التلقيح لفهم قارئ الصحيح

حديث: إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض

          4313- قوله: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ): قال الجيَّانيُّ: (وقال _يعني: البُخاريَّ_ في «باب مقام النَّبيِّ صلعم بمَكَّة»: «حدَّثنا إسحاق: حدَّثنا أبو عاصم»، فذكر هذا المكان، وقال في «التوحيد»: «حدَّثنا إسحاق: حدَّثنا أبو عاصم، عن ابن جُرَيج، عن ابن شهاب» [خ¦7527]، نسبه الحاكم: إسحاق ابن نصر، وذكر أبو نصر في كتابه: أنَّ البُخاريَّ يروي عن إسحاق غير منسوب عن أبي عاصم النَّبيل، ولم يزد على هذا، وقد حدَّث مسلم عن إسحاق بن منصور عن أبي عاصم النَّبيل في مواضع من كتابه، وهو به أشبه، والله أعلم)، انتهى، ولم ينسبه المِزِّيُّ ولا شيخنا.
          تنبيهٌ: حديث مجاهد هذا هو هنا مرسلٌ؛ لأنَّه تابعيٌّ، وقد أسند مثله _أو نحوه_ عن ابن جُرَيج، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس بمثل هذا، أو نحو هذا، و(ابْنُ جُرَيْجٍ): هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جُرَيج، و(عَبْدُ الْكَرِيمِ): هو ابن مالك الجزريُّ، أبو سعيد، عن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى، وسعيد بن المُسَيَّـِب، وعنه: مالك، وابن عيينة، وكان حافظًا، من العلماء الثقات، وله ترجمة في «الميزان»، أخرج له الجماعة، وتُوُفِّيَ سنة ░127هـ▒، و(عِكْرِمَةُ): هو مولى ابن عباس، تَقَدَّم أنَّه ثبت، لكنَّه إباضيٌّ يرى السيف، ويحايده مالك إلَّا في حديث أو حديثين، روى له الجماعة، لكنْ مسلمٌ مقرون، تَقَدَّم [خ¦309].
          قوله: (حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ): تَقَدَّم أنَّه النَّبيل، وتَقَدَّم أنَّ اسمه الضحَّاك بن مخلد [خ¦3/6-114]، و(ابن جُرَيج): تَقَدَّم أعلاه أنَّه عبد الملك بن عبد العزيز بن جُرَيج.
          قوله: (إِنَّ اللهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ): تَقَدَّم الجمع بينه وبين «أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ» [خ¦2129]. /
          قوله: (قَطُّ: تَقَدَّم الكلام عليها بما فيها(1) من اللغات [خ¦7]، وكذا على قوله: (إِلَّا سَاعَةً مِنَ الدَّهْرِ)، وكذا (يُعْضَدُ شَوْكُهَا)، و(يُعضَد): مَبنيٌّ لِما لم يُسَمَّ فاعِلُهُ، و(شوكُها): مرفوع نائبٌ مَنَابَ الفاعل، وكذا تَقَدَّم الكلام على (المُنْشِد)؛ وهو المعرِّف، وتَقَدَّم الكلام على (الإِذْخِرَ) غيرَ مرَّةٍ، وأنَّه نبتٌ طيِّب الرائحة، وعلى (القَيْنِ)، وأنَّه الحدَّاد، ويطلق أيضًا على الصائغ [خ¦1349].
          قوله: (وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ): تَقَدَّم قُبَيْلَ هذا الكلام عليه وعلى رجاله؛ فانظره، والذي ظهر لي: أنَّ هذا معطوف على الحديث الذي قبله، فروى هذا البُخاريُّ عن إسحاق، عن أبي عاصم، عن ابن جُرَيج به، والله أعلم.
          تنبيهٌ: مَكَّة _شرَّفها الله تعالى_ هل فُتَحت صُلحًا أو عَنوة؟ فالشافعيُّ يرى: أنَّها صُلحًا لا عَنوة، فلذلك كان يُجيز كِراءها لأربابها، وأبو حنيفة وأكثرُ أهل العلم خالفوا في ذلك، وقِيلَ: إنَّ أعلاها فُتِح صُلحًا وأسفلَها عَنوة، قال السهيليُّ في (غزوة خيبر) ما لفظه: (وكانت الشام كلُّها عَنوة إلَّا مدائنها، فإنَّ أهلها صَالحوا عليها، وكذلك بيت المقدس، فتحها عمر ☺ صُلحًا بعد أن وجَّه إليها خالد بن ثابت الفهميَّ، فطلبوا منه الصُّلح، فكتب بذلك إلى عمر وهو بالجابية، فقدِمها، وقَبِل صُلح أهلها، وأرضُ السوادِ كلُّها عَنوة إلَّا الحيرة، فإنَّ خالد بن الوليد ☺ صالَح أهلَها، وكذلك أهلُ بانِقيا أيضًا صُلح، وأخرى يقال لها: