الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب زيادة الإيمان ونقصانه

           ░33▒ (بَاب: زِيَادَة الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ)
          قال الشَّيخ قُدِّس سرُّه في «اللَّامع» أراد بذلك الزِّيادة والنُّقصان بحسب تزايد المؤمنِ به وتناقصه، كما يدلُّ عليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، فإنَّ هذا الإكمال لم يكن إلَّا إكمال الأحكام والشَّرائع وهو حقٌّ لا ريب فيه، وهذا هو المراد بقوله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، وقوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31]، وذلك، لأنَّه كلَّما نزل حكمٌ آمنوا به، فكان في إيمانهم زيادةٌ بحسب زيادة الأحكام، وكذلك يراد بقول المؤلِّف: إنَّه كلَّما ترك شيئًا مِنَ الكمال فهو ناقصٌ، أنَّ الدِّين لمَّا كان كاملًا إذ ذاك كان الإيمان بما دونه ناقصًا، نسبةً إلى ذلك الَّذِي استقرَّ عليه الأمر وقت الإكمال، وإن كان كاملًا في نفسه فلا يلزم نقصان إيمان مَنْ مات منهم قبل إكمالها، والله أعلم.
          وهذا نسبةٌ إلى الإيمان التَّفصيليِّ، فلمَنْ آمن بعد إكمال الشَّرائع مزيَّةٌ على المؤمنين الَّذين ماتوا قبل الإكمال، وأمَّا الإيمان الإجماليُّ: فكلُّهم سواءٌ فيه حيث آمن الأوَّلون بعين ما آمن به الآخرون، نعم لا ينطبق على هذا المعنى للتَّرجمة ما أورد فيه مِنَ الرِّواية، لأنَّه لا يمكن التَّفريق والتَّفاوت بين المؤمنين باعتبار المؤمَنِ به، فكيف يمكن أن يقال في قوله: (أخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِه مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الإيمان)(1) إنَّه تقليلٌ باعتبار قلَّة المؤمَن به؟ وذلك لأنَّ الإيمان بالبعض دون البعض _ممَّا أمرنا أن نؤمن به_ عين الكفر، فلا جواب إلَّا باعتبار التَّفاوت في الأعمال، فيكون حاصل الرِّواية أنَّ المؤمنين بعدما آمنوا بما أُمِروا بالإيمان به يتفاوتون بينهم تفاوتًا كثيرًا، فمنهم مَنْ ليس له مِنَ الخير إلَّا ذرَّةٌ، ومنهم مَنْ له فوق ذلك، فأمَّا إذا عُمِّم في التَّرجمة بحيث يشمل الزِّيادة والنُّقصان بحسب الكيفيَّة والتَّفاوت بحسب المؤمَنِ به فالتَّطبيق بين التَّرجمة والرِّواية سهلٌ، فإنَّ مراتب الكيفيَّات ودرجات التَّصديق متفاوتةٌ، فمنهم مَنْ أشدُّ استيقانًا، ومنهم مَنْ دُون ذلك، إلَّا أنَّ الكلَّ منهم متَّصفون بالإيمان المتوقِّف عليه النَّجاة مِنَ الخلود في النَّار، وهذه المراتب مِنَ الذَّرَّة أو ما فوقها فيما فوق ذلك. انتهى.
          وبسط الكلام على ذلك في «هامشه» وفيه قال الحافظ: تقدَّم قبل بستَّة عشر بابًا (باب: تفاضُل أهل الإيمان في الأعمال) وأورد فيه حديث أبي سعيدٍ الخُدْريِّ بمعنى حديث أنسٍ الَّذِي أورده هاهنا، وتُعقِّب(2) عليه بأنَّه تكرارٌ.
