التلقيح لفهم قارئ الصحيح

المقدمة

          ♫
          الحمدُ لله الذي أيقظَ مِنْ خلْقِه مَنِ اصطفاه، وجَعَلَ هَمَّهُ فيما(1) يتعلَّقُ بآخرتِه لا دُنياه، وشغلَهُ بأمورِ مآلهِ واجتباه، وعظَّمَ قدرَهُ في الحالِ وفي المآل، وجعلَهُ من أبناءِ الآخرةِ ونِعْمَ الرجال، فهُمُ الأَعلَونَ أَقدارًا، المشغولونَ بعبادتهِ ليلًا ونهارًا، أسْبغَ اللهُ عليهم في الدنيا نعمتَه، وبلَّغَهم في الآخرةِ جنَّتَه، أحمدُه أبلغَ الحمدِ وأكملَه، وأتمَّهُ وأزكاهُ وأشملَه، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ المتوحِّدُ في ملكوتِه، المتفرِّدُ(2) بعظمتهِ وجَبَروتِه.
          وأَشهدُ أنَّ سيِّدنا محمَّدًا عبدُه المصطفى، ورسولُهُ ذُو الشرْعِ المقتفى صلعم، وزادَه فضْلًا وشرفًا لديه.
          أمَّا بعدُ:
          فلمَّا كان «صحيحُ البخاريِّ» يُقرأُ ببلدتنا كثيرًا، ويتطاولُ إليه مَن كان صَغيرًا أو كبيرًا، مِن غيرِ أن يكون من أهلِه، ولا عارفٍ بفضلِه ونُبْلِه، ولا يَعرفُ العربيَّةَ إلَّا باللِّجام والسَّرْج، ولا المؤنَّثَ مِنَ المُذَكَّرِ إلَّا بالفَرْج، ولا الفاعِلَ مِنَ المفعول، ولا مِنَ الرجالِ الفاضلَ مِنَ المَفضول، ولا يعرفُ اللُّغةَ ولا غَريبَ الحديث، ولا تصريفَ الفِعل ولا هو إليه بحثيث، ولا مراتبَ التعديلِ والتجريح، ولا يميِّزُ بين أهل التجريح والترجيح، ولا مَنْ تُرَدُّ روايتُه مِنَ المبتدِعة _وإذا ذُكِر له الفتوحُ تُرى نفسُه إليه متطلِّعة_ ولا المؤتلِفَ والمختلِفَ، والمتَّفِقَ والمفترِقَ، وما أشبههما من الأنواع، ولا معانيَ الحديث _ولكنَّه يمُدُّ عليه مِن قيلِه(3) أيَّ باع_ ولا المعلَّقَ من الموصَّلَ، ولا العلَّةَ القادحةَ من غيرِ المعلَّل، ولا العاليَ والنازِلَ إلَّا السماءَ والأرْض، مع جهلِه بالفَرْقِ بينَ العَرَضِ والعَرْض، ولا يُفرِّق بين التدليسِ والإرسالِ الخفيِّ، ولا يَفهمُ استدلالَ البخاريِّ(4) إلَّا بالظاهرِ الجليِّ، ويجهلُ المشهورَ والعزيزَ والغريب، وليس لأحدٍ مِن أهلِ الحديث بأَكِيلٍ(5) ولا شَرِّيبٍ، ولا هو عارفٌ بالشاذِّ من المتواتِر، وإذا ذاكرتَه فيه رأيتَه أعظمَ مُكابِر، ولا البَدَلِ من الموافقة والمساواة، ومَن سأله عن شيءٍ من ذلك ناواه، ولا الاعتبارِ والمتابعاتِ والشواهد، وليس لأحدٍ من أهل الفنِّ بمصاحبٍ ولا مقاعد، ولا هو عارفٌ بأنواع المدرَج، ولا المخرِّجِ من الجهابذة ولا ما أَخرج، ولا يَفهمُ ما المسانيد، ولا بمَن هو متكلَّمٌ فيه في الأسانيد، ولا المستدرَك من المستخرَجِ من