الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله

           ░36▒ (باب: خَوْفِ المُؤْمِنِ مِنْ(1) أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ...)
          قال النَّوويُّ في «شرحه»: فيه ردٌّ على المرجئة في قولهم الباطل: إنَّ الله تعالى لا يعذِّب على شيءٍ مِنَ المعاصي مَنْ قال: لا إله إلَّا الله، ولا يحبط شيئًا مِنْ أعماله، وأنَّ إيمان المطيع والعاصي سواءٌ، وذكر أقوال الصَّحابة والتَّابعين الخائفين عن ذلك(2). انتهى.
          وقال القَسْطَلَّانيُّ: لا يقال: في الباب تقوية لمذهب الإِحْباطيَّة القائلين بإحباط الأعمال بالسَّيِّئات، وحكموا على العاصي بالكفر، لأنَّ مراد المصنِّف إحباط الثَّواب فقط. انتهى.
          بسط الشَّيخ قُدِّس سرُّه على هذا الباب في «اللَّامع» كلامًا طويلًا لا يسعه هذا المختصر، وكذا بسط في «هامشه» في تأييد كلام الشَّيخ، وتوضيح أقوال السَّلف، وجملة ما قال الشَّيخ: أشار المؤلِّف بذلك إلى أنَّ المؤمن ليس مِنْ شأنه أن يأمن على نفسه الحَبَط والكفر، فإنَّ المرء ما دام حيًّا يُخَاف عليه الفتنة، فلا بدَّ له مِنْ دوام المراقبة، ثُمَّ إنَّ للحَبَط مراتب: أدناها ألَّا يقع عمله على أفضل ما ينبغي أن يقع عليه، وأوسطها ألَّا يكون له قَبولٌ، وأعلى مراتب الحَبَط سلب الإيمان والتَّأدية إلى الكفر، وبحسب هذه المراتب يتفاوت الإيمان قوَّةً وضعفًا، وإن لم يكن لأحدٍ مِنَ المؤمنين أمنٌ مِنْ مراتب الحَبَط كلِّها إلَّا أنَّ غالب حاله الكون في مرتبةٍ مِنْ تلك المراتب، وبحسبه يختلف اتِّصافه بالإيمان، وكذلك التَّشبيه بإيمان جبريل لمَّا لم يثبت مِنَ الصَّحابة عِلم أنَّ بين المؤمنين بحسب إيمانهم تفاوتًا، فمِنْ مؤمنٍ إيمانه في أعلى مراتب اليقين، ومنهم دون ذلك، وكذلك الإصرار على الكبيرة لمَّا كان مُفضيًا إلى الكفر وحَبَطِ الأعمال، كان الأبعدُ مِنَ الإصرار أبعدَ مِنَ الكفر وأقوى إيمانًا ممَّن هو أقرب إلى الكفر بإصراره على الكبيرة، والرِّواية الَّتي أوردَها في الباب محمولةٌ على ما وضع عليه التَّرجمة، فكانت التَّرجمة بيانًا لما هو المراد بالكفر في الرِّواية، وإذا خيف على المؤمن حَبَط أعماله بأنواعه الَّتي ذكرت فكان الإصرار على الكبائر مفضيًا إلى الكفر، كان ذلك ردًّا على المرجئة القائلين بأنَّ الإيمان لا يضرُّ معه معصيةٌ، فكأنَّ الباب مقصودٌ له، كما تدلُّ عليه الرِّواية الموردة في الباب. انتهى.
          وقال شيخ الهند في «تراجمه» ما تعريبه: ذكر المؤلِّف ☼ في هذا ترجمتين:
          الأولى: (خَوْفُ الْمُؤمن).
          والثَّانية: (مَا يُحْذَرُ)(3) ذكر(4) لإثبات التَّرجمة الأولى أقوال إبراهيم التَّيميِّ وغيره مِنَ التَّابعين، وللتَّرجمة الثَّانية الآية القرآنيَّة، ثُمَّ أورد روايتين يظهر علاقتهما بالتَّرجمة الثَّانية واضحًا، والظَّاهر أنَّ الغرض مِنَ التَّرجمة الأولى هو أنَّ المؤمن ينبغي له أن يكون خائفًا مِنَ النِّفاق، ومِنَ التَّرجمة الثَّانية المقصود فيه صريحٌ وهو التَّخويف عن المعاصي، والحاصل أنَّه بعد الفراغ مِنْ أجزاء الإيمان ومكمِّلاته أراد بيان المفسدات والمضرَّات الإيمانيَّة / وهي شيئان:
          الأوَّل: النِّفاق.
          والثَّاني: المعاصي مع الإصرار بدون توبةٍ، ولمَّا لم يكن في روايات الباب ذكر الإصرار بغير توبةٍ ذكر الآية في التَّرجمة لإثباته، وحصل إبطال المرجئة أيضًا، والرِّواية الأولى صريحةٌ في ذلك. انتهى.
