الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة

           ░19▒ (باب: إذا لم يَكُن الإسْلامُ عَلى الحَقِيقَة)
          لم يتكلَّم على هذا الباب مسنِد الهند قُدِّس سرُّه، وتكلَّم عليه شيخ الهند في «تراجمه» وشيخ المشايخ الكنكوهيُّ قُدِّس سرُّه في «لامع الدَّراري» ومآل كلامهما واحدٌ، إلَّا أنَّهما اختلفا في التَّعبير والسِّياق، وأجاد كلٌّ منهما الكلام على ذلك، ونذكرهما تفهيمًا وتوضيحًا؛ لتغيُّر السِّياق والسِّباق، ونكتب أوَّلًا ما أفاده شيخ الهند معرِّبًا لكلامه، ثُمَّ بعد ذلك نذكر كلام شيخ المشايخ مِنَ «اللَّامع».
          فقال شيخ الهند قُدِّس سرُّه: اختَلف العلماء في العلاقة بين الإسلام والإيمان، وكيفيَّة النِّسبة بينهما، وبعضُهم يرَون التَّرادف والاتِّحاد، والأكثر يرجِّحُون المساواة، وبعضُهم يقولون: بالعُموم والخُصوص، والآيات القرآنية والأحاديث أيضًا مختلفة الظَّواهر، وقد ذكرها المحدِّثون والمتكلِّمون، واستدلَّ بهما الفريقان، لذا نقل المؤلِّف ☼ للإسلام معنيين:
          أحدهما: الاستسلام والانقياد الظَّاهريُّ الَّذِي يظهره صاحبه لطمع مالٍ، أو خوف قتلٍ وأسرٍ ونحوه، وهذا يقال له: المجاز الشَّرعيُّ أيضًا، والحقيقة الشَّرعيَّة، أي: مجموعة الأمور الدِّينيَّة كلِّها، فاندفع بذلك اختلاف النُّصوص، وأيضًا وأصبح خلاف أهل العلم فيه خلافًا لفظيًّا، وكذلك الآيات والحديث مثل: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} الآية [الحجرات:14]، وقوله صلعم: (أو مسلمًا)(1) في رواية سعد بن أبي وقَّاصٍ، يظهر منهما المغايرة بين الإيمان والإسلام، وهذا يخالف صراحةً مُدَّعى الأبواب السَّابقة، لأنَّ مغايرة الإسلام يستلزم مغايرة الأعمال، فبهذا الباب زالت هذه الشُّبهة نصًّا(2) / وتوضيح كلامه قُدِّس سرُّه أنَّ للإسلام إطلاقين: فمرَّةً يطلق مرادفًا للإيمان، وأخرى يطلق بمعنى الاستسلام الظَّاهر، والأوَّل هو الإسلام بالحقيقة، وهو المعتبر عند الشَّارع(3).
          والثَّاني: مثلًا أن يكون مخافة القتل والأسر أو لطمعٍ في الغنيمة وهو إسلامٌ ظاهرًا، وإن لم يصحبه التَّصديق لم ينفعه، وهذا محمل ما يتراءى في الظَّاهر مِنَ الاختلاف(4) بين النُّصوص.
          ولمَّا كان الظَّاهر مِنْ بعض النُّصوص مخالفة الإيمان للإسلام كما يفيد قوله صلعم لسعدٍ: (أَوْ مُسْلِم(5))، فيؤخذ منه مغايرة الإيمان للأعمال، فإنَّ الأعمال إسلامٌ، وقد أثبت المصنِّف في ما تقدَّم أنَّ الأعمال داخلةٌ في الإيمان، فدفع بهذه التَّرجمة هذه الشُّبهة أيضًا بأنَّ الإسلام الَّذِي يُغاير الإيمان هو الَّذِي يكون على الظَّاهر لا ما كان على الحقيقة.
