التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب غزوة خيبر

          (بابُ غَزْوَةِ خَيْبَرَ)... إلى (بابُ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ)
          (خَيْبَر): بلدٌ معروفٌ على نحوِ أربعِ مراحل من المدينةِ إلى جهة الشَّام، ذاتُ نخيلٍ ومزارع، ذكر الحازميُّ في «المؤتلف والمختلف»: أنَّ أراضي خيبر يقال لها: خَيابر؛ بفتح الخاء، وذكر البكريُّ: أنَّها سُمِّيَت برجل من العماليق نزلها؛ وهو خيبر بن قانية بن مهلائيل، انتهى، وخيبر حصون: النَّطَاة، وحصن الصَّعْب، وحصن ناعم، وحصن قلعة الزُّبَير والشِّـَق، وحصن أُبيٍّ، وحصن البراء، والقَمُوص، والوَطيح، والسُّلالم، ويقال: السُّلاليم.
          قال ابن إسحاق: (وأقام رسول الله صلعم بعد رجوعه من الحُدَيْبيَة ذا الحجَّة وبعضَ المحرَّم، وخرج في بقيَّةٍ منه عازمًا إلى خيبر)، ولم يبقَ من السَّنة السَّادسة من الهجرة إلَّا شهرٌ وأيام، وقال ابن عُقبة: (لمَّا قدم رسولُ الله صلعم المدينة مُنْصَرَفَه من الحُدَيْبيَة؛ مكث عشرين يومًا أو قريبًا منها، ثمَّ خرج غازيًا إلى خيبر)، وقال غيرهما: (فتحها رسولُ الله صلعم في أوائل سنة سبع، أقام ◙ على حصارِهم بضع عشرة ليلة)، وقد جعلها غير واحد من العلماء في السنة السابعة، وقد قدَّمتُ كلام ابن قيِّم الجوزيَّة في أوائل هذا التعليق [خ¦209]؛ وهو أنَّ مالكًا قال: افتتحها في السنة السادسة، والجمهور على أنَّها في السابعة، وقطع أبو محمَّد ابن حزم بأنَّها كانت في السادسة بلا شكٍّ، قال ابن القيِّم: (ولعلَّ الخلاف مبنيٌّ على أوَّل التأريخ؛ هل هو من شهر ربيع الأوَّل شهر مَقْدَمِه المدينةَ، أو من أوَّل المحرَّم من أوَّل السنة؟ وللناس طريقان، والجمهور على أنَّ أوَّل التأريخ وقع من المحرَّم، وأبو محمَّد ابن حزم يرى أنَّه في شهر ربيع الأوَّل حين قدم، انتهى.
          تنبيهٌ: ذكرتُ اختلافًا في أوَّل التأريخ قُبيل (المغازي)؛ فانظره [خ¦3934].
          تنبيهٌ آخر: ذكر أبو نصر عبد الوهَّاب الإمام ابن العلَّامة تقيِّ الدين عليِّ بن عبد الكافي السُّبكيِّ الشافعيِّ في «طبقاته» في ترجمة الشيخ أبي حامد الإسفرايينيِّ _واسمه أحمد بن محمَّد بن أحمد_: (أنَّه حكى في «التعليقة» له: «أنَّ غزوة خيبر كانت سنة خمس»)، قال أبو نصر السُّبكيُّ: (وهو غريب)، وهو _كما ذكر_ غريبٌ، ويتمشَّى على قولٍ غريبٍ في ابتداء التأريخ ذكرتُه قُبَيلَ (المغازي)؛ فانظره [خ¦3934]، والله أعلم.
          تنبيهٌ آخر وكان من حقِّه أن يُذكَر في (الجزية)، ولكنِّي أخَّرته هنا؛ لسرعة الكشف عنه: وهو أنَّ بعض اليهود أظهر كتابًا بإسقاط النَّبيِّ صلعم الجزية عن الخيابرة، وفيه شهادة الصَّحابة، فعرضه الوزير على الحافظ أبي بكر الخطيب البغداديِّ، فقال: هذا مزوَّر، فقيل له: من أين قلت هذا؟ قال: لأنَّ فيه شهادةَ معاوية، وهو إنَّما أسلم عام الفتح، وفيه شهادة سعد بن مُعاذ، وقد مات قبل خيبر بسنتين.