أُليِّس(2)، وأرض خُراسان عَنوة إلَّا تِرْمِذ، فإنَّها قلعة منيعة، وقلاع سواها، وأمَّا أرض مصر؛ فكان الليث بنُ سعد اقتنى بها مالًا، وعابَ ذلك عليه جماعة؛ منهم: يحيى بن أيوب ومالك بن أنس؛ لأنَّ أرضَ العنوة لا تُشْتَرى، وكان الليث يروي عن يزيد بن أبي حبيب: أنَّها فتحت صُلحًا)، قال السهيليُّ: (وكلا الخبرين حقٌّ؛ لأنَّها فُتحَت صُلحًا أوَّل، ثُمَّ انتكثت بعدُ وأُخِذَت عَنوة، فمن ههنا نشأ الخلاف في أمرها، قاله أبو عبيد، وذكر في (غزوة الفتح) الخلاف في مَكَّة، هل فُتحَت عَنوة أو صُلحًا؟ وفي آخر الكلام: (فلا عليكَ بعد هذا فُتحَت عَنوةً أو صُلحًا وإنْ كانت ظواهرُ الأحاديث أنَّها فُتحَت عَنوة)، انتهى.
          ورأيت عن العلَّامة الصالح بدر الدين ابن جماعة في كتابه «تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام» قال: (وأمَّا مصر؛ ففُتحَت صُلحًا، وقِيلَ: عَنوة، وقِيل: بعضُها صُلحًا، وبعضُها عَنوة، والأصحُّ أنَّها فُتحَت مرَّتين؛ الأولى صُلحًا، ثُمَّ نكثوا، ففتحها عَمرو ثانيًا عَنوة، والحكم للعنوة، وأمَّا الشَّام؛ ففُتحَت أراضيه عَنوة، وأمَّا مُدُنُه؛ فبيت المقدس، ونابلس، والأُردنّ، وفلسطين، وبُصرى، وأجنادين؛ فُتحَت صُلحًا، وأمَّا حلب وقِنَّسرين؛ ففُتحَت عَنوة)، انتهى، وسيأتي ما يخالفه، وهو الظَّاهر؛ لأنَّ فيها كنائس لليهود ثلاثًا، فواحدة ثبت أنَّها إسلامِيَّة، فأُخِذَتْ منهم في سنة بضع وعشرين وسبع مئة، واسمها اليوم الناصريَّة، وهي مسجد، وتُقام فيها خطبة، وأخرى بقرب حوض إسماعيل بن الفاكهانيِّ، وكنيسة كبرى بحارتهم، والتي عند حوض إسماعيل خربت في فتنة تَمرْلَنك، وللنَّصارى كان فيها ستُّ كنائس، والباقي لهم اليوم واحدة فقط، قال: (وأمَّا دمشق؛ فدخلها أبو عبيدة من باب الجابية صُلحًا، ودخلها خالد من الباب الشرقيِّ عَنوة، والتقوا في وسط البلد، فكان الفتح لأبي عبيدة؛ لأنَّه أمير الجماعة)، انتهى.
          وفي كلام صاحبنا الإمام الفقيه شرف الدين عيسى الغزِّيِّ الشافعيِّ عن أحمد ابن حنبل قال: (فُتحَت الشَّام عَنوة إلَّا حمص وموضعًا آخر، وقال أبو عبيد: «أرض الشَّام عَنوة إلَّا مدنها، فإنَّها فتحت عَنوة(3)، انتهى، وأحد الموضعين غلطٌ لا شكَّ فيه، وينبغي أن يكون الثاني هو الغلط؛ أعني: في المدن؛ ليتَّفق مع كلام السهيليِّ، والله أعلم.
          ورأيت في «تاريخ حلب» للإمام الحافظ الرئيس الصَّاحب كمال الدين ابن العديم: أنَّ منبجًا افتُتِحَت صُلحًا، صالح عليها عَمرو بن العاصي، وهو مِن قبل أبي عبيدة، وقِيل: إنَّ عياض بن غنم فتحها صُلحًا على صُلح حلب، وقال فيه أيضًا: وأعمال قِنَّسرين كلُّها ومدينة حلب فُتِحَت صُلحًا، وذَكر فيه أنَّ أنطاكية فُتحَت صُلحًا، فَتحها أبو عبيدة، وقد قدَّمتُ في خيبر هل فُتحَت(4) كلُّها عَنوة أو صُلحًا، أو جلا أهلُها بغير قتال، أو بعضها صُلحًا، وبعضها عَنوة، وبعضها جلا أهلُها رعبًا؟ [خ¦4249] قال مغلطاي: (وعلى ذلك تدلُّ السنن الواردة)، انتهى.


[1] في (أ): (فيه).
[2] كذا ضبطها بالقلم في (أ)، وفي «معجم البلدان» ░1/248▒ قال: (مصغر بوزن فُليس والسين مهملة، قال محمود وغيره: إِلِّيس بوزن سِكِّيت، الموضع الذي كانت فيه الوقعة بين المسلمين والفرس في أول أرض العراق من ناحية البادية، وفي كتاب «الفتوح»: أليس قرية من قرى الأنبار ذكرها في غزوة أليس الآخرة)، وضبطها صاحب «القاموس» مادّة (ألس): (أُلَّيس كقُبَّيط، قرية بالأنبار) ولعل هذا هو الصواب، والنسبة إليها: أُلَّيْسيُّ.
[3] كذا في (أ)، وسيأتي تنبيه المصنِّف على غلطه، وفي المطبوع من «الأموال» (ص360▒: (صلحًا).
[4] زيد في (أ): (خيبر هل)، ولعلَّ حذفها هو الصَّواب.