الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب من قضي له بحق أخيه فلا يأخذه

          ░29▒ (باب: مَنْ قُضِيَ لَه بِحَقِّ أَخِيهِ...)
          قالَ الحافظُ: أي: خصمه فهي أخوَّة بالمعنى الأعم وهو الجنس، لأنَّ المسلم والذِّمِّيَّ والمعاهَد والمرتدَّ في هذا الحكم سواء. انتهى.
          قلت: وفي حديث الباب مسألة خلافيَّة شهيرة وهي نفاذ قضاء القاضي ظاهرًا وباطنًا.
          قالَ الحافظُ: والحديث حجَّة لمن أثبت أنه قد يحكم بالشَّيء في الظَّاهر، ويكون الأمر في الباطن بخلافه، ولا مانع مِنْ ذلك إذ لا يلزم منه محالٌ عقلًا ولا نقلًا... إلى آخر ما ذكر.
          وفي «هامش اللَّامع»: قالَ الزَّرقانيُّ تحت قوله صلعم: (إنَّما أقطع له قطعةً مِنَ النَّار): فيه دلالة قويَّة لمذهب الأئمَّة الثَّلاثة والجمهور أن الحكم فيما باطنُ الأمر فيه بخلاف الظَّاهر لا يُحِلُّ الحرامَ ولا عكسه، فإذا شهد شاهدٌ زُورًا(1) لأنَّسان بمال فحكم به القاضي لظاهر العدالة لم يحلَّ له ذلك المال، وقال أبو حنيفة بحلِّ الحرام في العقود كنكاح وطلاق وبيع وشراء، فإذا ادَّعَت امرأة على رجل أنَّه تزوجها وأقامت شاهدَي زورٍ حلَّ له وطؤها. انتهى.
          وفي «المُحَلَّى»: احتجَّ له بعضهم لِما جاء عن عليٍّ ☺ أنَّ رجلًا خطب امرأةً فأبت فادَّعى أنَّه تزوَّجها وأقام شاهدين فقالت المرأة: أنهما(2) شهدا بالزُّور فزوِّجني أنت منه، فقال: شاهداك زَوَّجاك، وأمضى عليهم النِّكاح، وتُعُقِّب بأنَّه لم يثبت. انتهى.
          قلت: وحديث الباب ليس بواردٍ على الحنفيَّة فإنَّه وارد في الأموال دون العقود والفسوخ، والحنفيَّة قالوا بنفاذه ظاهرًا وباطنًا في الإنشاءات والعقود، لا في الأملاك المرسلة. انتهى مِنْ «هامش اللَّامع» بزيادة.
          وبسط الحافظ الكلام على هذه المسألة هاهنا وعلى دلائل الفريقين.
          ثم ذكر المصنِّف في هذا الباب حديثين، فمطابقة الأوَّل منهما بالتَّرجمة ظاهرة.
          وأمَّا مطابقة الحديث الثَّاني فقالَ العينيُّ: وجه إيراد هذا الحديث أنَّ الحكم بحسب الظَّاهر، ولو كان في نفس الأمر خلاف ذلك، فإنَّه ╧ حكم في ابن وليدةِ زمعةَ بحسب الظَّاهر، وإن كان في نفس الأمر ليس مِنْ زمعة، ولا يُسمَّى ذلك خطأ في الاجتهاد، فيدخل هذا في معنى التَّرجمة، وهكذا يوجد في كلام الحافظ وتبعه القَسْطَلَّانيُّ أيضًا.
          وأمَّا الشَّيخ قُدِّس سرُّه فإنَّه وإن ذكر مطابقة الحديث بالتَّرجمة على هذه الوتيرة لكن بعكس ما قال الشُّرَّاح حيث قال: ودلالة الرِّواية الثَّانية على التَّرجمة باعتبار أنَّ النَّبيَّ صلعم لو قضى بالولد لأخي عتبة بحسب ما يظهر له مِنْ حجَّة_وهي مشابهته به_ هي خلاف الواقع، لم يثبت نسب ولده منه بحسب نفس الأمر، ولم يكن ابنه في الواقع، فإن الولد للفراش لا غيرُ. انتهى.
          فللَّه درُّ الشَّيخ قُدِّس سرُّه، فإنَّه جعل حكمه صلعم بإلحاق الولد لزمعة موافقًا لِما في نفس الأمر، ومطابقًا للواقع بخلاف الشُّرَّاح فإنَّهم جعلوا هذا الحكم موافقًا للظَّاهر دون الواقع، ففي صنيع الشَّيخ قُدِّس سرُّه مِنْ حُسنِ التَّأدُّب ما ليس في صنيعهم. /


[1] في (المطبوع): ((شهد شاهدا زور)).
[2] في (المطبوع): ((إنهما)).