الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب: الحاكم يحكم بالقتل على من وجب عليه دون الإمام الذي فوقه

          ░12▒ (باب: الحاكم يحكُمُ بالقَتل على مَنْ وَجَب عَلَيْه دُونَ الإِمَام الَّذِي فَوْقَه)
          أي: الَّذِي ولَّاه مِنْ غير احتياج إلى استئذانه في خصوص ذلك، قاله الحافظ.
          وفي «الفيض»: يعني أنَّ القضاء بالقصاص لا يختصُّ بالحاكم الأعلى، بل يقضي به مَنْ كان تحته مِنَ الحُكَّام أيضًا. انتهى.
          ويظهر مِنْ كلام الشُّرَّاح أنَّ الغرض مِنَ التَّرجمةِ الرَّدُّ على مَنْ زعم أنَّ الحدود لا يقيمها عمَّال البلاد إلَّا بعد مشاورة الإمام الَّذِي ولَّاهم، كما في «الفتح» وغيره.
          قالَ الحافظُ: قالَ ابنُ بطَّالٍ: اختلف العلماء في هذا الباب، فذهب الكوفيُّون إلى أنَّ القاضي حكمُه حكمُ الوكيل لا يطلق يده إلَّا فيما أذن له فيه، وحكمه عند غيرهم حكم الوصيِّ، له التَّصرُّف في كلِّ شيءٍ، ويطلق يده على النَّظر في جميع الأشياء إلَّا ما استُثني. انتهى.
          ونقل الطَّحاويُّ عنهم أنَّ الحدود ولا(1) يقيمها إلَّا أمراء الأمصار، ولا يقيمها عامل السَّواد ولا نحوه، ونقل ابن القاسم: لا تقام الحدود في المياه بل تجلب إلى الأمصار، ولا يقام القصاص في القتل في مصر كلِّها إلَّا بالفسطاط، يعني: لكونها منزل متولِّي مصر، وقال أشهب: بل مَنْ فوَّض له الوالي ذلك مِنْ عمَّال المياه جاز له أن يفعله، وعن الشَّافعيِّ نحوه، قالَ ابنُ بطَّالٍ: والحجَّة في الجواز حديث معاذ، فإنَّه قتل المرتدَّ دون أن يرفع أمره إلى النَّبيِّ صلعم. انتهى مِنَ «الفتح».
          قلت: وحاصل المقام أنَّه يجوز عندنا الحنفيَّة لأمير البلد إقامةُ الحدِّ، صرَّح به صاحب «البدائع» إذ قال: وللإمام أن يستخلف على إقامة الحدود، لأنَّه لا يقدر على استيفاء الجميع بنفسه، فلو لم يجز الاستخلاف لتعطَّلت الحدود، ثمَّ الاستخلاف نوعان: تنصيص وتولية، أمَّا التَّنصيص فهو أن ينصَّ على إقامة الحدود، فيجوز للخليفة إقامتها بلا شكٍّ، وأمَّا التَّولية فعلى ضربين: عامَّة وخاصَّة، فالعامَّة هي أن يولِّي رجلًا ولاية عامَّة، مثل إمارة إقليم أو بلد عظيم، فيملك المولى إقامة الحدود وإن لم ينصَّ عليها، والخاصَّة هي(2) أن يولِّي رجلًا ولايةً عامَّة(3) مثل جباية الخراج ونحو ذلك، فلا يملك إقامة الحدود، لأنَّ هذه التَّولية لم تتناول إقامة الحدود. انتهى ملخَّصًا.
          فحديث معاذ في قتل المرتدِّ لا يخالف الحنفيَّة، / لأنَّ أبا موسى ومعاذًا كانا أميرين على اليمن، وهو بلد عظيم، لذا(4) قالَ النَّوويُّ في «شرح مسلم» تحت حديث معاذ هذا: قال القاضي عياض: وفيه أنَّ لأمراء الأمصار إقامةَ الحدود في القتل وغيره، وهو مذهب مالك والشَّافعيِّ وأبي حنيفة والعلماء كافَّة... إلى آخر ما قال.
          وأمَّا عمال السَّواد والمياه فيجوز لهم إقامة الحدِّ عند الشَّافعيِّ، ورواية عن مالك كما تقدَّم في كلام الحافظ، ولا يجوز لهم إقامة الحدِّ عندنا الحنفيَّة كما تقدَّم النَّقل بذلك عن الطَّحاويِّ، فاستدلال [بعض شرَّاح البخاريِّ مثل الحافظ وتبعه القَسْطَلَّانيُّ على أنَّه يجوز لعمَّال السَّواد إقامة الحدود، فهذا الاستدلال] كما ترى ليس في محلِّه، وأيضًا فإنَّ حديث الباب في قتل المرتدِّ، وأحكام المرتدِّ يغاير أحكام الحدود، فإنَّ قتل المرتدِّ عندنا أيضًا غيرُ مفوَّض إلى الإمام، كما في «حاشية ابن عابدين» بخلاف إقامة حدِّ الرَّجم فإنَّه مفوَّض إليه أو إلى نائبه، فتدبَّرْ وتشكَّر، فهذا غاية توضيح للمقام.
          وفي الحديث الأوَّل قد استُشكلت مطابقة الحديث للتَّرجمة، فأشار الكرمانيُّ إلى أنَّها تؤخذ مِنْ قولِه: (دون الحاكم) لأنَّ معناه: (عند) وهذا جيِّد إن ساعدتْه اللُّغة، وعلى هذا فكأنَّ قيسًا كان مِنْ وظيفته أن يفعل ذلك بحضرة النَّبيِّ صلعم بأمره، سواء كان خاصًّا أم عامًّا. قالَ الكَرْمانيُّ: ويحتمل أن تكون (دون) بمعنى (غير) قال: وهو الَّذِي يحتمله الحديث الثَّاني لا غيرُ، قلت: فيلزم أن يكون استعمل في التَّرجمة (دون) في معنيين. انتهى.
          وقالَ العلَّامةُ السِّنْديُّ: ذكر فيه ثلاثة أحاديث: فالأوَّل والثَّاني إمَّا لمجرَّد نصب الإمام الحاكم، لأنَّ ترجمة الباب تتوقَّف عليه. والثَّالث لإفادة حكم ذلك الحاكم بالقتل، أو الأوَّلان لإفادة التَّرجمة أيضًا نظرًا إلى العادة حيث إنَّ نصب الحاكم عادة لا يخلو عن حكمِه بالقتل، والله أعلم. انتهى.


[1] في (المطبوع): ((لا)) بلا واو.
[2] قوله: ((هي)) ليس في (المطبوع).
[3] في (المطبوع): ((خاصةً)).
[4] في (المطبوع): ((ولذا)).