الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى

           ░41▒ (بَاب: مَا جَاءَ أنَّ الأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ...)
          اختلفوا في غرض التَّرجمة، قال ابن بطَّالٍ: غرض البخاريِّ الرَّدُّ على مَنْ زعم مِنَ المرجئة أنَّ الإيمان هو القول باللِّسان دون عقد القلب، كذا نقله الكرمانيُّ.
          وذكر شيخ الهند ما تعريبه: ذكر المؤلِّف ⌂ بابين بعد الفراغ مِنَ الإيمان والأعمال والاجتناب عن المعاصي، وجملة الأمور المتعلِّقة بالإيمان، والظَّاهر أنَّ غرضه مِنَ الباب الأوَّل أنَّ جملة أعمال الخير المذكورة سابقًا ويدخل فيه الإيمان أيضًا مداره(1) على النِّيَّة الخالصة لوجه الله تعالى، وكذا الاجتناب مِنَ المعاصي وترك المنكرات، المطلوب منه ما كان ابتغاءً لوجه الله، وبدون النِّيَّة الصَّالحة الصَّادقة لا يفيد أيُّ عملٍ ولا يعدُّ مِنَ الطَّاعات، فإنَّ الاهتمام بالنِّيَّة أهمُّ مِنْ كلِّ الأمور، والله أعلم.
          وأفاد الحافظ وتبعه القَسْطَلَّانيُّ وغيره أنَّ كون الإيمان محتاجًا إلى النِّيَّة إنَّما هو على رأي البخاريِّ مِنْ أنَّ الإيمان عملٌ، وأمَّا الإيمان بمعنى التَّصديق فلا يحتاج إلى نيَّةٍ كسائر أعمال القلوب مِنْ خشية الله وعظمته والتَّقرُّب إليه، لأنَّها متميِّزةٌ لله تعالى، فلا تحتاج لنيَّةٍ تميِّزها، إنَّما تميِّزها(2) لأنَّ النِّيَّة إنَّما تميِّز العمل لله تعالى عن العمل لغيره رياءً، وتميِّز مراتب الأعمال كالفرض عن النَّدب وتميِّز العبادة عن العادة كالصَّوم عن الحمية، ويظهر مِنْ كلام العلَّامة السِّنديِّ أنَّ هذا الباب ذكره البخاريُّ استطرادًا، فإنَّه قال: وكأنَّه ذكره هاهنا لتعلُّق النِّيَّة بالقلب الَّذِي هو محلُّ الإيمان. انتهى.
          وفي «اللَّامع» قوله: (إنَّ الأعمال بالنِّيَّة) يعني بذلك ثوابها. انتهى.
          وفي «هامشه»: لله درُّ الشَّيخ ما أجاد في هذه الجملة وملأ بحرًا عميقًا في كوزة، فأشار بالكلمة الواحدة إلى أبحاثٍ طويلة المعنى، [والمعنى] أنَّ الإمام البخاريَّ يريد بهذا الباب أنَّ ثواب الأعمال بالنِّيَّة،كما هو رأي السَّادة الحنفيَّة شكر الله سعيهم فإنَّهم قالوا: إنَّ الثَّواب منوطٌ بحسن النِّيَّة، ولا يثاب الرَّجل على عملٍ بدونه، وهو الَّذِي أراد الإمام البخاريُّ هاهنا، ولذا فسَّر النِّيَّة بالحسْبَة، ولله درُّ الحنفيَّة إذ فرقوا في الأعمال فقالوا: الأعمال الَّتي هي عبادةٌ محضةٌ لا تصحُّ بدون النِّيَّة، لأنَّ الأجر هو المقصود منها، والأعمال الَّتي فيها معنًى آخرُ غير التَّعبُّد تصحُّ بدون النِّيَّة، كالوضوء وغيره، ألا ترى أنَّ الوقف والعتق وغيرهما تصحُّ مِنَ الكافر ولا نيَّة له أصلًا؟
          قال الحافظ: المراد بالحِسْبَة طلب الثَّواب، وأيَّد الإمام البخاريُّ مراده بالآية بقوله: (شَاكِلَته: نِيَّته)، وبقوله صلعم: (نفقة الرَّجل على أهله يحتسبها صدقةً)(3)، ولذا ذكره في التَّرجمة تنبيهًا على مقصده، ثُمَّ ذكره في الرِّوايات حجَّةً وإثباتًا لمرامه، ولا يمكن أن يراد في هذا الباب صحَّة الأعمال، لحديث النَّفقة، أفَتَرى مَنْ أنفق على أهله رياءً وفخرًا فلا(4) تسقط عنه النَّفقة الواجبة؟
          وأمَّا اختلاف العلماء في صحَّة الأعمال على النِّيَّة فبمعزلٍ عن هذا الباب، يشير إليه الإمام البخاريُّ في مواضعها، فإنَّ / الإمام ذكر حديث: (الأعمال بالنِّيَّات) في سبعة مواضعَ مِنْ صحيحه كما تقدَّم ذكرها، فيظهر مِنَ النَّظر على هذه المواضع كلِّها أنَّ المصنِّف يستدلُّ بها تارةً [على] الحسْبَة، وأخرى على صحَّة الأعمال، وأراد هاهنا الحسْبَة. انتهى.