المعجَم، وإذا ذاكرتَه في ذلك رأيتَه أبكَم، ولا هو عارفٌ ببقيَّةِ الأنواع، ويودُّ أنَّ ذِكرَه بالعِلم ظهرَ وشاع، وليس له بشيءٍ(6) من الكتب السِّتَّةِ ولا غيرِها سماع، ولا يَعرفُ يَكتبُ أسماءَ السامعين، ولا يَستخرجُ سندَ حديثٍ(7) بلا نِزاع، وليس عنده في هذا العلم ولا ورقةٌ، والشاطرُ منهم مَن يأخذُ بعضَ ذلك سرِقةً، ويتكبَّرُ أن يسألَ أهلَ العِلم وأربابَه، فرُبَّما سلَّط بعضَ الطلبةِ ليسألَ له عمَّا نزلَ به ونابَه، ولم يبقَ أحدٌ ببلدتنا ممَّن يقرؤه إلَّا ويتكلَّم عليه، وقد يزعُم أنَّ مرجعَ الناس في ذلك إليه، ويحكي الحكايات ليجمعَ بها النساءَ والعوامَّ الذين هم في معنى البهايم السَّوام؛ ليعظُمَ في نفوسهم بذلك، واللهُ يعلمُ أنَّه ليس بعارفٍ ولا سالك، وغرضُه بذلك الفتوح، فشخصُه يغدُو إليه ويَروح، وهو عارٍ مِنَ الفنِّ وأَدَوَاتِه، ولم يأخذْهُ عن أهلِه في جهْرِه ولا في خَلَواتِه، وهذا البلاءُ قد عَمَّ غالبَ البلاد، فيقرؤه وغيرُه مَن ليس له فيه طارفٌ ولا تِلاد، ولا شدَّ(8) فيه إلى الأمصارِ رَحْلَه، ولا حصَّل فيه فوايدَ سهلةً ولا جَزْلَة، ولا مَدَّ فيه باعَ الاستحضار، ولا دَأَبَ فيه بالليل ولا بالنهار، فرحِمَ اللهُ الأيمَّةَ الأعلام، الذين هم حُفَّاظُ الدين وأركان الإسلام، فإنَّ رَبْعَهم قد عفا، لكنَّ ذِكرَهم ما هفا، وحسبنا الله وكفى.
          وقد كنتُ قديمًا سنة ثلاثٍ وتسعين وسبع مئة كتبتُ عليه تعليقًا سمَّيتُه بـ«التلويح» لأهل ذلك الزمان، وما كنتُ وقفتُ من شرح شيخنا الآتي ذِكْرُه إلَّا مِن أوَّله إلى أوَّل (كتاب الجهاد)، ثمَّ وقفتُ على الباقي بعد سِنينَ متطاوِلة، وأعصارٍ متوالية، والآنَ قد زِدْتُهُ تراجمَ وفوايدَ وإيضاحًا وإعرابًا لقُرَّاء هذا الأوان، لا لأبناء ذلك الزمان، ولم أضعْه للحَبْرِ الكامل، ولا للعالِم الفاضل؛ وذلك لأنَّ كُتُبَ هذا العِلْم ببلدتنا قليلة، وأَنفُسَ أهلِه عنِ التطويل كَلِيلة، ولا يُعانونَ الفَتْشَ عن مكانِ الوقفِ والإرسال، ولا عدمَ اللُّقِيِّ، وذلك عندَهم في «البخاريِّ» و«مسلمٍ» كالمُحال، ولا يعرفونَ زياداتِ الثقات، وقد يظنُّونَ أنَّ زيادَتَها أو تركَها كالهفَوات(9)، وإنَّما يُعانونَ كلامَ بعضِ الأعاجم، على «المصابيح» و«المشارق»، ولا يعتَنون بالتراجم، مع أنَّ بضاعتَنا في العِلم والكُتُبِ مُزجاة، والاعترافَ بالتقصيرِ لصاحبِه نِعمةٌ(10) مُهداة، وفي المَثَل: (تسمعَُ بالمُعيديِّ خيرٌ من أنْ تَراه)، وإنَّما وضعتُه للمتوسِّط الناقِل، أو لمَن(11) لزمَهُ العِيُّ كباقِل.
