الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب علامة المنافق

           ░24▒ (بَاب: عَلامَة الْمُنَافِقِ)
          قال الحافظ: لمَّا قدَّم أنَّ مراتب الكفر متفاوتةٌ وكذلك للظُّلم(1)، أتبعه بأنَّ النِّفاق كذلك، وقال الشَّيخ محيي الدِّين: مراد البخاريِّ بهذه التَّرجمة: أن المعاصي تنقص الإيمان كما أنَّ الطَّاعة تزيده. انتهى.
          والأوجه عندي في غرض التَّرجمة أنَّ الأعمال الحسنة كما هي مكمِّلاتٌ للإيمان وليست الإيمان نفسه، فكذلك مقابلها هذه الأعمال مكمِّلاتٌ للكفر ليست هي الكفر نفسه، وكتب الشَّيخ الكنكوهيُّ قُدِّس سرُّه في «اللَّامع» (باب: علامة المنافق) سردها، ليتجنَّب عنها المسلم مع ما فيه مِنِ احتجاجٍ(2) على أنَّ الاتِّصاف بها وبالذُّنوب سوى ذلك لا يوجب الخروج عن الإيمان، وأنَّ النِّفاق في مثل تلك الرِّوايات إنَّما هو نفاق العمل، أو تسميته نفاقًا بحسب صورة النِّفاق لا حقيقته، وذلك لأنَّه لم يطلق عليه لفظ المنافق، وإنَّما قال: إنَّها علاماتٌ له، فمَنْ كانت فيه واحدةٌ منها كان فيه مِنَ النِّفاق بقدرها ومَنْ كانت فيه زيادةٌ منها كانت فيه زيادةٌ منه، ولم يقل: إنَّه منافقٌ، وقد علم أنَّ الإيمان غير متجزِّئٍ(3)، فلا يمكن إثبات بعض الإيمان وبعض الكفر في مثل ذلك الرَّجل الَّذِي فيه علامةٌ أو علامتان أو ثلاثٌ منها، وأيضًا فقد ذكر فيه ما يدلُّ على أنَّه لم يخرج بوجود تلك العلامات فيه مِنَ الإيمان وهو قوله: (حتَّى يَدَعَهَا)، فعُلم أنَّ نفس الموادعة والتَّرك كافٍ، ولا يفتقر إلى تجديد إيمانه، وأيضًا ففيه دلالةٌ على أنَّ الإيمان يزيد وينقص، لأنَّه لمَّا اتَّصف بعلائم المنافقين كان فيه نقصٌ في الإيمان بهذا القدر، فافهم. انتهى.
          وقال حضرة شيخ الهند ☼ في «تراجمه» ما تعريبه: (بَاب: عَلامَات الْمُنَافق) بيَّن المؤلِّف ⌂ النِّفاق: بعد بيان الكفر والمعاصي والشِّرك، ويظهر مِنَ التَّرجمة أنَّ علامات النِّفاق متعدِّدةٌ، والغرض بيانها، ثُمَّ ذكر في الحديث الأوَّل ثلاث(4) علاماتٍ، وفي الثَّاني أربعٌ(5) صراحةً، فعُلم أنَّ النِّفاق له مراتب عديدةٌ أيضًا، ويزيد وينقص مثل الكفر، وما ذكر في الحديث الثَّاني قوله: (أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا) يظهر منه الزِّيادة والنُّقصان في النِّفاق ظهور الشَّمس.
          ثُمَّ يظهر هاهنا أمران علاوةً على الغرض المذكور:
          الأوَّل: أنَّ في هذا الباب تأييدًا للأبواب السَّابقة، كـ(باب: ظلمٍ دون ظلمٍ) وغيره.
          والثَّاني: كما أنَّ المعاصيَ مِنَ الأمور الكفريَّة، هكذا الأفعال الَّتي ذكرها لعلامة النِّفاق هي داخلةٌ في أفعال النِّفاق، فكما صحَّ أن يطلق على كفران العشير كفرًا هكذا يجوز أن يطلق على الكفر والخيانة نفاقًا أيضًا، وما يفعله العلماء الكرام مِنَ التَّأويلات المختلفة للرِّوايات [على النِّفاق في العمل] فبعضهم جعل النِّفاق قسمين: نفاقٌ في العقيدة، ونفاقٌ في العمل، وحمل هذه الرِّوايات على النِّفاق في العمل، وبعضهم يجعل مجموعة العلامات الثَّلاثة الموجودة في الحديث الأوَّل ومجموعة العلامات الأربعة الموجودة في الحديث الثَّاني كلٌّ منهما علاقةٌ على حدةٍ، ويقصد أن يثبت له معنًى خاصًا، فبما(6) ذكرنا لا تبقى الحاجة إلى أيِّ ذلك، فعليك بالتَّأمُّل الصَّادق، والله تعالى أعلم. انتهى.
          وبسط الكلام على ذلك في «هامش اللَّامع» وفيه قال الكرمانيُّ: إنَّ جماعةً مِنَ العلماء عدُّوا هذا الحديث مشكلًا مِنْ حيث إنَّ هذه الخصال قد توجد في المسلم، مع(7) أنَّ الإجماع حاصلٌ [على] أنَّه لا يُحكم بكفره ولا بنفاقٍ يجعله في الدَّرْك الأسفل مِنَ النَّار. انتهى.