          وإليه أشار الشَّيخ، وقال العينيُّ: المناسبة بين البابين مِنْ حيث إنَّ المذكور في الباب الأوَّل هو الأعمال الَّتي يدخل بها العبد الجنَّة، ولا يكون العمل عملًا إلَّا بالنِّيَّة والإخلاص، فلذا ذكر هذا الباب عقيب الباب المذكور. انتهى.
          والفروع الَّتي أشار إليها البخاريُّ في التَّرجمة خلافيَّةٌ شهيرةٌ بُسطت في محلِّها، وجملتها أنَّ قوله: (والوضوء) أشار به إلى خلاف مَنْ لم يشترط فيه النِّيَّة، كما نُقل عن الأوزاعيِّ وأبي حنيفة والحسن بن صالحٍ، وخالفهم الجمهور، والصَّلاة لا خلاف في اشتراط النِّيَّة فيها والزَّكاة، قال النَّوويُّ في «شرح المهذَّب»: لا يصحُّ أداء الزَّكاة إلَّا بالنِّيَّة في الجملة، وهذا لا خلاف فيه عندنا، وإنَّما الخلاف في صفة النِّيَّة وتفريعها وبوجوبها، قال مالكٌ وأبو حنيفة والثَّوريُّ وأحمد وأبو ثورٍ وجماهير العلماء، وشذَّ عنهم الأوزاعيُّ وقال: لا تجب ويصحُّ أداؤها بلا نيَّةٍ. انتهى.
          والحجُّ لا خلاف في اشتراط النِّيَّة في الحجِّ في الجملة، إلَّا فيمن نوى عن غيره ولم يحجَّ بنفسه يقع عنه، لحديث ابن عبَّاسٍ في قصَّة رجلٍ لبَّى عن شُبْرُمة، أخرجه أصحاب «السُّنن».
          قال ابن رجبٍ: أخذ بذلك الشَّافعيُّ وأحمد في المشهور، أنَّ حَجَّة الإسلام تسقط بنيَّة الحجِّ مطلقًا، سواءٌ نوى التَّطوُّع أو غيره، لا يشترط للحجِّ تعيين النِّيَّة. انتهى.
          والصَّوم أشار به إلى خلاف مَنْ زعم أنَّ صيام رمضان لا يحتاج إلى نيَّةٍ، لأنَّه متميِّزٌ بنفسه، كما نُقل عن زُفَر، كذا في «الفتح».
          والأحكام قال الحافظ: أي: المعاملات الَّتي يدخل فيها الاحتياج إلى(5) المحاكمات فيشمل البيوع والأنكحة والأقارير وغيره وكلُّ صورة لم تشترط فيها النِّيَّة فذاك لدليلٍ خاصٍّ، ثُمَّ ذكر عن ابن المُنَيِّر ضابطًا لما يشترط فيه النِّيَّة ممَّا لا يشترط.


[1] في (المطبوع): ((مدارها)).
[2] قوله: ((إنما تميزها)) ليس في (المطبوع).
[3] حرف العين أي علامة الشعر ويعني: العلم هو طريق الحق وليس الجهل
[4] في (المطبوع): ((أفلا)).
[5] في (المطبوع): ((أي)).