          وقد سمَّيتُ هذا الثاني بـ:
          «التَّلْقيح لِفَهْمِ قارِئِ الصحيح»
          ليكونَ له عندَ قراءتِه عُمدة، ويَفزَعَ إليه عندَ الهَيْعَة كالعُدَّة.
          واعلم أنِّي إذا قلتُ: (قال شيخُنا الشَّارح) فمرادي العلَّامةُ الحافظ سِراجُ(12) الدين أبو حفص عُمر بن الإمام أبي الحَسَن عليٍّ الأنصاريُّ الوادي آشي، الشهير بابن المُلَقِّن، برَّد الله ثَراه، وجعل الجنَّةَ مرتَعَه ومثواه، وقد قرأتُ عليه من أوَّل شرحِه لهذا الكتاب إلى أوَّل (كتاب الجهاد)، ثمَّ ما في الكتاب قد كتبتُه، وإذا نقلتُ فيه شيئًا عن غيره من مشايخي(13)؛ ميَّزتُه وعيَّنتُه.
          وما نقلتُ فيه عنِ ابنِ المُنَيِّرِ فمن «تراجمِه» على هذا الكتاب، وفيها فوايدُ، / وقد دقَّقَ فيها تَبَعًا للبخاريِّ، ونحا فيها الصواب.
          وما نقلتُه عنِ الدِّمياطيِّ فمِن حواشيه على «البخاريِّ»، وهو الحافظ شرف الدين أبو محمَّد عبدُ المؤمن بن خلفٍ، وهو(14) شيخُ بعضِ مَن أخذتُ عنه مِنَ الشيوخ، وكان في القراءات والمغازي والأنساب وفنونِ هذا العلم مِن أهل الرُّسوخ.
          وما قلتُه في تراجم الرجال فمِن «تَذْهيب الحافظ الذَّهَبِيِّ» المختصَرِ من «تهذيب الكمال» للحافظ المِزِّيِّ، ولم أذكر فيه مِنَ اعتراضات الحافظ مُغلطاي على المِزِّيِّ إلَّا نادرًا، وفيما ذكرتُه كفايةٌ لمن لم يكن على كتب هذا النوع قادِرًا.
          ومَنْ قلتُ فيه: (له ترجمة في «الميزان») فإنَّه مُتكلَّمٌ فيه فيما ذَكره مؤرِّخُ الزمان الحافظ الذَّهَبيُّ في «ميزان الاعتدال في نقد الرجال»، اللَّهُمَّ إلَّا أن يكون ذَكَره تمييزًا، فإنِّي أنصُّ عليه، فإذا قلتُ: (وصحَّح عليه) فإنَّه يكونُ العملُ على توثيقه؛ كما شرطه هو في حاشية «الميزان» _وهو كتابٌ مُرْقِصٌ مُطْرِب_ تجاهَ ترجمةِ الشيعيِّ الجَلْدِ أَبانَ بنِ تَغْلِب.
          ومَن قلتُ فيه: (قال بعضُهم) فمُرادي(15) صاحبُنا الإمامُ بدرُ الدين القاهريُّ الزَّرْكشيُّ في كتابه «التنقيح»، وهو كتابٌ حسنٌ مَليح، غيرَ أنَّ فيه أشياءً غيرَ صحيحةٍ، وقد وقفتُ منه على نسخةٍ سَقيمةٍ غيرِ مُريحة.
          وما نقلتُه فيه عنِ ابن شيخنا البُلقينيِّ فمِن كتابه «المبهَمات»(16)، وهو قاضي المسلمين الإمام جلال الدين عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام سِراج الدين أبي حفص عُمر بن رِسلان بن نُصير رحمهما(17) الله، فقد كان للخيراتِ داعيًا، ولعلوم الشريعة واعيًا.
