الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب من قال إن الإيمان هو العمل

           ░18▒ (بَاب: مَنْ قَالَ: إِنَّ الإِيمَانَ هُوَ العَمَلُ)
          يعني بذلك أنَّ العمل وإن كان المتبادرُ منه عند الإطلاق أعمالَ الجوارح إلَّا أنَّه كثيرًا ما يطلق على العمل القلبيِّ أيضًا، كما استشهد عليه بالآية والرِّواية، فمَنْ قال منهم في تفسير الإيمان: إنَّه العمل لم يَعْنِ به عملَ الجوارح حتَّى يَرِد عليه أنَّه كيف خالف البداهة، بل غَرَضُه هو الإيمان والعمل القلبيُّ، والله أعلم، كذا في «اللَّامع».
          وقال مسنِد الهند في «تراجمه»: المراد بالعمل هاهنا مجموع عمل اللِّسان والقلب والجوارح، والاستدلال عليه بمجموع الآيات والأحاديث؛ إذ يدلُّ كلٌّ مِنَ القرآن والسُّنَّة على بعض الدَّعوى، بحيث يدلُّ الكلُّ [على الكلِّ]. انتهى.
          ثُمَّ رأيت أنَّ العلامة الكَرْمانيَّ سبق إلى ذلك.
          ولا يذهب عليك أنَّ الإمام البخاريِّ ترجم هاهنا: (باب: مَنْ قَالَ إنَّ الإيمَان هُوَ العَمَل) وتقدَّم في أوَّل كتاب الإيمان: (هو قَوْلٌ وفِعْلٌ)، وظاهر ما قال شيخ الهند: إنَّ الغرض مِنَ الأوَّل كان إثبات أنَّ الأعمال هي أجزاءٌ، والمقصود هاهنا أنَّ الإيمان هو العمل، فغرض التَّرجمتين إثبات التَّلازم، والعلاقة مِنَ الطَّرفين، أو دفع ما يتوهَّم مِنَ العطف في نحو قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:3].
          وقال القَسْطَلَّانيُّ: تحت قوله تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، أي: فليؤمن المؤمنون، لا للحظوظ الدُّنيويَّة المشوبة بالآلام السَّريعة الانصرام، وهذا يدلُّ على أن الإيمان هو العمل.
          كما ذهب إليه المصنِّف لكن اللَّفظ عامٌّ، ودعوى التَّخصيص بلا برهانٍ لا تُقْبَل، نعم إطلاق العمل على إيمان(1) صحيحٍ مِنْ حيث إنَّ الإيمان هو عمل القلب، لكن لا يلزم مِنْ هذا أن يكون العمل مِنْ نفس الإيمان، وغرض البخاريِّ مِنْ هذا الباب وغيره إثبات أنَّ العمل مِنْ أجزاء الإيمان، ردًّا على مَنْ يقول: إنَّ العمل لا دخل له في ماهيَّة الإيمان، فحينئذٍ لا يتمُّ مقصوده على ما لا يخفى، وإن كان / مراده جوازَ إطلاق العمل على الإيمان فلا نزاع فيه، لأنَّ الإيمان عمل القلب، وهو التَّصديق. انتهى.
          وقال السِّنْديُّ(2): لمَّا ورد في مواضع مِنْ كتاب الله تعالى عطفُ العمل على الإيمان _والعطف للمغايرة_ تُوُهِّم أنَّ الإيمان لا يُطلق عليه اسم العمل شرعًا، فوضع هذا الباب لإثبات أنَّ اسم العمل شرعًا يشمل الإيمان، واستدلَّ عليه بقوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ} الآية [مريم:63] لا بناءً على أنَّ معنى {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة:105] تؤمنون، فإنَّه بعيد، بل بناءً على أنَّ الإيمان هو السَّبب الأعظم في دخول الجنَّة، فلا بدَّ مِنْ شمول {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} له، وكذا قول عدَّةٍ مِنْ(3) أهل العلم: لبيان شمول العمل لقول: لا إله إلَّا الله، على معنى أي: حتَّى إنَّ قول: لا إله إلَّا الله، لا لبيان اقتصار العمل، والمراد _والله تعالى أعلم_ عمَّا كانوا يعملون فعلًا وتركًا، فيشمل السُّؤال مَنْ قال وَمنْ ترك، وكذا قوله: {لِمِثْلِ هَذَا} إلى آخره [الصافات:61]، العمل فيه يشمل الإيمان لا أنَّ المراد به الإيمان فقط.
          والحاصل أنَّه في هذه الآية وقع الاقتصار على ذكر العمل، مع أنَّ الموضع موضع ذكر الإيمان والعمل جميعًا، فلا بدَّ مِنَ القول بشمول العمل للإيمان، وهو المطلوب، وعلى هذا فما وقع في القرآن مِنْ عطف العمل على الإيمان في مواضع فهو مِنْ عطف العام على الخاصِّ لمزيد الاهتمام بالخاصِّ، والله تعالى أعلم. انتهى.
          ويؤخذ مِنْ هذا الجواب لاعتراض القَسْطَلَّانيِّ على المصنِّف، ومحصَّل الأقوال في غرض التَّرجمة ثلاثةٌ:
          الأوَّل: أنَّ المراد بالعمل هو العمل القلبيُّ الَّذِي هو التَّصديق، وهو مختار العارف الكبير المحدِّث الكنكوهيِّ والعلَّامة الكشميريِّ.
          والثَّاني: أنَّ المراد به عمل الجوارح، والغرض دفع ما يُتَوهَّم مِنْ مغايرة العمل للإيمان بسبب العطف، واستدلَّ على عدم التَّغاير بآياتٍ أوردها، وأمَّا العطف فمِنْ قَبيل عطف العام على الخاصِّ لمزيد الاهتمام بالخاصِّ، وهو مختار العلَّامة السِّنديِّ، وإليه مال شيخ الهند.
          والثالث أن المراد به أعم من عمل القلب واللسان والجوارح، وهو الذي مال إليه الشراح ومسند الهند الشاه ولي الله الدهلوي، وعلى هذا فغرضه الرد على من أنكر كون العمل من الإيمان كما صرح به القسطلاني وابن بطال والنووي وغيرهم، وهو الغرض أيضا على مختار السندي، والله أعلم.


[1] في (المطبوع): ((الإيمان)).
[2] في (المطبوع): ((السندهي)).
[3] قوله: ((من)) ليس في (المطبوع).