          وفي «النُّور السَّاري»: المناسبة بين هاتين التَّرجمتين بأنَّ التَّرجمة الأولى فيه أن يخاف المؤمن مِنْ حبطِ الأعمال وليس فيه وجه الحَبَط، ولعلَّ في التَّرجمة الثَّانية بيانَ سبب حَبَطِ الأعمال، ووجهه وهو الإصرار على التَّقاتل والعصيان، ويحتمل أن يُقال: إنَّ التَّرجمة الثَّانية عامٌّ، والأولى فردٌ منها، وإنَّما أفرد الأولى بالذِّكر لاهتمام شأنه، والله أعلم. انتهى.
          قال الحافظ: قوله: (ما يُحَذر) هذه ترجمةٌ أخرى، فَصَل بين التَّرجمتين بآثارٍ لتعَلُّقِها بالأولى فقط، وأمَّا الحديثان:
          فالأوَّل منهما يتعلَّق بالثَّانية.
          والثَّاني بالأولى، ففيه لفٌّ ونشرٌ غير مرتَّبٍ. انتهى.
          قوله: (وهُوَ لا يَشْعُر...) إلى آخره، كأنَّه أشار إلى مسألةٍ خلافيَّةٍ:
          قال النَّوويُّ: المراد بالإحباط: نقصان الإيمان وإبطال بعض العبادات لا الكفر، لأنَّ الرَّجل لا يكفر إلَّا بما يفعل شيئًا عالمًا أنَّه الكفر.
          وردَّ عليه الكرمانيُّ: وقال الجمهور: على أنَّه يكفر بموجب الكفر، وإن لم يعلم أنَّه كفرٌ.
          وقال ابن عابدين: قال في «البحر»: والحاصل أنَّ مَنْ تكلَّم بكلمة الكفر هازلًا أو لاعبًا كفر عند الكلِّ، ولا اعتبار باعتقاده، كما صرَّح به في الخانية، ومَنْ تكلَّم بها اختيارًا جاهلًا بأنَّها كفرٌ ففيه اختلافٌ(5). انتهى.
          قوله: (اِبْن أَبِي مُلَيْكَة...) إلى آخره
          كتب شيخ الهند قُدِّس سرُّه في «تراجمه» ما تَعريبه: وما قال(6) ابن أبي مُلَيْكة: ما منهم أحدٌ يقول: إنَّه على إيمان جبريل وميكائيل، فالمراد منه أنَّ السَّلف لم يُنقل منهم مثل هذه الكلمات، ويخشى منها المغالطة أيضًا، فينبغي الاحتراز عنها، فإنَّ الإمام أبا حنيفة ☼ عندما قال بذيل تحقيق مسألة الإيمان: إيماني كإيمان جبريل، أضاف بعدها: ولا أقول: إيماني مثل إيمان جبريل، فسدَّ بذلك باب المغالطة(7)، والإمام محمَّدٌ ☼ عندما رأى حال النَّاس فأوضح وقال: لا أقول: إيماني كإيمان جبريل بل أقول: آمنت بما آمن به جبريل، ولم يتركوا شيئًا مِنَ الاحتياط إلَّا وأخذوا به، ومَنْ لم يفهم مع ذلك أيضًا فحسيبه الله.
          وانظروا الإمام البخاريَّ نفسه مع احتياطه الكامل في مسألة خلق القرآن كم لاقى مِنْ مخالفيه ومعترضيه، وما ورد في منقبة القرآن الكريم قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة:26]، فقد حصل لهؤلاء الأكابر بسبب الحسَّاد مِنْ هذه المنقبة نصيبهم. انتهى.
          وفي «هامش اللَّامع» قال صاحب «الدُّر المختار» في مسألة الطَّلاق: إنَّ الكاف للتَّشبيه في الذَّات، ومِثْلٌ للتَّشبه(8) في الصِّفات، ولذا قال أبو حنيفة: إيماني كإيمان جبريل لا مثل إيمان جبريل، كذا في «البحر».
          قال ابن عابدين: لزيادته في الصِّفة مِنْ كونه عن مشاهدةٍ، فيحصل به زيادة الاطمئنان، كما أشير إليه في قوله تعالى: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} الآية [البقرة:260] ، وبه يحصل زيادة القرب ورفع المنزلة، لكن ما نُقل عن الإمام هاهنا(9) يخالفه ما في «الخلاصة» مِنْ قوله: قال أبو حنيفة: أكره أن يقول الرَّجل: إيماني كإيمان جبريل، ولكن يقول: آمنت بما آمن به جبريل، وكذا ما قاله أبو حنيفة في «كتاب العالم والمتعلِّم»: إنَّ إيماننا مثل إيمان الملائكة، لأنَّا آمنا بوحدانيَّة الله تعالى وربوبيَّته وقدرته وما جاء مِنْ عند الله تعالى، بمثل ما أقرَّت به الملائكة وصدَّقت به الأنبياء والرُّسل، فمِنْ هاهنا إيماننا مثل إيمانهم، لأنَّا آمنَّا بكلِّ شيءٍ آمنت به الملائكة ممَّا عاينَتْه مِنْ عجائب الله ولم نعاينه نحن، ولهم بعد ذلك علينا فضائل في الثَّواب على الإيمان وجميع العبادات.