          ثمَّ اعلم أنَّ ما فيه عن حافظٍ عصريٍّ، أو عن بعض حفَّاظ العصر، أو نحو هاتين العبارتين؛ فهو مِن(18) قولِ حافظ هذا العصر العلَّامةِ قاضي المسلمين حافظِ الإسلام شهابِ الدين ابنِ حَجَرٍ، من كتابه الذي هو كالمدخَلِ إلى «شرح البخاريِّ» له، أعانَه الله على إكمال الشرح.
          واعلم أنَّ شيخَنا الشَّارح عزا غالبَ الآثارِ والمتابَعاتِ(19) والتعاليقِ التي فيه(20) _ولم يَبْقَ في هذا العصر _والله أعلم_ مَن يماثِلُه، بل ولا مَن يُدانيه_ ولم يقف عليه منها إلَّا(21) اليسير؛ كالفتيل والنقير والقِطْمير، ولم أتعرَّض أنا بالنسبة إلى ما ذَكره إلَّا قليلًا لذلك؛ لفايدةٍ قد تعرفُها فيما هنالك، فقد كفانا ذلك ومؤنتَه، جلَّلَه اللهُ رحمتَه ومغفرتَه، غيرَ أنِّي قد عزوتُ غالبَ ما فيه من المتابَعات(22) إلى ما هي فيه من الكتب السِّتَّة المشهورات، ولم أذكرْ ما فيه(23) [من غيرها إلَّا نادرًا في بعض الأوقات، وقد عزا(24) جُلَّ ذلك شيخنا](25) _كما تقدَّم(26)_ إلى ما هي فيه من المُصنَّفات، ولم أذكر في هذا إلَّا نَزْرًا من الأحكام، وقد ذكر منها(27) شيخنا شيئًا، وجُملتَها مِن قبلِه الأئمَّةُ الأعلام.
          ثمَّ اعلم أنَّ التراجمَ التي يترجمُ بها البخاريُّ ☼ معظمُها هو مذهبٌ يختارُه لنفْسِه، يرُدُّ بهِ على بعضِ العلماءِ، وإمَّا ردٌّ لحديثٍ ضعيفٍ قد ضعَّفهُ هو أو بعضُ الجهابذةِ النُّبَلاءِ، أو ردٌّ لحديثٍ ليس على شرطه، بحديثٍ يذكرُه في الترجمةِ على شرطِه وضبطه، وتارةً يرُدُّ(28) فِعلًا شايعًا من الناس لا أصلَ له، بترجمةٍ مع حديثٍ قد ساقه وأصَّلَه، وقد يكون لغير ذلك من المعاني التي يعرفُها مَن لكلامِه يُعاني، ولولا خوفُ الإطالةِ لذكرتُ ما وقع لي من ذلك، وغالبُه يُستخرجُ من كلام شيخنا الشَّارِح، فإنَّه سهَّلَ فيه المسالك.
          ولم أقصد في هذا التعليق جمْعَ الأقوالِ والرواياتِ، وما يُقالُ فيه من الإعراب؛ لأنَّ به يطولُ الكتاب، ويَخرجُ عنِ الاستحضار إذا لم يُدْأَبْ فيه باللَّيل والنهار.
          وها أنا أذكر قريبًا تنبيهًا يتعلَّق بتراجم المصنِّفينَ في الحديث ينفعُك في تراجم «البخاريِّ»؛ فإنَّها كالشيءِ العُجاب؛ فإنَّ فِقْهَهُ في تراجمِهِ كما عَمِلَ العلَّامةُ سيبويه في «الكتاب»، ومَن أراد الإمعانَ فعليه بالمطوَّلات، لا العُجالات والمختَصَرات.
