الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب حب الرسول من الإيمان

           ░8▒ (بَاب: حُبُّ الرسول مِنَ الإيمَانِ...) إلى آخره
          عامَّة الشُّراح على أنَّ المحبَّة هنا عقليٌّ(1)، ولكنَّ والدي نوَّر الله مرقده كان يقول: إنَّ المحبَّة تعمُّ العقليَّة والطَّبيعيَّة(2) كليهما، ولكنَّ المحبَّة الطَّبيعية(3) تسترها العوارض أحيانًا وتظْهَر عند التَّزاحُم، ومثال ذلك رجلٌ يكون له ولدٌ يحبُّه حبًّا جمًّا ولا يغفل عنه ساعةً، ولكنَّه لو وَضَع هذا الطِّفل الحبيب قدمه على القرآن الكريم فماذا سيكون؟ إنَّ الوالد سيرمي بابنه بعيدًا ويضطرب لِما حدث، هكذا لو أساء حبيب أحدٍ في ذات الرَّسول صلعم؛ فلا يمكن لمسلمٍ أن يتحمَّل ذلك مهما بلَغَت محبَّة الحبيب، وقد أخرج أبو داود والنَّسائيُّ عن ابن عبَّاسٍ أنَّ أعمى كانت له أمُّ ولدٍ تشتم النَّبيَّ صلعم وتقع فيه، فيَنْهاها فلا تَنْتَهي، ويزجُرُها فلا تنْزَجِر، قال: فلمَّا كانت ذات ليلةٍ جعَلَت تقع في النَّبيِّ صلعم وتشْتُمُه، فأخذ المِعْوَل فوضَعَه في بطْنِها واتَّكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفلٌ فلطَّخت ما هنالك بالدَّم، فلمَّا أصبح ذُكر ذلك للنَّبيِّ صلعم فجمع النَّاس فقال: أَنْشُدُ اللهَ رجلًا فعَل ما فَعل لي عليه حقٌّ إلَّا قَام، فقام الأعمى يتخطَّى النَّاسَ، وهو يتَزَلزل حتَّى قَعَد بين يدي النَّبيِّ صلعم فقال: يا رسول الله، أنا صَاحِبُها، كانت تَشتُمُك وتقعُ فِيك، فَأَنْهاهَا فلا تَنْتَهي، وأزْجُرُها فلا تَنْزَجِر، ولي منها ابنان مثل اللُّؤلؤتين، وكانت لي(4) رَفِيقةً، فلمَّا كان البَارحة جَعَلت تَشْتُمُك وتَقَع فِيك، فأَخَذْت المعوَلَ فوضَعْتُه في بَطْنِها، واتَّكَأتُ عليها حتَّى قَتَلْتُها، فقال النَّبيُّ: صلعم ألا اشْهدوا أنَّ دَمَها هَدَرٌ(5).
          وممَّا ينبغي التَّنبيه عليه ما في «الأرواح الثَّلاثة» ما تعريبه ملخَّصًا مِنْ ذكر المفاضلة بين الحبِّ العقليِّ والحبِّ العشقيِّ، ففضَّل مولانا محمَّد إسماعيل الشَّهيد ⌂ في كتابه «الصِّراط المستقيم» الحبَّ العقليَّ على الحبِّ العشقيِّ، لأنَّ الحبَّ العشقيَّ يضْمَحِلُّ بعد وِصَال المحْبوب، بخلاف العقليِّ / فإنَّه باقٍ لبقائه، وعَكَسَه سيِّد هذه الطَّائفة مولانا الحاجُّ إمداد الله المهاجر المكِّيُّ نوَّر الله مرقده مستدلًّا بأنَّ الحبَّ العقليَّ متناهٍ لتناسي(6) العقل، ولذا قال عليٌّ ☺ : لو كُشِف الغطاء ما ازدَدْتُ يقينًا، وإنَّما قاله في الحبِّ العقليِّ، بخلاف العشقيِّ فإنَّه لا يتناهى لعدم تناهي(7) ذات المحبوب وصفاته، وقال العارف المحدِّث الكنكوهيُّ: كلا الكلامين حَسَنان جَيِّدان، إلَّا أنَّ الحبَّ العشقيَّ مع كونه معمولًا(8) بالفضائل لا ينتظم معه الأمر، ولذا لا تبقى رعاية الحدود الشَّرعيَّة معه، ولذلك اختار(9) الحبَّ العقليَّ ما دام يحتاج إلى الأعمال، وأمَّا في وقت الوفاة: فأختار وأحبُّ(10) غلبة الحبِّ العشقيِّ. انتهى.


[1] في (المطبوع): ((عقلية)).
[2] في (المطبوع): ((والطبعية)).
[3] في (المطبوع): ((الطبعية)).
[4] في (المطبوع): ((بي)).
[5] التلخيص شرح الجامع الصحيح للنووي: ░510▒
[6] في (المطبوع): ((لتناهي)).
[7] قوله: ((تناهي)) ليس في (المطبوع).
[8] في (المطبوع): ((معمورًا)).
[9] في (المطبوع): ((أختار)) بهمزة قطع.
[10] في (المطبوع): ((فاختاروا حب)).