          وقال الشَّيخ قُدِّس سرُّه في «اللَّامع» اعلم أنَّ للإسلام المعتبر شرعًا لزومًا بالإيمان، كما أنَّ للإيمان ملازمةً بالإسلام، ولو كان التَّسليم والانقياد حكمًا لا حقيقةً، وقد سبق بعض بيانه في أوَّل كتاب الإيمان، ولمَّا كان كذلك كان الإسلام والإيمان غيرَ منفكٍّ أحدهما عن الآخر، ولا متحقِّق كلٌّ منهما دون الثَّاني، إلَّا أنَّ الإسلام كما يُطلق على هذا المعنى المتلازم للإيمان، فكثيرًا ما يُطلق أيضًا على الانقياد الظَّاهريِّ الَّذِي لم يعتبر عند الشَّرع إلَّا في حقِّ إجراء أحكام المسلمين على مَنِ اتَّصف به، وذلك لتعذُّر وقوف النَّاس على سرائر القلوب وضمائرها فيما بينهم، فلم يكن بدٌّ مِنْ نصْب علامةٍ لهم يعرفون به المسلم عن غيره، وهذا الإطلاق للإسلام جارٍ في عرف الشَّريعة وفي كثيرٍ مِنَ الآيات والرِّوايات فبوَّب المؤلِّف بابًا لذلك إشارةً منه إلى أنَّ الإسلام والإيمان المعتبرين وإن لم يتحقَّق أحدهما دون الآخر إلَّا أنَّه قد يُطلق في الشَّرع لفظ الإسلام بإطلاقٍ آخر غير ما ذكرناه أوَّلًا، فيشتبه الأمر على النَّاظر.
          وأيضًا ففي كلامه إشارةٌ إلى أنَّ مَنْ ذَهَب منهم إلى مُغايرةٍ(6) بَيْنَهما فإنَّما غَرَضُه التَّغاير بحسب المفهوم لا المصاديق، فإنَّ المسْلم صفةٌ بحسب الظَّاهر، والمؤْمن صفةٌ له بحسب اعتقاده، وإن كانا متلازمَين وجودًا.
          أو قصد بالمغايرة أنَّهما يتغايران بحسب ذلك الإطلاق الآخر للإسلام الَّذِي هو غير مُعْتَبرٍ به شرعًا، كما في قوله تعالى: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، فإنَّهم لم يُؤمَروا أن ينسبوا إلى أنفسهم ذلك الإسلام الحقيقيَّ المعتبر شرعًا؛ إذ لو كانوا متَّصفين به لما صحَّ نفي الإيمان عنهم لِما أنَّهما متلازمان، بل أُمروا أن يسندوا إليها صورة الإسلام وظاهرَه.
          وهذا هو المراد في الرِّواية، حيث نهى سعدًا أن يحكم على رجلٍ بالإيمان لكونه أمرًا مُبطَّنًا عنه خَفِي(7) أمره عليه، وكذلك الإسلام الحقيقيُّ، نعم إنَّ له أن يحكم على مَنْ رآه آتيًا بأوامر الشَّرع مجتنبًا عن ارتكاب نواهيه بأنَّه مسلمٌ، بمعنى منقادٍ، وذلك لأنَّه متيقِّنٌ به غير مشكوكٍ فيه، وأمَّا الحكم بالإيمان والإسلام الحقيقيَّين فلا يمكن إلَّا ظنًّا عبرةً للظَّاهر، وهو وإن كان جائزًا لما أمرنا به مِنْ بناء الحكم على ظواهر ما نراه إلَّا أنَّه خلافُ الأدب، لكون الحكم بحسب الواقع على ما لم يُعلم، فافهم، فإنَّ فيه دقَّةً ما.