          ثمَّ اعلم أنِّي لا أذكر الأوهام الواقعة قبل الوصول إلى «البخاريِّ»، وذلك فيما يخُصُّ الأسانيدَ وأسماءَ الرواة؛ فإنَّ الحملَ في ذلك على نَقَلَةِ الكتاب _وقد وقعَ مثله في «مسلم»_ وقد يَنْدُرُ مواضعُ يسيرةٌ من هذه الأوهام لهما، أو لِمَن فوقَهُما من الرواة، فأذكُرُ مِن ذلك ما يسَّرَه اللهُ تعالى(29) فيما يتعلَّق بـ«البخاريِّ»، وقد استدرك ذلك الحافظُ أبو الحسن عليُّ بنُ عُمرَ الدَّارَقُطنيُّ عليه، وكذا على الحافظِ مسلمٍ، ونبَّهَ على بعضِ هذه المواضعِ الحافظُ أبو مسعودٍ الدِّمشقيُّ وغيرُه من الأيمَّة، وقد ذكرَها الحافظُ أبو عليٍّ الغسَّانيُّ ببابٍ مفردٍ في كتابه(30) «تقييدِ المُهمَل»، فسارِعْ إليه، ولا تكُنْ ممَّن أهْمَل(31)؛ فقد كفاني ذلك ☼، ومَن أراد ذلك أو شيئًا منه فعليه بالكتاب المشار إليه.
          واللهَ أسألُ أن يجعلَ ذلك لوجهِهِ الكريم خالصًا، وأنْ يجعلَني في ظِلِّ عَرْشِه إذا(32) الظِّلُّ أضحى في القيامة قالصًا، إنَّه على كلِّ شيءٍ قدير، وبالإجابةِ جدير، وبجزاءِ كلِّ خيرٍ كفيل، وهو حسبُنا ونِعْمَ الوكيل.
          تنبيهٌ قد سبقت الإشارة إليه قريبًا: اعلم أنَّ التراجمَ التي يُترجِمُ بها أصحابُ التصانيف على الأحاديث إشارةٌ إلى المعاني المُستنبطة منها على ثلاثِ مراتبَ:
          منها: ما هو ظاهرٌ في الدلالةِ على المعنى المرادِ، مفيدٌ لفائدةٍ مطلوبة.
          ومنها: ما هو خفيُّ الدلالةِ على المعنى المراد، بعيدٌ مستكرَهٌ لا يتمشَّى إلَّا بتعسُّفٍ.
          ومنها: ما هو ظاهرُ الدلالة على المراد، إلَّا أنَّ فايدتَه قليلةٌ لا تكاد تُستحسَن، مثل ما ترجم الإمام البخاريُّ: (باب السؤالِ عند الجِمار)، وهذا القِسم _أعني ما يظهر منه قلَّةُ الفايدة_ يحسُنُ إذا وُجِد معنًى في ذلك المراد(33) يقتضي تخصيصَهُ بالذِّكر، ويكونُ عدمُ استحسانِه في بادئ الرأي لعدم الاطِّلاع على ذلك المعنى.
          فتارةً يكونُ سببُهُ الردَّ على مخالفٍ في المسألة لم تَشتَهِر(34) مقالتُه؛ مثل ما ترجم البخاريُّ على أنَّه يُقال: (ما صلَّينا)؛ فإنَّه نُقِل عن بعضِهم أنَّه كَرِهَ ذلك، قال شيخُنا الشَّارحُ: / (إن قيل: أيُّ كبيرِ أمرٍ تحت هذه الترجمة؟ فالجوابُ: نعم تحتَها عظيمٌ؛ وهو أنَّه ردَّ بها على مَن يقولُ «إذا سُئيـل(35): هل صلَّيتَ؟ وهو منتظِرُ الصلاةِ؛ فيُكره أن يقولَ: لم أُصَلِّ»، وهو قولُ إبراهيمَ النَّخَعيِّ، رواهُ عنه ابنُ أبي شيبةَ بإسنادِه إليه، والسُّنَّةُ ترُدُّ عليه، والله أعلم) انتهى.
          وتارةً يكونُ سببُهُ الردَّ على فِعْلٍ شايعٍ مِنَ الناس لا أصلَ له، فيذكرُ الحديثَ للردِّ على فِعْلِ ذلك الفعلِ؛ كما اشتهرَ بين الناس في هذا المكانِ التحرُّزُ عن قولهم: (ما صلَّينا) إن لم يصحَّ أنَّ أحدًا كرِهَه، وقد تقدَّم أنَّه كرِهَهُ إبراهيمُ النَّخَعيُّ.