          ولا يخفى أنَّ بين هذه العبارات الثَّلاث تخالفًا بحسب الظَّاهر، ويمكن التَّوفيق بحمل الأولى على العالم.
          والثَّانية على غيره، لقوله: أكره أن يقول الرَّجل.
          والثَّالثة على ما إذا فصَّل وصرَّح بالمؤمَن به، وإن كان بلفظ المثليَّة لعدم الإبهام بعد التَّصريح، فيجوز للعالم والجاهل. انتهى.
          وبسط الشَّيخ قُدِّس سرُّه في «اللَّامع» في شرح قول ابن أبي مُلَيْكة فقال: وقيل: هذا ردٌّ على الإمام الهُمَام قدوة الأنام أبي حنيفة النُّعمان ╩ فيما قاله مِنْ أنَّ إيماني / كإيمان جبريل، فإن كان الأمر على ما زعمه صاحب القيل فحسبنا الله ونعم الوكيل، فإنَّ الإمام ╩ لم يَرُم في مقالته هذه شططًا، ولم يركب فيها زيغًا عن المحجَّة ولا غلطًا.
          أمَّا أوَّلًا فلأنَّ المقالة المعزوَّة(10) إليه في بعض التَّصانيف هي هذه: إيماني كإيمان جبريل ولا أقول: مثل إيمان جبريل، وقد عُرف الفرق بينهما، فإنَّ الأوَّل: يقتضي مشاركةً في أيِّ وصفٍ كان.
          والثَّاني: يستدعي المماثلة والمساواة، وعلى هذا فلا ضير في تشبيه إيمانه بإيمانه باعتبار اتِّحاد المؤمَن به فيهما، فإنَّ جبريل مؤمنٌ بعين ما آمن به كلُّ مؤمنٍ، فالإيمان الإجماليُّ يتَّحد منهم أجمعين، وإنَّما الفرق والتَّفاضل بحسب تفاصيله، ولم يشبِّه إيمانه التَّفصيليَّ بإيمانه التَّفصيليِّ.
          وأمَّا ثانيًا فلأنَّ الإيمان متزايدٌ بتزايد مراتب اليقين ومتناقصٌ بتناقصه، وهذا بعد أن يكون داخلًا في الحدِّ المعتبر شرعًا للإيمان، وأمَّا ما دونه: الَّذِي لم يدخل تحت التَّصديق واليقين فلا كلام فيه، وإنَّما الكلام هاهنا في مراتبه، فنقول: إذا كان المناط في قوَّة الإيمان وضعفه هو اليقين، فأيُّ استحالةٍ في بلوغ أحدٍ مِنَ العباد المؤمنين ما بلغه الملائكة مِنَ الإذعان واليقين، والفرق بين عِلم اليقين [وعين اليقين] وإن كان كثيرًا شائعًا إلَّا أنَّه لا منع عن بلوغ بعض درجات عِلم اليقين مِنْ بعضهم، حدًّا ينتهي إليه يقين المشاهدة والعيان مِنَ الآخرين، ويؤيِّده قول عليٍّ ☺ : لو كُشف الغطاء لما ازددت يقينًا، فإن ورد شيءٌ عليه ╩ في مقالته هذه لكان وروده مسلَّمًا على مقالة الإمام أيضًا... إلى آخر ما بسط فيه بستَّة وجوهٍ في توضيح كلام الإمام الأعظم.
          وفي «هامشه» أنَّ الإيراد المذكور على الإمام أبي حنيفة منقولٌ عن بعض مشايخ الدَّرس، ولم يقل أحدٌ مِنَ الشُّرَّاح المعروفين مِنَ النَّوويِّ والكَرْمانيِّ والحافظين ابن حجر والعيني والقَسْطَلَّانيّ وغيرهم إنَّه ردَّ على الإمام أبي حنيفة، ويدلُّ على ذلك أيضًا أنَّ المنقول في كلام الإمام البخاريِّ: إيماني كإيمان جبريل وميكائيل، وليس لفظ ميكائيل في شيءٍ مِنَ الكتب عن الإمام أبي حنيفة، ولا يبعد أن يكون هذا قول أحدٍ مِنْ معاصري الإمام البخاريِّ ☺ .


[1] قوله: ((من)) ليس في (المطبوع).
[2] كما ورد في ترجمة الباب قوله: (وَمَا يُحْذَرُ مِنَ الإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ...)
[3] حاشية ابن عابدين ░4/224▒
[4] في (المطبوع): ((وذكر)).
[5] أخرجه البخاري في الادب المفرد، باب العقل في القلب، (رقم 547) والبيهقي في شعب الإيمان، تعديد نعم الله، فصل في فضل العقل... ، (رقم 4340).
[6] في (المطبوع): ((وأما قول)).
[7] في (المطبوع): ((المغلطة)).
[8] في (المطبوع): ((للتشبيه)).
[9] في (المطبوع): ((هنا)).
[10] في (المطبوع): ((المعزية)).