التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب غزوة ذات القرد

          قوله: (بابُ غَزْوَةِ ذَاتِ قَرَدِ(1)): (قَرَد)؛ بفتح القاف والراء، وحكى السهيليُّ عن أبي عليٍّ الضمَّ فيهما، قال شيخنا: (وربَّما وجد مضبوطًا بضمِّ القاف وفتح الراء)، انتهى، وهو ماء على ليلتين من المدينة، بينها وبين خيبر، ويقال: ذو القرد، وقال بعض الحُفَّاظ: (ذو قرد، على نحو يوم من المدينة)، وقال مغلطاي في «سيرته الصغرى»: (على بَريد من المدينة)، وقد تَقَدَّم [خ¦56/166-4756]، وسأذكر تاريخها قريبًا.
          قوله: (وَهيَ الْغَزْوَةُ الَّتِي أَغَارُوا عَلَى لِقَاحِ النَّبِيِّ صلعم قَبْلَ خَيْبَرَ بِثَلَاثٍ) انتهى: كانت هذه اللِّقاح عشرين، اعلم أنَّ غزوة ذي قرد في شهر ربيع الأوَّل سنة ستٍّ من الهجرة عند ابن سعد، وأنَّ عيينة أغار على لِقاحه ◙ في ليلة الأربعاء في أربعين فارسًا، انتهى، وقال ابن إسحاق: (ثُمَّ قدم رسولُ الله صلعم المدينة)؛ يعني: من غزوة بني لَـِحيان، وقد أرَّخ ابن إسحاق غزوة بني لَـِحيان بجمادى الأولى، على رأس ستَّة أشهر من فتح قريظة، وأرَّخها ابن سعد بغرَّة شهر ربيع الأوَّل سنة ستٍّ، قال ابن إسحاق: (ثُمَّ قدم رسولُ الله صلعم المدينة، فلم يُقم بها إلَّا لياليَ قلائلَ حتَّى أغار عيينة بن حِصن بن حذيفة بن بدر الفزاريُّ، في خيلٍ لغطفان على لِقاح رسول الله صلعم)، انتهى.
          وفي «البُخاريِّ» ما رأيتَه، وفي «مسلم» في حديث سلمة ابن الأكوع الطويل في قصَّة ذي قرد، وفيه قصَّة بيعة الحديبية، وفي آخره: (فوالله ما لبثنا ثلاث ليال حتَّى خرجنا إلى خيبر)، وفيهما نظرٌ؛ لإجماع أهل السير على خلافهما، وقال بعضُهم في قوله ذلك: (قبل خيبر بثلاث): قيل: صوابه بسنةٍ، انتهى، ونحوُه بين الأسطر في أصلنا، ولفظه: (صوابه: قبل خيبر بسنة)؛ انتهت، وعليها شيءٌ يشبه أن يكون أُخِذت من كلام الحافظ الدِّمياطيِّ، وقد راجعت كلام شيخنا الشارح في ذلك فرأيته قال: (وقوله: «قبل خيبر بثلاث» ممَّا غُلِّط فيه، وأنَّه قبلها بسنة، فإنَّها في جمادى الآخرة سنة سبع؛ أعني: خيبر)، ثُمَّ ذكر حديث سلمة في «مسلم»، وفيه ما قد ذكرته لك قريبًا، ثُمَّ قال: (لكنَّ أهل السير على خلافه، قال: وادَّعى القرطبيُّ أنَّ بعدها بني المُصْطَلِق في شعبان، ثُمَّ عمرة الحديبية في ذي القعدة، ثُمَّ رجع إلى المدينة، فأقام بها ذا الحجَّة وبعض المحرَّم، وخرج في بقيَّته إلى خيبر، كما صرَّح به أبو عمر وغيرُه، ولا يكادون يختلفون في ذلك، ونُسِب ما وقع في الحديث إلى وهم من بعض الرواة؛ ويحتمل أن يكون أغزى سريَّةً فيهم سلمةُ إلى خيبر قبل فتحها، فأخبر سلمةُ عن نفسه وعمَّن خرج معهم، يبيِّن ذلك أنَّ ابن إسحاق(2) ذكر أنَّه ◙ أغزى إليها عبدَ الله ابن رواحة قبل فتحها مرَّتين، وروى يونس ابن بُكير عن ابن إسحاق: أنَّ غزوة بني لحيان كانت في شعبان سنة ستٍّ، وأنَّه ◙ لمَّا رجع منها إلى المدينة؛ لم يقم إلَّا لياليَ حتَّى أغار عيينة على لِقاح رسول الله صلعم في أربعين فارسًا قبل قصَّة عيينة بستَّة أشهر، ولمَّا ذكر الحاكم غزوة ذي قَرَد؛ قال: «هذه الغزوة الثالثة لذي قَرَد، فإنَّ الأولى: سريَّة زيد بن حارثة في جمادى الآخرة على رأس ثمانية وعشرين شهرًا من الهجرة، والثانية: خرج فيها بنفسه إلى بني فزارة، وهي على رأس تسعة وأربعين شهرًا من الهجرة، وهذه الثالثة: كانت في سنة ستٍّ»، وعند ابن سعد: «كانت لِقاح رسول الله صلعم بالغابة عشرين لَـِقحة، وكان أبو ذرٍّ فيها، فأغار عليهم عبد الرحمن بن عيينة»، وعند البلاذريِّ: «كان المغير يومئذٍ عبدُ الله بن عيينة بن حصن»، قال الواقديُّ: «والثبت عندنا: أنَّه ◙ أمَّر على هذه السريَّة سعيدَ بن زيد الأشهليَّ»، وكان المسلمون خمس مئة، ويقال: سبع مئة)، انتهى ما ذكره شيخنا، والله أعلم.
          قال بعض الحُفَّاظ: (وهذه الغزوة _يعني: غزوة الغابة_ كانت بعد الحديبية، وقد وهم فيها جماعة من أهل المغازي والسير، فذكروا أنَّها قبل الحديبية، والدليل على صحَّة ما قلناه: ما رواه الإمام أحمد والحسن بن سفيان عن أبي بكر ابن أبي شيبة: حدَّثنا هاشم بن القاسم: حدَّثنا عكرمة بن عمَّار، حدَّثني إياس بن سلمة ابن الأكوع، عن أبيه قال: «قدمتُ زمن الحديبية مع رسول الله صلعم، قال: فخرجت أنا ورَباح بفرسٍ أُنَدِّيهِ(3) مع الإبل، فلمَّا كان بغلس؛ أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلعم، فقتل راعيَها...»، وساق القصَّة؛ رواها مسلمٌ في «صحيحه» بطولها) وشرع يبرهن على صحَّة ما قاله، والله أعلم.


[1] كذا في (أ)، وفي «اليونينيَّة» و(ق): (القرد)، وفي هامش (ق): (ويقال لها: غزوة الغابة).
[2] زيد في (أ): (لمَّا)، ولعلَّ حذفها هو الصَّواب.
[3] في (أ): (أبديه)، والمثبت من مصدره، يقال: ندت الإبل؛ إذا رعت فيما بين النهل والعلل، تندو ندوًا، فهي نادية، وتندَّتْ مثلُه، وأنديتُها أنا وندَّيتُها تنديةً، انظر «الصحاح» مادَّة (ندا).