          وتارةً يكونُ لمعنًى يخُصُّ الواقعةَ، لا يظهرُ لكثيرٍ من الناس في بادئ الرأي؛ مثلُ ما ترجم البخاريُّ على حديث أبي موسى الأشعريِّ قال: (أتيتُ النَّبيَّ صلعم وهو يَستاكُ بسِواكٍ، وطرفُ السِّواكِ على لسانِه...) الحديثَ: (بابُ استياكِ الإمامِ بحضرةِ رعيَّتِه)؛ فإنَّ الاستياكَ مِنْ أفعالِ البِذْلة والمَـهْنة، وملازمُه أيضًا مِن إخراجِ البُصاق وغيرِه ما لعلَّ بعضَ الناسِ يتوهَّمُ أنَّ ذلك يقتضي إخفاءَه وترْكَه بحضرةِ الرعيَّةِ، وقدِ اعتبرَ الفقهاءُ في مواضعَ كثيرةٍ هذا المعنى، ويسمُّونَه بحفظ المروءة، وقد أورد البخاريُّ هذا الحديث لبيان أنَّ الاستياك ليس من قَبيل ما يُطلب إخفاؤُه، ويتركُه الإمام بحضرةِ الرَّعايا؛ إدخالًا له في العباداتِ والقُرباتِ، والله أعلم.
          فينبغي لقارئِ هذا الكتابِ أو مُطالِعِه أن يغوصَ في فَهْمِ تراجمِه، فإنَّ بحرَ مؤلِّفِه عميق، ونظرَه في الشريعةِ دقيق.
          ثمَّ اعلم أيضًا أنَّه وقع في هذا الكتابِ أحاديثُ يسيرةٌ ذكرَها مكرَّرةً متنًا وإسنادًا، وقلَّما يتَّفِقُ له ذلك، وقد ذكرتُ ما تنبَّهْتُ(36) له في (كتاب الحجِّ)، وكان ينبغي لي أن أذكرَها في أوَّل مكانٍ وقعَ فيه حديثٌ مكرَّرٌ، ولكن كذا اتَّفقَ، وما ذكرتُه من ذلك الظاهرُ أنِّي لم أستوعِبْه، ولكن ينبغي لمَن عَثَرَ على شيءٍ من ذلك فليُلحِقْه في (الحجِّ) حيثُ ذكرتُه.
          تنبيه: اعلم أنَّ النُّسَخَ من هذا «الصحيحِ» تختلفُ، وسببُهُ ما رأيتُه عن أبي الوليد الباجيِّ في مقدِّمةِ كتابه في أسماء رجال البخاريِّ، قال: (أخبرني الحافظُ أبو ذرٍّ عبدُ بنُ أحمد الهَرَويُّ: حدَّثنا الحافظُ إبراهيمُ المُسْتملي قال: انتسختُ كتاب البخاريِّ من أصلِه الذي كان عند صاحبِه الفِرَبْرِيِّ، فرأيتُ فيه أشياء لم تتمَّ(37)، وأشياء مبيَّضةً؛ منها تراجم لم يُثبِت فيها شيئًا، ومنها أحاديث لم يترجِم لها، فأضفْنا بعضَ ذلك إلى بعضٍ).
          قال الباجيُّ: (وممَّا يدُلُّ على صِحَّةِ هذا القول [أنَّ] روايةَ المُسْتَمْلِي وروايةَ السَّرَخْسِيِّ وروايةَ أبي الهيثم الكُشْمِيهَنِيِّ وروايةَ أبي زيدٍ المَـِروَزِيِّ مختلفةٌ بالتقديم والتأخير، معَ أنَّهم انتسَخُوا مِن أصلٍ واحدٍ، وإنَّما ذلك بحسَب ما قَدَّرَ كلُّ واحدٍ منهم في ما كانَ في طُرَّةٍ أو رُقْعَةٍ مُضافةٍ أنَّه مِن موضعٍ ما، فأضافه(38) إليه، ويُبيِّنُ ذلك أنَّك تجدُ ترجمتينِ فأكثرَ مِن ذلِكَ متَّصلةً ليس(39) بينهُما أحاديثُ)، قال الباجيُّ: (وإنَّما أوردتُ هذا؛ لِمَا عُنيَ به أهلُ بلدِنا مِن طلبِ معنًى يَجمَعُ(40) بين الترجمةِ والحديثِ الذي يليها، ويكلِّفُهم في ذلك تعسُّفُ التأويل ممَّا(41) لا يَسوغ) انتهى.