          وأجيب عنه بأنَّ الحديث لمَّا كانت الزِّيادة والنُّقصان فيه باعتبار الأعمال أو باعتبار التَّصديق، ترجم لكلٍّ مِنَ الاحتمالين، وخصَّ حديث أبي سعيدٍ بالأعمال لأنَّ سياقه ليس فيه تفاوتٌ بين الموزونات، بخلاف / حديث أنسٍ ففيه التَّفاوت في الإيمان القائم بالقلب مِنْ وزن الشَّعِيرة والبُرَّة والذَّرَّة.
          قال ابن بطَّالٍ: التَّفاوت في التَّصديق على قدر العِلم والجهل، فمَنْ قلَّ عِلمه كان تصديقه مثلًا بمقدار ذرَّةٍ، والَّذي فوقه في العِلم تصديقه بمقدار بُرَّةٍ أو شَعِيرةٍ، إلَّا أنَّ أصل التَّصديق الحاصل في قلب كلِّ مؤمنٍ لا يجوز عليه النُّقصان، ويجوز عليه الزِّيادةُ بزيادةِ العِلم والمعاينة. انتهى.
          وقال شيخ الهند قُدِّس سرُّه في «تراجمه» ما تعريبه: لقد ذكر المؤلِّف ☼ في التَّرجمة الأولى مِنْ كتاب الإيمان قوله: (يزيد وينقص) ثُمَّ أوضح تفاوت مراتب الإيمان في التَّراجم المتعدِّدة بالعناوين المختلفة، وقد تقدَّم الكلام عليها في مواقعها، والآن هاهنا(3) ترجم أيضًا بالزِّيادة والنُّقصان في الإيمان، ومفهومه أيضًا مفهوم التَّرجمة الأولى، بل إنَّه لم يغيِّر العنوان أيضًا، فهو تكرار التَّرجمة بعينها، لذا أقول: إنَّه قد تقدَّم في الأبواب السَّابقة أنَّ المؤلِّف ☼ أثبت في الباب الأوَّل الزِّيادة والنُّقصان في الإيمان الكامل، يعني: مجموعة التَّصديق والأعمال، وفي هذا الباب يظهر بعد التَّأمُّل الشَّديد أنَّه ثبت(4) بزيادة الشَّرائع والأحكام، يعني الزِّيادة والنُّقصان في الإيمان باعتبار الْمُؤْمَنِ به، ويمكن تصديق ما قلنا إن شاء الله مِنَ التَّعمُّق والخوض في الآيات والأحاديث المذكورة في الباب.
          والحاصل أنَّ نفس الإيمان والأعمال ومجموعهما والمؤمَن به لكلٍّ مِنْ هذه الوجوه أثبت المؤلِّف التَّفاوتَ في الإيمان والزَّيادةَ والنُّقصانَ فيه، في الأبواب المختلفة بالنُّصوص الصَّحيحة، وراعى في ذلك الاحتياط واتِّباع السَّلف، والله تعالى أعلم. انتهى.
          وبسط الكلام في «هامش اللَّامع» على تلك المسألة، وفيه على قول الشَّيخ قُدِّس سرُّه: وأمَّا إذا عمَّم في التَّرجمة... إلى آخره ، وحاصل ما أفاده الشَّيخ أنَّ الزِّيادة في ترجمة الباب نعم(5) زيادة المؤمن به كما هو نصُّ آية الإكمال، وزيادة التَّصديق القلبيِّ كما مال إليه الحافظ تحذُّرًا عن تكرار التَّرجمة، وهذا واضحٌ، وعلى هذا فلا يبقى إشكال تكرار التَّرجمة، ولا إشكال عدم التَّوافق بين التَّرجمة والآية والرِّواية.


[1] الترمذي في الصلاة باب ما جاء أول ما يحاسب به العبد... ، (رقم 413) وقال حديث حسن غريب من هذا الوجه ، وأبو داود في الصلاة باب قول النبي صلعم كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوعه (رقم 864) ومسند أحمد، مسند أبي هريرة ☺، (رقم 9494)
[2] في (المطبوع): ((فتعقب)).
[3] في (المطبوع): ((هنا)).
[4] في (المطبوع): ((أثبت)).
[5] في (المطبوع): ((تعمُّ)).