          وقد قال ابن قيِّم الجوزيَّة في كتاب «الهَدْي»: (ولمَّا كان في بعض الدول التي خَفيَت فيها السُّنة وأعلامها؛ أظهر منهم طائفة _يعني: من أهل خيبر_ كتابًا قد عتَّقوه، وفيه شهادة عليِّ بن أبي طالب، وسعد بن مُعاذ، وجماعة من الصَّحابة، / أ فَراج ذلك على مَنْ جَهِل سنَّة رسول الله صلعم ومغازيه وسِيَرِه، وتوهَّموا بل ظنُّوا صِحَّته، فأُجيزوا على حكم هذا الكتاب المزوَّر، حتَّى أُلقِيَ إلى شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه وطُلِب منه أن يُعين على تنفيذه والعملِ به، فبصق عليه، واستدلَّ على كذبه بعشرة أوجه؛ منها: أنَّ فيه شهادةَ سعد بن معاذ، وسعدٌ تُوُفِّيَ قبل خيبر قطعًا، ومنها: أنَّ في الكتاب أنَّه أَسقط عنهم الجزية، والجزية لم تكن نزلت بعدُ، ولا يعرفها الصَّحابة حينئذٍ، فإنَّ نزولها كان عام تبوك، بعد خيبر بثلاثة أعوام، ومنها: أنَّه أسقط عنهم الكُلَف والسُّخَر، وهذا محال، فلم تكن في زمانه كُلَف ولا سُخَر تُؤخَذُ منهم، ولا مِن غيرهم، وقد أعاذه الله وأعاذ أصحابه من أخذ الكُلَف والسُّخَر، وإنَّما هي مِن وضع الملوك الظَّلمة، واستمرَّ الأمر عليها، ومنها: أنَّ هذا الكتاب لم يذكره أحد من أهل العلم على اختلاف أصنافِهم، فلم يذكره أحد من أهل المغازي والسِّيَر، ولا أحد من أهل الحديث والسُّنَّة، ولا أحد مِن أهل الفقه والإفتاء، ولا أحد مِن أهل التفسير، ولا أظهروه في زمان السَّلف؛ لعِلمِهم بأنَّهم إن زوَّروا مثل ذلك؛ عرفوا كذبَه وبُطلانَه، فلمَّا استرقُّوا(1) بعضَ الدول في وقت فتنة وخفاء بعض السُّنَّة؛ زوَّروا ذلك وعتَّقوه وأظهروه، وساعدهم على ذلك بعض الخائنين لله ورسوله، ولم يستمرَّ لهم حتَّى كشف الله أمره، وبيَّن خلفاء الرسل بطلانَه وكَذِبَه)، انتهى.
          وقال قبل ذلك: (ولم يأخذها _يعني: الجزية_ من يهود خيبر، فظنَّ بعض الغالطين المخطئين أنَّ هذا حكمٌ مختصٌّ بأهل خيبر، وأنَّه لا تُؤخَذ منهم جزية وإن أُخذَت مِن سائر أهل الكتاب، وهذا مِن عدم فقهه في السِّيَر والمغازي، فإنَّ رسولَ الله صلعم قاتلهم، وصالحهم على أن يُقرَّهم في الأرض ما شاء، ولم تكن الجزية نزلت بعدُ، فسَبَقَ عقدُ صُلْحِهِم وإقرارِهم في أرض خيبر نزولَ الجزية، ثمَّ أمر الله سبحانه أن يُقاتَل أهل الكتاب حتَّى يُعطوا الجزية، فلم يدخل في هذا يهود خيبر إذ ذاك؛ لأنَّ العقد كان قد تمَّ بينه وبينهم على إقرارهم، وأن يكونوا عمَّالًا في الأرض بالشَّطر، فلم يطالبهم بشيء غيرَ ذلك، وطالب مَن سواهم مِن أهل الكتاب ممَّن لم يكن بينه وبينهم عقدٌ كعقدهم بالجزية؛ كنصارى نَجْران، ويهود اليمن، وغيرِهم، فلمَّا أجلاهم عُمر إلى الشام؛ تغيَّر ذلك العقد الذي تضمَّن إقرارَهم في أرض خيبر، وصار لهم حكمُ غيرهم من أهل الكتاب)، انتهى، وهذا بمكان حسن، فلا تضجر من طوله، والله أعلم.


[1] كذا في (أ)، وفي المطبوع من مصدره: (استخفُّوا).