          وقد تقدَّم أنَّ ابن المُنَيِّر تكلَّم في «تراجمه» على الجمع في ذلك، واللهُ الموفِّقُ للصواب، وإليه المرجِع والمآب(42).
          وهذا حينُ الشروعِ في الكلامِ على «الصحيح»، فأقولُ(43): قال الإمامُ البخاريُّ [رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه](44)


[1] وينسب لعمر ابن أبي ربيعة، وليس في «ديوانه»، وهو في «شرح الكافية الشافية» ░1/518▒ ░262▒، «مغني اللبيب» (ص55▒ ░48▒، «همع الهوامع» ░1/134▒، «شرح الأشموني» ░1/402▒ ░254▒، «خزانة الأدب» ░4/167▒ ░10/242▒، ويُستشهد به على نصب الاسم والخبر معًا بـ(إنَّ) وأخواتها، وحُكي أنَّه لغةُ بعض العرب، ونُسب ذلك إلى بني تميم عامةً أو قومِ رؤبةَ خاصةً، وأجازه ابنُ سلَّام وابن الطراوة وابن سِيده، وأجازه الفرَّاء في (ليت) خاصَّةً، ونقل ابن أصبغ عنه جوازه في (لعلَّ) أيضًا، وجمهور النُّحاة لا يُسَلِّمون بذلك، وعندهم أنَّ المنصوبَ الثاني (أُسدًا) منصوبٌ بعاملٍ محذوف، وذلك العاملُ المحذوفُ هو خبر (إنَّ)، والتقدير: إنَّ حُرَّاسَنا يُشْبِهون أُسدًا، أو أنَّه حالٌ والخبرُ محذوفٌ؛ أي: تلقاهم أُسدًا، أو خبرُ (كان) محذوفةً؛ أي: كانوا أُسدًا، وانظر «الجنى الداني» (ص393-394▒، وما سلف من المصادر.
[2] قال أبو زكريَّا الأنصاريُّ في «منحة الباري» ░2/44▒: («ثُمَّ» فيه للترتيب الإخباريِّ لا للترتيب الزمانيِّ؛ لاتِّفاق الروايات على أنَّ المرور بعيسى كان قبل المرور بموسى).
[3] (من قيله): ليست في (ب).
[4] وقوله هذا ذكره ابن الأثير في «أسد الغابة» في (النضر بن الحارث) ░4/521▒ ░5212▒، وقد قال الحافظ في «الإصابة» في (النضر بن الحارث) ░3/555▒ ░8711▒: (وقد أنكر ابن الأثير على من ترجم للنضر بن الحارث وقال: «النضر قتل كافرًا بإجماع أهل السير»، وتُعُقِّب لاحتمال أن يكون له أخ سُمِّي باسمه، أو أحدهما بزيادة تحتانيَّة...، وممَّا يَتَمسَّك به مَن ذكره: أنَّ موسى بن عقبة ذكر أنَّ النضير بن الحارث _بزيادة التحتانيَّة_ من مهاجرة الحبشة، وصاحب الترجمة ذكروا أنَّه من مسلمة الفتح...، وقد ذكره البلاذُريُّ عن الهيثم بن عديٍّ قال: هاجر النضير بن الحارث إلى الحبشة، ثم قدم مكَّة فارتدَّ، ثم أسلم يوم الفتح أو بعده، واستشهد باليرموك، فعلى هذا يحصل الجمع وأنَّه واحدٌ، والله أعلم)، وانظر ترجمة النضير بن الحارث في «الاستيعاب» (ص730▒ ░2627▒، «أسد الغابة» ░4/526▒ ░5222▒، و«الإصابة» ░3/557▒ ░8720▒.
[5] في (أ) و(ب): (بقعيدٍ)، والمثبت من حاشية (أ).