          ثُمَّ إنَّ كلمة (أو) في قوله صلعم: (أو مسلمًا)، ظاهرها أنَّها بمعنى: (بل)، حيث أراد النَّبيُّ صلعم ردَّه عما قال فيه، وجزم إلى ما هو متيقِّنٌ به منه وهو الانقياد الظَّاهريُّ، وذلك لعدم تيقُّن سعدٍ بما في قلبه مِنَ الإيمان والكفر، وإن كان النَّبيُّ صلعم يَعْلَم منه أنَّه مؤمنٌ كما هو الظَّاهر مِنْ قوله: (وَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ)، ويمكن كونها أيضًا للشَّكِّ، فإنَّه لمَّا لم يتبيَّن عنده إيمانُه أو نفاقه والتبس عليه فلم يكن تعيين أحد الأمرين مِنْ شأنه، فكان عليه أن يقول: إنِّي أراه مؤمنًا إن كان باطنُه كظاهره، أو مسلمًا إن لم يكن كذلك، فقوله صلعم: (أو مسلمًا) عطفٌ على مفعول قوله: (أراه)، ومثل ذلك في الكلام كثيرٌ. انتهى.
          وفي «هامشه» وفي «تقرير الشَّيخ المكِّيِّ» ☼ / عن الشَّيخ الكنكوهيِّ قُدِّس سرُّه قوله: على الحقيقة، أي: على الحقيقة الشَّرعيَّة، بل يكون على الحقيقة اللُّغويَّة، وجزاء الشَّرط محذوفٌ، فلا يعتبر به عند الله، والأعراب: المنافقون.
          وقوله: أسلمنا، فإطلاق الإسلام هاهنا حقيقةٌ لغويَّةٌ ومجازٌ شرعيٌّ؛ إذ لا فرق في الشَّرع بين الإيمان والإسلام والدِّين إلَّا بالاعتبار، وبسط في «هامش اللَّامع» الكلام على هذا الباب أشدَّ البسط، وذكر فيه أقوال الشُّرَّاح مِنَ السِّنديِّ وغيره(8).


[1] هامشٌ مِنَ الأصل: ثُمَّ اعلم أن الَّذِي ظهر لي مِنَ النظر في كلام الشُّرَّاح والمشايخ في غرض التَّرجمة ثلاثة أمورٍ:
الأوَّل: الجمع بين ما يفهم مِنَ التَّعارض بين الآيتين في إطلاق لفظ الإسلام بأن الإسلام قد يطلق مرادفًا للإيمان، وقد يطلق بمعنى الاستسلام؛ أي: الانقياد الظَّاهريِّ وهو الَّذِي يغاير الإيمان، هذا هو مختار شيخنا عند قراءتنا عليه «الصَّحيح»، وهو الَّذِي أثبته في «تراجمه».
والثَّاني: الفرق بين الإسلام النَّافع وغير النَّافع كما حكاه بعضهم.
والثَّالث: بيان أنَّ للإسلام إطلاقين ففي إطلاقٍ يرادف الإيمان، وهو ما إذا كان مع الاستسلام الظَّاهر اعتقاد الباطن، وقد يطلق بمعنى الانقياد الظَّاهر وهو ما إذا لم يصاحبه الاعتراف القلبيُّ، وهذا هو الَّذِي جنح إليه السِّنديُّ والعلَّامة الكشميريُّ وهو المذكور في «الفتح»، ويحوم حوله كلام العارف الكنكوهيِّ وغيرهما.
فمحط النظر على الأول هو دفع التعارض، وعلى الثاني بيان كونه نافعا وغير نافع، وعلى الثالث ذكر الإطلاقين فقط، والذي يظهر لي أن ترجمة المصنف قد حوت هذه الأمور الثلاثة كلها إلا أن الظاهر بلفظ الترجمة هو الذي جنح إليه السندي وغيره من إثبات الإطلاقين للإسلام، وهذان الإطلاقان هما محامل النصوص المختلفة، والإسلام الحقيقي هو النافع بخلاف الإسلام الظاهري والله أعلم. انتهى. محمد يونس عفا الله عنه.
[2] في (المطبوع): ((أيضًا)).
[3] في (المطبوع): ((الشرع)).
[4] في (المطبوع): ((الاختلافات)).
[5] في (المطبوع): ((مسلمًا)).
[6] في (المطبوع): ((المغايرة)).
[7] في (المطبوع): ((خفيًّا)).
[8] القاموس المحيط1/856