          قال النَّوويُّ: ليس في / الحديث إشكالٌ، لأنَّ معناه: هذه خصالُ نفاقٍ، وصاحبها شبيهٌ بالمنافق(8) متخلِّقٌ(9) بأخلاقهم، إذن(10) النِّفاق إظهار ما يبطن خلافه، وهو موجودٌ في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه خاصًّا في حقِّ مَنْ حدَّثه ووعده وائتمنه، لا أنَّه منافقٌ في الإسلام مبطنٌ للكفر(11).
          وأجملَ الحافظُ الكلام على الأجوبة فقال بعد جواب النَّوويِّ: ومحصَّل هذا الجواب في التَّسمية على المجاز، أي: صاحب هذه الخصال كالمنافق، وهو بناءً على أنَّ المراد بالنِّفاق نفاقُ الكفر، وقد قيل في الجواب عنه: إنَّ المراد به نفاق العمل، وهذا ارتضاه القُرْطُبيُّ، واستدلَّ بقول عمر ☺ لحذيفة: هل تعلم فيَّ شيئًا مِنَ النِّفاق؟ فإنَّه لم يُرِد بذلك نفاق الكفر، وإنَّما أراد نفاق العمل، ويؤيِّده وصفُه بالخالص في الحديث الثَّاني بقوله: (كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا)، وقيل: المراد بإطلاق النِّفاق الإنذارُ والتَّحذير عن ارتكاب هذه الخصال، والظَّاهر غير مرادٍ، وهذا ارتضاه الخطَّابيُّ، وذكر أيضًا أنَّه يحتمل أنَّ المتَّصف بذلك هو مَنِ اعتاد ذلك وصار له ديدنًا، قال: ويدلُّ عليه التَّعبير بـ(إذا)، فإنَّها تدلُّ على تكرار الفعل، كذا قال.
          والأولى ما قال الكرمانيُّ: إنَّ حذف المفعول مِنْ حيث(12) يدلُّ على العموم، أي: إذا حدَّث في كلِّ شيءٍ كذب فيه.
          قال الكرمانيُّ: ولا شكَّ أنَّ مثله منافقٌ في الدِّين، وقيل: محمولٌ على مَنْ غلبت عليه هذه الخصال، وتهاون بها واستخفَّ بأمرها، فإنَّ مَنْ كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالبًا، وهذه الأجوبة كلُّها مبنيَّةٌ على أنَّ اللَّام في (المنافق) للجنس، ومنهم مَنِ ادعى أنَّها للعهد فقال: إنَّه ورد في حقِّ شخصٍ معيَّنٍ، وكان رسول الله صلعم لا يوجِّههم بصريح القول فيقول: فلانٌ منافقٌ، بل يشير إشارةً، كقوله صلعم: ما بال أقوامٍ يفعلون كذا، فهاهنا إشارةٌ بالآية إليه حتَّى يعرف ذلك الشَّخص بها، وقيل: ورد في حقِّ المنافقين في عهد النَّبيِّ صلعم فحدَّثوا بإيمانهم فكذَبوا، ووعدوا في نصر الدِّين فأخلفوا، وائتمنوا في دنياهم فخانوا، وتمسَّك هؤلاء بأحاديث ضعيفة جاءت في ذلك لو ثبت شيءٌ منها تعيَّن المصير إليه، وأحسن الأجوبة ما ارتضاه القُرْطُبيُّ. انتهى ما في «الفتح» بزيادة.
          قال الكرمانيُّ: فلدفع الإشكال خمسة أوجهٍ، لأنَّ اللَّام فيه إمَّا للجنس فهو إمَّا على سبيل التَّشبيه، أو المراد الاعتياد، أو معناه: الإنذار، وإمَّا للعهد إمَّا(13) مِنْ منافقي زمن رسول الله صلعم، وإمَّا مِنْ منافقٍ خاصٍّ، وهاهنا وجهٌ سادسٌ وهو: أنَّ المراد نفاق العمل لا نفاق الإيمان، وأحسن الوجوه هو(14) السَّابع أن(15) يقال: إنَّ النِّفاق شرعيٌّ وهو ما يبطن الكفر ويظهر الإسلام، ونفاق عرفيٌّ وهو ما يكون سرُّه خلاف علنِه، وهذا هو المراد إن شاء الله... إلى آخر ما بسط في «هامش اللَّامع».


[1] في (المطبوع): ((الظلم)).
[2] في (المطبوع): ((الاحتجاج)).
[3] في (المطبوع): ((متجزٍّ)).
[4] في (المطبوع): ((ثلاثة)).
[5] في (المطبوع): ((أربعة)).
[6] في (المطبوع): ((فيما)).
[7] في (المطبوع): ((من)).
[8] في (المطبوع): ((بالمنافقين)).
[9] في (المطبوع): ((ومتخلق)).
[10] في (المطبوع): ((إذ)).
[11] أخرجه النسائي في الصيام، باب ثواب من قام رمضان وصامه إيمانا واحتسابا... ، (رقم 2210)
[12] في (المطبوع): ((حدَّث)).
[13] قوله: ((إما)) ليس في (المطبوع).
[14] في (المطبوع): ((وهو)).
[15] في (المطبوع): ((بأن)).