[6] في (ب): (شيء).
[7] وقال الحافظ في «فتح الباري» ░7/187▒: (و«ما»: موصولةٌ، وبعضُ الصِّلةِ محذوفٌ؛ والتقديرُ: كنتِ في أهلك؛ أي: الذي أنتِ فيه الآن كنتِ في الحياة مثلَه؛ لأنَّهم كانوا لا يؤمنون بالبعث، لكن كانوا يعتقدون أنَّ الروحَ إذا خرجت تصيرُ طيرًا، فإن كان مِن أهل الخير؛ كان رُوحُه مِن صالِحي الطير، وإلَّا؛ فبالعكس، ويَحتملُ أنْ يكون قولُهم هذا دعاءً للميِّت، ويَحتمل أنْ تكونَ «ما» نافيةً، ولفظُ «مرَّتين» مِن تمامِ الكلامِ؛ أي: لا تكوني في أهلكِ مرَّتين؛ بل المرَّة الواحدة التي كنت فيهم انقضت، ولستِ بعائدةٍ إليهم مرَّةً أُخرى، ويَحتملُ أنْ تكونَ «ما» استفهاميَّةً؛ أي: كنتِ في أهلك شريفةً، فأيُّ شيءٍ أنتِ الآن؟ يقولون ذلك حزنًا وتأسُّفًا عليه).
[8] في (ب): (شذ).
[9] في (ب): (هفوات).
[10] (نعمة): ليست في (ب).
[11] في (ب): (ولمن).
[12] في (ب): (سراج الملَّة والدين).
[13] في (ب): (مشايخ).
[14] (وهو): ليست في (ب).
[15] زيد في (ب): (منه).
[16] وهو المسمى: «الإفهام لما في البخاري من الإبهام»، طبع مؤخَّرًا، وفي (ب): (المهمات)، وهو تحريف.
[17] في (ب): (رحمه).
[18] (من): ليست في (ب).
[19] في (ب): (والمبايعات).
[20] في (ب): (فيها).
[21] زيد في (ب): (هنالك).
[22] (من المتابعات): ليست في (ب).
[23] (ما فيه): ليست في (ب).
[24] في (ب): (عززنا).
[25] وانظر «ديوان الهذليين» ░25▒.
[26] (كما تقدم): ليست في (ب).
[27] في (ب): (فيه).
[28] في (ب): (ترد).
[29] زيد في (ب): (وقد وقع).
[30] (كتابه): ليست في (ب).
[31] في (ب): (يهمل).
[32] في (ب): (و).
[33] (المراد): ليست في (ب).
[34] في (ب): (يشتهر).
[35] (إذا سئل): ليست في (ب).
[36] في (ب): (نبهت).
[37] في (ب): (يتم).
[38] في (أ) و(ب): (أضافه)، والمثبت من مصدره.
[39] في (ب): (وليس).
[40] في (ب): (بجمع).
[41] في (ب): (فيما).
[42] في هامش (أ): (بلغ فيه المحدِّث الفاضل الرَّحَّال نجم الدين محمَّد المدعوُّ عمر بن الشيخ الإمام الفاضل تقيِّ الدين محمَّد بن فهد الهاشميُّ المكِّيُّ قراءةً عليَّ [مِن أوَّله] «باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلعم»، وذلك يوم الأحد سابع صفر المبارك من سنة [خمس] وثلاثين وثماني مئة بالمدرسة الشرَفيَّة بحلب، وناولتُه هذا المجلد، وآخرُه أول مناقب الصحابة ♥، وأذنتُ للمشار إليه في روايةِ جميع الكتاب عنِّي؛ قاله مؤلِّفُه إبراهيمُ المحدِّث، وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم، ثم ناولتُه الجزءَ الثاني في التاريخِ والمكانِ، فكَمُلَ له روايةُ جميعِ الكتابِ، كتبه مؤلِّفُه إبراهيم). وما بين المعقوفين خرم من الأصل، واستدركناه تقديراً.
[43] في (ب): (وأقول).
[44] ما بين معقوفين مثبت من (ب).