الحقيقيِّ / ، ولم تذكر(6) سببًا للرُّجوع عن الحقيقة إلى المجاز إلَّا الموت، فتعيَّن الحمل على المجاز. انتهى. وحينئذٍ(7) فالضَّمير في «وكانت» في الموضعين عائدٌ على الزَّوجة التي عناها صلعم بقوله(8): «أطولكنَّ يدًا»، وإن كانت لم تُذكر(9)؛ إذ هو متعيِّنٌ لقيام الدَّليل على أنَّها زينب بنت جحشٍ؛ كما في «مسلمٍ» من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة بلفظ: «فكانت أطولنا يدًا زينب بنت جحشٍ؛ لأنَّها كانت تعمل وتصدَّقُ»(10) مع اتِّفاقهم على أنَّها أوَّلهنَّ موتًا، فتعيَّن أن تكون هي المرادة، وهذا من إضمار ما لا يصلح غيره؛ كقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}(11)[ص:32] وعلى هذا فلم تكن(12) سَوْدَةُ مرادةً قطعًا، وليس الضَّمير عائدًا عليها، لكن يعكِّر(13) على هذا ما وقع من التَّصريح بسَودة عند المؤلِّف في «تاريخه الصَّغير» عن موسى بن إسماعيل بهذا السَّند بلفظ: «فكانت سودة أسرعنا»، وقول بعضهم: إنَّه يُجمَع بين روايتي «البخاريِّ» و«مسلمٍ» بأنَّ زينب لم تكن حاضرةً خطابه ╕ بذلك، فالأوَّليَّة(14) لسودة؛ باعتبار من حضر إذ ذاك مُعارَضٌ بما رواه ابن حبَّان من رواية يحيى بن حمَّادٍ: أنَّ نساء النَّبيِّ صلعم اجتمعن عنده، فلم يغادر منهنَّ واحدةً، وأجاب الحافظ ابن حجرٍ بأنَّه يمكن أن يكون تفسيره بسودة(15) من أبي عَوانة؛ لكون غيرها لم يتقدَّم له ذكرٌ؛ لأنَّ ابن عُيَيْنَة، عن فراسٍ قد خالفه في ذلك، وروى يونس بن بكيرٍ في «زيادة المغازي»، والبيهقيُّ في «الدَّلائل» بإسناده عنه عن زكريَّا بن أبي زائدة عن الشَّعبيِّ التَّصريح بأنَّ ذلك لزينب(16)، لكن قَصَّر زكريَّا في إسناده فلم يذكر مسروقًا ولا عائشة ولفظه: فلمَّا تُوفِّيت زينب علمن أنَّها كانت أطولهنَّ يدًا في الخير والصَّدقة، ويؤيِّده ما رواه الحاكم في «المناقب» من «مُستدرَكه»، ولفظه: قالت عائشة: فكنَّا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة النَّبيِّ صلعم نمدُّ أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نَزَلْ نفعل ذلك حتَّى تُوفِّيت زينب بنت جحشٍ، وكانت امرأةً قصيرةً ولم تكن أطولنا، فعرفنا حينئذٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم إنَّما أراد بطول اليد الصَّدقَة‼، وكانت زينب امرأةً صنَاعة باليد، تدبغ وتخرز وتَصَدَّق(17) في سبيل الله، قال الحاكم: على شرط مسلمٍ، وهي روايةٌ مفسِّرةٌ مبيِّنةٌ مرجِّحةٌ لرواية عائشة بنت طلحة في أمر زينب، وروى ابن أبي خيثمة من طريق القاسم بن معنٍ قال: كانت زينب أوَّل نساء النَّبيِّ صلعم ، أي: لحوقًا به، فهذه رواياتٌ يعضد بعضها بعضًا، ويحصل من مجموعها أنَّ في رواية أبي عَوانة وهمًا.


[1] في (د): «وبه»، وفي نسخةٍ في حاشيتها كالمثبت.
[2] في (ص) و(م): «مُعيَّن».
[3] في غير (ص) و(م): «لحاق».
[4] «أي»: ليس في (د).
[5] في (د) و(ص): «وفاة».
[6] في (ص): «يذكر».
[7] قوله: «واستُشكِل هذا: بما ثبت من تقدُّم موت زينب وتأخُّر... على المجاز. انتهى. وحينئذٍ»، سقط من (م).
[8] «بقوله»: ليس في (د).
[9] في (د) و(م): «أبعد مذكورٍ».
[10] في (ص): «تتصدَّق».
[11] قوله: «وهذا من إضمار ما لا يصلح غيره؛ كقوله تعالى: { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ }»، سقط من (د).
[12] في (د): «فلا تكون».
[13] في (د): «يشكل».
[14] في (م): «فالأولويَّة».
[15] في (م): «لسودة».
[16] في (د) و(م): «لم يثبت».
[17] في غير (ص) و(م): «تتصدَّق».